خارج النضال المطلبي المشروع؛ لم أفهم بالضبط لماذا هتف (بعض) المهرّجون في الشارع الإيراني بـ “الشاه”، وانتقدوا في شعاراتهم الرخيصة دعم إيران للمقاومة! وربما يتطوّر الأمر لاحقاً بالعدوى لانتقاد موقفها من “إسرائيل”، لا سيما أنّ ورثة آذار نفيسي وأشباهها قد يستحسنون الثناء الإسرائيلي والأميركي على “ثورتهم”، إضافةً إلى أيتام ثوّار الناتو ومجلس إسطنبول!
لطالما كنت أعتقد بوجود قومية ما بعد فارسيّة داخل الوطنية الإيرانيّة؛ شوفينيّة قائمة على الاعتزاز بالعرق أكثر من الدين والطائفة، مشكلتها الجوار العربي، ولو كانت على نطاقٍ ضيق. وقوميّة ما بعد عثمانيّة مثيلة في الأسباب والمرجعيّة وبذات المنطق الأخلاقوي تماماً. من مثّل هذه القوميّة ما بعد العثمانيّة، هم أركان الانقلاب على حكم أردوغان بغضّ النظر عن سياسته، مؤدّها، تركيا ما بعد عثمانيّة منفتحة على التحديث الأوربي، وليست منطويّة على عمقٍ إسلاموي ذي المنحى العروبي لناحية الثقافة وليس الإيديولوجيا.
اليوم في إيران قامَ المتظاهرون بحرق العلم الإيراني وحرق الممتلكات العمومية، وأشادوا بحكم الشاه البشع، يعيشون نفس المرجعيّة ما بعد الفارسيّة وبتأصيل غربوي لناحية الإيديولوجيا أكثر منه إلى الثقافة، فهم فارسيون ما بعد الإيرانيّة، يعتقدون بأنّ العقل الجمعي الإيراني هو فارسيٌّ ذو نزعة غرباويّة، غير منطوٍ بالقسر على محتوى إسلاموي عروبي (التشيّع الإيراني جاء من لبنان/ العربية. كانت إيران سنية على المذهب الشافعي وقليل من الأحناف، مع قلّة شيعيّة (تركّزت في قاشان، سبزوان، قم)، ثم جاء إسماعيل الصفوي مؤسّس الدولة الصفويّة، وعمدَ إلى استيراد علماء عرب من جبل عامل، وأعلن المذهب الشيعي الإثنيّ عشري مذهباً عاماً للبلد.).
لذلك غير مستبعدٍ أن يحمل المتظاهرون شعارات عنصريّة معادية للعرب كجيران غير مكافئين للعقل الفارسي!
تماماً كما يتشاوف الهندي على الباكستاني، بحجة الثقافة غير المعقّمة، وذات البعد “العربإسلاموي”، وبحجة العقل الهندي المكتفي بذاتهِ ثقافةً، في مواجهة موازيّة غير صداميّة مع عقلٍ باكستاني/ طبيعي منقوص الكفاية.
ليس هنالك مشكلة كبرى مع هذه الرغبة، لكنّها ناجمة عن بعد عنصري إلغائي، يعتقد بكمال الصفة على رفات الرديف، أيّ أنّ الثقافة اللاحقة للثقافة الأصيلة، هو شكلٌ من الإماتةِ الأخلاقيّة للأمميّة الحضاريّة، وأكثر تماساً بالعقل الهووي بتعبير المفكر التونسي فتحي المسكيني.
هذا الغزو الهووي، رافض حتى للزيارة الثقافيّة، وغير متقبّلٍ لامتزاج الثقافات المختلفة، ما لم تكن “خطرة” بالمعنى السوسيولوجي على الثقافة الوطنيّة ذات المحتوى الثقافوي..
أصدر المفكر الفرنسي (يهودي الأصل، صهيوني الثقافة) آلان فينكلكروتAlain Finkielkraut كتاباً أثار ضجّة كبرى في فرنسا عنوانه L’Identité malheureuse (الهوية التعيسة)، استشّعر فيه الخطر الثقافي الخارجي على المحتوى الثقافي الفرنسي المكتفي بذاتهِ، أيّ أنّه رأى بأنّ الثقافة توازي مفهوم نهاية التاريخ في إطاره الوطني، فلم تعد فرنسا ذات الإرث الثقافي الكبير، غير مستعدّة لتلقي الثقافة المهاجرة، حتى لو ادّعت “تأوّربها” بالرواية الفرنسيّة حصراً.
وتلقّى نقداً كبيراً من قبل مفكرين كبار، حتى من أولئك الذين يجمعون بين الانفتاح الثقافي العالمي ويعتصمون بالهوويّة الثقافيّة الفرنسيّة، مثل ميشال أونفراي، ومن قِبل مفكرين تجاوزوا الحدّ الأدنى للثقافة الوطنيّة من أمثال المفكر آلان باديو.
ما يجري في إيران، أنّ أغلب المتظاهرين من أحفاد الفكرة الهيجليّة في نهاية التاريخ على النموذج الألماني، كذا الأمر بالتداعي؛ يفرج عن نهاية النموذج الفارسي على نفسه أيضاً. ومن سخرية الصدف أن هيجل اعترف بالثقافة الفارسيّة فقط في الجغرافيا الشرقيّة.
ومن مضحكاتٍ الزمن السياسي المتأخر، أنّ بعض العرب يعتقدون بأنّ التمرّد الإيراني الحالي، بغضّ النظر عن مشروعيّة المطالب الاقتصاديّة، التي أقرّت بها الحكومة الإيرانيّة نفسها، هو ثورة كاملة، في حين أن أكاديمياً إيرانياً محترماً في جامعة كولومبيا، ومعارضاً تقليدياً للحكم الديني، اسمه حميد دباشي إلى اللحظة أحجمَ عن وصفها بـ “الثورة”.
ضيف حمزة ضيف -كاتب جزائري والمقال لرأي اليوم