في نهاية حرب 2014 الإسرائيلية على غزة, قامت قناة الجزيرة القطرية مشكورة باستضافتي في برنامج المذيع اللامع على الظفيري في حلقة عن المقاطعة الأكاديمية و الاقتصادية لإسرائيل كوني متطوعاً في حركة البي دي أس و عضواً في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية و الثقافية لإسرائيل. و كان من الواضح رغبة المذيع في الحصول على معلومات أكثر عن الحركة في ذلك الوقت حيث كانت تكتسب زخماً ملفتاً للنظر كونها أهم و أنجع أدوات التضامن مع الشعب الفلسطيني, وكون الجرائم الإسرائيلية ضد مدنيي القطاع قد لامست الإبادة الجماعية مما تطلب تدخلاً أممياً فاعلاً لم يكن متوفراً على المستوى الرسمي مما أضطر المستوى الشعبي للاحتجاج من خلال تسيير المسيرات و المظاهرات الحاشدة ضد الجرائم الإسرائيلية. و هذا ما لفت الأنظار وقتها كون هذا الاحتجاجات جاءت, و بشكل واضح، استجابة لنداء اللجنة الوطنية للمقاطعة و كل قطاعات المجتمع المدني في قطاع غزة الصامد.
وفي آخر البرنامج أبدى السيد علي الظفيري تساؤلاً مهماً، استنكارياً نوعاً ما، عن استضافة سياسيين إسرائيليين، ومنهم مجرمي حرب بامتياز، على شاشة قناة الجزيرة. و كم كنا نأمل وقتها أن تقوم القناة القطرية فعلاً بمراجعة سياستها بذلك الخصوص, ليس فقط لكون ذلك يأتي بشكل يتعارض مع الإجماع العربي و يقوض معايير المقاطعة العربية، بل لأن الكثيرين ممن تستضيفهم الجزيرة هم, كما أسلفنا, مجرمو حرب يتبنون أيديولوجيا إقصائية, عنصرية تدعو لإبادة السكان الأصليين. بل إن أحد الضيوف كان قد قام بالدعوة على محطة إذاعية إسرائيلية لاغتصاب أمهات و أخوات و بنات المقاومين الفلسطينيين. وبالتالي فإن هكذا استضافات تخالف المعايير الأخلاقية المتفق عليها في العمل الصحافي بشكل عام.
كانت هذا الملحوظة ضرورية لمناقشة مضمون المقالة التي قام أ. وليد العمري, مدير فضائية الجزيرة في فلسطين, بنشرها في صحيفة هآرتس الإسرائيلية دفاعاً عن القناة في وجه التهديدات الإسرائيلية بإغلاقها.
و يبدأ العمري مقالته بالتفاخر أنه “حتى ظهور قناة الجزيرة في العام 1996 لم ير معظم الجمهور العربي منذ ولادتهم إسرائيلي واحد على شاشة تلفاز″ حتى قامت الجزيرة و “بضربة واحدة”، حسب قول العمري، أن تكسر هذه المقاطعة الإعلامية التي ساهمت في صياغة وعي جيل رافض للقبول “بطبيعة” نظام الاحتلال و الأبارثهيد و الاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين. و لكن العمري يؤمن أن “الجزيرة استطاعت أن تأتي بآراء أخرى ومتنوعة لعرب وإسرائيليين وامريكان ومن العالم اجمع.” أي أن الصوت الإسرائيلي كالصوت العربي والأمريكي! و لكسب تعاطف القارئ، الإسرائيلي طبعاً، يقوم العمري بالتباهي بأن “الأنظمة العربية نظرت (للجزيرة) على أنها أداة بيد إسرائيل بسبب استضافة إسرائيليين واسماع وجهة نظرهم.” و ما هذه إلا وجهة نظر استشراق ذاتي تبعد الكاتب عن الجمهور العربي الذي أبدى امتعاضاً شديداً من هكذا استضافات.
ثم يقوم العمري بتكرار اللازمة التي أدمن عليها المطبعون من خلال اعتبار أن هناك “وجهتي نظر” و أن الجزيرة “لا تخشى عرضهما حتى لو كانت اراء فيها تحدي ومقلقة لجهات وأحزاب..” و الحقيقة أنه لا يوجد وجهتا نظر فيما يخص القضية الفلسطينية, كما لم يكن هناك و جهتي نظر فيما يخض الأبارثهيد و الشعب الأفريقي في جنوب أفريقيا, و النازية الألمانية و اليهود…إلخ فهل تؤيد الجزيرة استضافة مجرمي حرب عنصريين يمثلون نظام الأبارثهيد البائد؟ أو أحد ضباط النازية على صعيد المثال, كون ذلك يمثل “تعدد في وجهات النظر؟!”
ثم, و بلغة تتميز بالاستجداء و الاستعطاف, يقوم بالتذكير أن الجزيرة” و منذ تأسيسها قدمت … لإسرائيل قناة نادرة لعرض وجهة نظرها ورؤيتها أمام العالم العربي والإسلامي وإقامة حوار معها…حتى قيام الجزيرة كانت إسرائيل احدى الدول المعزولة في الشرق الأوسط وها هي في هذه الأيام يهدد نتنياهو بإغلاقها ومعاقبتها وتغير القوانين لإسكاتنا.” بمعنى أن ما قامت به القناة هو كسر العزلة التي كانت مفروضة على إسرائيل, تلك العزلة التي تشكو منها هذه الأيام بسبب النجاحات المتراكمة لحركة مقاطعة إسرائيل و عدم الاستثمار بها و فرض عقوبات عليها (بي دي أس)، نفس العزلة التي أدت لإنهاء نظام الأبارثهيد البغيض. فهل هذا فعلاً ما تريده قناة الجزيرة الموقرة؟!
من المحزن أن يقوم صحفي عربي مخضرم بالمساواة بين الضحية و الجلاد و اعتبار انتقاد العرب للجزيرة بسبب استضافتها ضيوف إسرائيليين شبيه بانتقاد الإسرائيليين لها “لأنها تدعم العرب!” إن محاولة استعطاف القارئ “الليبرالي” الإسرائيلي من خلال مخاطبته من صحيفة معروفة “بليبراليتها” و محاولة كسب وده ضد الخطوات التي تنوي حكومة اليمين اتخاذها ضد الجزيرة لا تنم إلا عن عقلية لا ترى في التطبيع مشكلة على الإطلاق, و لا ترى في إنجازات حركة المقاطعة ذات القيادة الفلسطينية أهمية بمكان. إن صميم حركة المقاطعة العالمية هو أنها تأتي استجابة لنداء المُضطَهَد الفلسطيني الى المجتمع المدني العالمي بمقاطعة اسرائيل و عدم الاستثمار فيها و فرض عقوبات عليها. و تأتي كل الانجازات المتراكمة في عزل إسرائيل اقتصاديا و ثقافيا و إعلامياً, في هذا السياق. فهل نحن بصدد حالة من الاستشراق الذاتي يعبر عن عدم قدرة العربي، الفلسطيني في هذه الحالة، على الاقتناع بأهمية و نجاعة حركة يقودها أبناء جلدته؟ لماذا لا تقوم قناة الجزيرة باستشارة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية و الثقافية لإسرائيل لاستيضاح الموقف الفلسطيني بخصوص استضافة مجرمي حرب اسرائيليين؟ و إن كان ذلك يقوض معايير المقاطعة التي يتمحور حولها شبه إجماع فلسطيني؟ ناهيك عن التساؤل المشروع عن الكتابة في صحيفة صهيونية, مع علمنا بارتباط الإعلام الإسرائيلي بالمؤسسات الأمنية القمعية!