حزب “تواصل” واعتلال آلات التقييم/ م. محفوظ أحمد
أخيرا انفض جمع التواصليين الكبير بعد انتهاء مؤتمرهم الثالث، كما كان مرسوما. وظهر “السر” الغيْبي الذي كذَّب المتنبئين وأعيا المنجمين، وهو مَن سيكون رئيس الحزب؟!
والآن سيتم الاشتغال بالرئيس الجديد، والبحث عن “مؤامرات” وراء اختياره الذي كان تحصيل حاصل لغيره!
نال هذا المؤتمر ما يستحق من الاهتمام؛ وقد أثلج صدور قوم، وأوغر صدور آخرين، وحير الكثيرين…
التواصليون، وإن كانوا ينتمون للإسلام السياسي، والإخواني خاصة، فهم أولا وأخيرا مواطنون موريتانيون كاملة أهليتهم على الأقل.
وحزب “تواصل” وإن كان “إسلاميا” فهو حزب سياسي كامل الاعتراف القانوني والنظام المؤسساتي والانضباط الوطني؛ يدعو للديمقراطية والوحدة؛ لا يدعي احتكار الدين، ولا يكفر أحدا ولا يدعو لنصب محاكم التأديب، ولا يفتش ضمائر الناس قبل انتمائهم إليه، ولا ينتزع منهم دينهم ووطنيتهم إذا غادروه…
بل إن حزب “تواصل” أيضا لا يضم كل المنتمين للإسلام السياسي، ولا حتى كل “الإخوانيين”؛ فمن هؤلاء من ينتمي لأحزاب معارضة أخرى، ومنهم من يتقدم صفوف الحزب الحاكم، ومنهم ماكثون بين الطرفين، وكثير منهم لا ينتمون لأي حزب سياسي على الإطلاق!
*
ثلة من الكتاب والمدونين ضربوا يمينا وشمالا، و”جلّجَ” بعضَهم هذا لانتظام والتألق والانسجام، رغم حجم الإقبال وحجم الانتماء؛ وساءهم نجاح المؤتمر في الانعقاد في موعده وحسب برنامجه، وتدوين وإقرار نصوصه، والتبادل “السلمي” على قيادته…
وبعض أنصار الحزب من الكتاب والمدونين أيضا جاوزوا الحد الآخر في تمجيد وتقديس الحزب وحمل أهله إلى مراتب الصديقين!
وإنما هو حزب سياسي وطني يخطئ ويصيب؛ ولكنه حزب أفكار قوية وأهداف مصيبة، يَنصَبُّ الخطأ والصواب على تصرفات المسيرين له والمنتمين إليه، وطبيعة وسائلهم وحسن أو سوء تدبيرهم.
وإذا قررنا مع البعض أن حزب “تواصل” هو حزب “إيديولوجي” له أهداف “خفية” (لا يعلمها إلا هم!) وما نهْجُه إلا “الميكافيلية”؛ وبالتالي فهو مع المعارضة تارة ومع السلطة تارة، ولا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء… تارة أخرى! فعلينا أن نعترف له ببعض الظواهر، حتى لو أسأنا الظن بالباطن؛ فإن القاعدة أن تُحمل الأمور ابتداء على ظواهرها.
وما يحدث لدى شانئي التيارات السياسية الإسلامية عموما هو أنهم يحاكمون “الحزب الإسلامي” ويصورونه بنفس الأحكام والأفكار التي كانت موجودة قبل وجوده، بل كانت من أجل منع وجوده! وهي أفكار “إرهابية” اتَّحَدَت على نسجِها أنظمةُ الاستبداد ومُظاهريها من التيارات العلمانية واليسارية، على مدى عقود من القمع والتهميش والمنع… لحرمان الإسلاميين خاصة من حقوقهم السياسية كمواطنين قبل كل شيء.
