“الحسانية” غير مشتقة من العربية؟
أعجبتني محاضرتا الباحثين الأستاذ إسماعيل محمد يحظيه ويحي البراء وتدخلات الرئيس والمشاركين والإدارة الموفقة للجلسة من طرف أستاذنا المتمكن د. محمد الأمين الناتي،
لكنني لم أستوعب فكرة أن الحسانية غير اشتقاقية وبالتالي تختلف أصلا عن اللغة العربية، إذ هي مشجرة، حسب رأي أستاذنا الجليل د. يحي البراء، ولو كنت حاضرا لاستشكلت ملاحظته حتى يتبين لي الأمر أكثر، لأن الاستنتاج يحتاج إلى توضيح أكثر، على الأقل بالنسبة لي، وفي حدود فهمي القاصر، دون شك.
لتوضيح أستشكالي سأثير بعض المسائل التي أثارها في ذهني حكم أستاذنا البراء، من بينها على سبيل المثال:
1-أنني أتصور أن الاشتقاق أكبر وأصغر، حال يطرأ على مجموعة أصوات، يعبر عنها بتقطيع فيزيائي للهواء، وتلاعب بمجموعة الأعضاء المشكلة لجهاز النطق، على محور حركة الهواء، حبسا وإطلاقا، وتوجيها، وضبطا، وجهرا، وهمسا.. إلى آخره، مما هو معروف… و تعتبر هذه الوحدات معجميا مادة مشكلة من أصوات قاعدية هي الأحرف، وأصوات تحليلية ضمن حيز الصوت القاعدي، وهي الحركات والسكون على نفس الحرف، ومن هذه أصوات تحليلية مفردة (فتحة، ضمة، وكسر، إضافة إلى الجزمة)، ومنها أصوات تحليلية مكررة: (فتحتان ضمتان، وكسرتان، تتفشى في تنوين)، وتستثنى الجزمة، لاتصافها بالانحباس على وجه واحد.
هذا إضافة إلى المدات والشدة (التضعيف)، فالمد تكرار مفتوح، إذ أن آ=أ+أ فأكثر.
يتولد من تفاعل الأصوات القاعدية والأصوات التحليلية ما يدعى: ألفاظا من باب إخراجها شفهيا، وكلمات محسوسة، باعتبارها حزمة أحرف مرتبة ترتيبا ما، يدل دلالة كفاية على متصور ما.
هذه الكلمات نظر إليها اللغويون العرب (باعتبار أن الحديث عن اللغة العربية)
إما كمادة، قابلة للمعاملة التصريفية (مشتقة)، وإما كلمة غير قابلة للمعاملة (جامدة) تقبل المزج واللصق..
2-المادة تصرف إلى أوضاع يعبر كل منها عن دال ذي مدلول متميز قليلا أوكثيرا عن غيره من الدوال ومدلولاتها.
واللغة العربية حسب العملية الإحصائية للخليل بن أحمد الفراهيدي: منها الممكن المستعمل، ومنها الممكن المهمل. ولذا أهمل في كتاب العين عشرات الآلاف من الأبنية الممكنة التي لم يستعملها الناطقون بالعربية. وبذا فليس كل تركيب ممكن للأصوات القاعدية والتحليلية في العربية من كلام العرب.
إن مفهوم المادة مصطلح دقيق إن أخذنا المادة (اسم الفاعل) بمعنى الامتداد الممكن للكلمات المستعملة في العربية على نحو إشعاعي، اشتقاقية عمودي. فالمادة قابلة للتصرف حسب قصد القائل في إسقاط الحال المتصور في ذهنه على موصوف يراه كذلك، على الحقيقة، أو توهما منه (تصوره في حالة وجود خارج الزمن: مصدر، عند البصريين مثلا) أوفى الزمن اللغوي (فعل، عند المدارس اللغَوية).. إلى آخر الأوضاع المستعملة لنفس المادة.
أن الاشتقاق إذن حالة قابلية يتصف بها صنف من الكلام، يتدرج من: (أعرق) من الذهاب نحو العراق، و(أنجد) من لفظ نجد، وكما يشتاق الفعل وتوابعها من بعض أسماء الأماكن، وصعودا في الاشتقاق إلى (فعل) بكل تنويعها في الأصوات التحليلية المركبة على الأصوات القاعدية للحروف، أو من فصيلة المشتقات الأخرى الزائدة على (فعل) .
فهل الحسانية غير متصفة بهذه الصفات على الأقل في المواد ذات الأصل العربي الفصيح، على كثرتها في معجم الحسانية، أقصد بمعنى كلمة ذات امتداد عمودي في الاشتقاق الأصغر، وإشعاعي في الاشتقاق الأكبر ، ولا أعني من ناحية أواخر الكلم التي تخص النحو الحساني؟
3-لو نظرنا مثلا في مادة (عرف بفتح فسكون، فضمة دالة على ضمير الغائب المفرد المذكر، وهوضمير المفعول: ه) مع استهتار ضمير الفاعل، كما في العربية، والفعل هنا فعل ماض في الحسانية، و ( يعرف، في المضارع بضمة دالة على نفس الضمير )، و’عارف’ (اسم فاعل) و’معروف’ (اسم مفعول) ، و ‘معرفه’ بكسر الميم، فسكون الراء فتح الفاء (مصدر). وهي كلها ألفاظ حسانية متداولة، فهل يمكننا من خلال هذه الاوضاع أن نلمس آلية تشجير، أم آلية تصريف واشتقاق؟
4-إن الاختلاف الطفيف هنا كان في أوضاع الأصوات التحليلية الطارئة على مصدر الاشتقاق، وما يترتب عليها من متطلبات النطق، لا يشمل الأصوات القاعدية:الأحرف على نحو مخل بالمادة. ومادام التغير مقتصرا في أساسه على ذلك، وهو الذي طرأ على الأصل العربي للمنطوق الحساني، فإن التغير لايمس من صفاء العلاقة الاشتقاقية، على حالتها العمودية بامتياز.