ومن الواضح أن كثيرا من الخصوم المغرِضين، والمغفَّلين المقلِّدِين، ما يزالون يَنتَضون حسامَ تلك الاتهامات “المتَخيَّلة” أو يخضعون لرواسبها، في نظرتهم ومواقفهم من “حزب الإسلاميين” بعد بضع عشرة سنة من ترخيصه وعَمَله على طول البلاد وعرضها؛ كما لو كان حزبا خياليا أو افتراضيا محذورا!
وأعتقد أن هذا في الواقع يضر أولئك المخاصِمين، أكثر من ضرره على الحزب، الذي يبدو مسالما جدا وحليما عن أكثر مستهدِفيه.
فالحكمة أن يعمل “الخصم” على منافسة هذا الكيان السياسي، والتفوق عليه بالطرق السياسية والفكرية العملية؛ وهو أمر أخلاقي وليس عسيرا بحكم نواقص الحزب الكثيرة وحداثة تجربته؛ ثم يُترك للزمن وحظوظ السباق التي ستحكم له أو عليه في الواقع، لا في المتخيل أو المُتمَنَّى!
وتسهيلا لذلك ننظر لنرى أنَّ من أهم ميزات حزب “تواصل” الموريتاني، وأسباب نجاحه النسبي ما يلي:
أولا: حزب “تواصل”، من الناحية الأيديولوجية على الأقل، ليس حزب أشخاص ولا قبائل ولا جهات ولا طوائف أو مذاهب معينة؛ ففيه من كل هؤلاء القدر الموضوعي في كل الحياة السياسية الوطنية؛ بواقعها وتفاوتها الذي قد يكون مختلا ودون مستوى المساواة والنسب المثالية! لكن الحزب يظل من أكثر التشكيلات السياسية انتشارا أفقيا وتنوعا شعبيا، سواء بين الطبقات الفقيرة أو تلك الميسورة، وتلك الأمية وتلك المتعلمة…
ثانيا: تأكيد هذا الحزب، نظريا وعمليا، على النهج الديمقراطي، ورفضه للديكتاتورية والتدجيل السياسي و”التمثيل” الشكلي لطلائها على الزغب! وتمسكه المبدئي بالتداول السلمي على السلطة في الجمهورية، وتعاونه مع القوى الديمقراطية في هذا الميدان النضالي القاحل.
ثالثا: حزب “تواصل” ليس “تنظيما سريا” ـ كما يفهم البعض ـ ولا حزب انتفاع يحضر بوصل ترخيص… بل هو أحد الأحزاب السياسية القليلة التي لها برامج عمل ورؤى ومواثيق مكتوبة في نصوص مجاز أكثرها بالتصويت، معروضة ومنشورة.
رابعا: حزب “تواصل” حزب يركز على خدمة الشعب والتقرب من طبقاته المحرومة، بينما يركز كثير من الأحزاب والتيارات الأخرى على التقرب إلى السلطة وخدمة أذرعها النافذة، بل فيها من يشجع ويزين منهج الاستبداد!
خامسا: يظل حزب “تواصل” الحزب الأكثر ارتباطا وتجسيدا للأصالة والذاكرة الموريتانية، لتعلق منطلقاته وأهدافه بالعنصر الجامع لهذا الشعب والثابت الحيوي في ضميره الفردي والجمعي وهو الدين الإسلامي.
والحقيقة أن التدين أو الإسلامية لا تختص بهذا الحزب؛ بل أجزم أن بين خصومه وغيرهم مَن هم “أزين دينا” وأكثر إيمانا وعبادة، مِن بعض مَن ينتمون له، من قمته إلى قاعدته!
إلا أن هؤلاء المتدينين حين يجسدون الدين في مناشطهم ويجعلونه منهجا لها وممارسة سياسية وحياتية… سيجدون أنفسهم “تواصليين”، حقيقة أو بقوة الانتماء إلى الإسلام السياسي الذي كانوا يحذرونه!!
86 تعليقات