5- في بعض الدراسات المتواضعة التي قمت بها لاحظت أن الحسانية نشطة في الاشتقاق حتى بالنسبة للألفاظ الدخيلة على الحسانية، وذات المأتي اللغوي غير الاشتقاقي، ونأخذ من ذلك مثالا حديثا و هو كلمة (فرص) الفرنسية المنشأ، فقد جعلتها الحسانية مشتقة تماما: (فرص، بالفتح للفعل الماضي، وايفرص بالكسر للمضارع، و فرص، بفتح وسكون وكسر للأمر، وامفرص لاسم الفاعل، ومفرص لاسم المفعول.. وافريص للتصغير .. )
6-بالنسبة للكلمات الصنهاجية، ولست على دراية كافية بدلالتها، فإن الحسانية تداخلت معها صرفيا في بعض الأحيان، فصيغت بعض الكلمات الحسانية ذات الأصل العربي حسب صيغ صنهاجية مثل: تاسفرة ، وتيدومه، للسفرة اوالسفرية، والدومة .
لكن الحسانية صرفت بعض الكلمات الصنهاجية فجعلتها مشتقة وعلى أوزان عربية، مثل (امأنك) التي تعني الذلول أو السائغ، وهي في الأصل وصف للإبل ومنها (إيبل أمينگ)،
فصرفتها. الحسانية هكذا في الاستفعال، مثلا: (اتمونك هو، للماضي، و يتمونك، هو، للمضارع، و اتمونك أنت، للأمر، و متمونك لاسم الفاعل.. إلى آخره) . . فالأصوات التحليلية توزعت على الأصوات القاعدية حتى ميزت الأوضاع المختلفة زمانا وحالا عن الجذر الأصلي، بنفس الطريقة التي تتم في العربية بشكل عمودي. أي أن العلاقة بين المشتق وأصله الاشتقاقي جرت على نحو معين، يختلف على مايبدو عن التشجير واللصق.
هذا هو ما جعلني أستشكل استنتاج أستاذنا الجليل، وباحثنا المتمكن بخصوص عدم اشتقاقية الحسانية. وبالتالي استنتاج اختلافها جوهريا عن اللغة العربية، وهو ما لا أراه على محدودية رؤيتي، وتمكن صاحب الرأي الآخر من ناصية اللغات والألسنيات الحديثة، لكن هذا ما قادني إليه بعض البحوث التي قمت بها على الحسانية وعلاقاتها المختلفة بالعربية وبعض اللغات المجاورة.
وأريد أن أنبه إلى أمر لاحظته أثناء استخدام المعجم في بعض الكتابة الروائية التي اتجرأ عليها بين الفينة والأخرى، وهي أنني ألجأ إلى معجم الحسانية، فأحصل فيه على المطلوب دون عناء، لكن من المهم الانتباه في هذا الصدد إلى التداخل في الأوزان الصنهاجية والحسانية حتى لا نتيه في تشاكل صوتي اعتباطي، فلابد عند الالتباس من العودة إلى المعاجم العربية للتأكد من الأصل.
7-ألاحظ كذلك أن (اكلام آزناگه:الصنهاجية) المتداولة عندنا مشتقة، بمعنى أن المادة المشتقة فيها واضحة المعالم، ومثال ذلك مادة:
ي. ر. م. ش، التي تعنى أخذ، فمنها: يرمش، للفعل الماضي. و يترمش، للمضارع. وارمش،للأمر. وهكذا..
ولا أعرف أساس هذا الاشتقاق، هل يعود إلى أصل الصنهاجية أم إلى عوامل تلاقحها مع العربية والحسانية؟
ملاحظة أخيرة أضيفها وهي أنني لاحظت في بعض الدراسات حول المعجم الحساني أن المصطلحات المتعلقة بالترحال والبداوة والصحراء وما في دائرة استعمال بني حسان عند قدومهم هنا، هو عربي بالأساس، ويظهر هذا في آدابهم المبكرة، فمن ‘أدب التلول’ :
نحلال أم عربي ينزل في اتوارس،
واحنا ننذكر فاوهام مادس،
ألاج لمعيط فم بالريگ يابس،
انگوم أنفزع فأثر إلى أجفاه،
ألا نرجع عن لثر إلى عاد دانس،
أولا إنحل عگد سير أوراه.
فمعجم هذا النص كله عربي باستثناء أسماء الأماكن.
أما أسماء بعض الحيوانات والأماكن الثابتة، وكذلك بعض الأشجار غير المعروفة عربيا كالطلح والسدر، فقد احتفظت بأسمائها الصنهاجية أو الأفريقية، مثل:التافكيت، وأگجول، في الحيوان، وأروار و أوراش في الأشجار، و أطار، و آوكار، وكر مسين .. في الأماكن.. إلى آخره.
في المحصلة، ليست هناك إمكانية بالطبع لحكم على إطلاقه في عموم الأمر مالم يتم حصر الأغلب، في هذا المبحث الحيوي .
أشكر مجلس اللسان العربي رئيسا متميزا وأعضاء بارعين على تنظيم هذه الندوة الجيدة، والتي لم أدرك منها في التلفزيون إلا بداية محاضرة الباحث الجاد إسماعيل محمد يحظيه وما بعدها.
الإخوة الكرام، ماهذه الدردشة إلا اعتذار مبطن عن عدم حضوري للندوة القيمة.
الدكتور محمدو ولد أحظانا