عن المَأساة الليبيّة في “عيدِها السَّابِع”/عبد الباري عطوان
10 فبراير 2018، 00:06 صباحًا
عن المَأساة الليبيّة في “عيدِها السَّابِع” أَكتُبُ إليكُم: لماذا تَحوّلت مدينة بنغازي مكان ميلاد “الثَّورة الليبيّة” إلى مَسرحٍ للتَّفجيرات والإعدامات العَلنيّة؟ وكيف تَحوّلت مَساجِدًها إلى بِرك دِماء؟ وهل تُفيد الشعب الليبي شَهادة برلسكوني ونَدمْ أوباما المُتأخِّر ليَفهم الخَديعة الكُبرى التي أوقعوه في مِصيَدتِها؟
لا يأتينا من ليبيا التي “حرّرها” حلف “الناتو” قبل سبعة أعوام، وبمُباركةٍ من السيد عمر موسى، أمين عام جامعة الدول العربية في حينِها، هذهِ الأيّام غير أخبار التفجيرات وأعداد القَتلى والجَرحى من اللِّيبيين الأبرياء فيها.
اليوم (الجمعة)، انفجرت قُنبلتان في مسجد سعد بن أبي عبادة وسط مدينة بنغازي، مولد “الثورة الليبيّة”، ممّا أدّى إلى مَقتل مُصل وإصابة 63 آخرين، جُروح بعضهم خطيرة للغاية، وقبل أُسبوعين أودى تفجيرٌ آخر، في مَسجدٍ آخر، في المَدينة نفسها بأرواح أربعين مُصلّيًا، والله وحده يعلم من وأين سيكون المسجد المُستهدف في المَرّةِ القادِمة.
مدينة بنغازي التي كانت مَصدر إشعاع ثقافي حضاري في ليبيا، وتُوصف بأنّها عاصِمة الإبداع المسرحي والأدبي والفنّي، والصِّحافة المهنيّة الحُرّة في العَهد الملكي، تحوّلت إلى عاصِمةٍ للقَتل والتفجير، والتَّصفيات الدمويّة الثأريّة.
قبل أسابيع حَفلت وسائل التواصل الاجتماعي بفيديو تتواضع أمامه وقائعه أفلام الرعب، عندما أقدم مُسلّح بإعدام عشرة أشخاص مُقيّدين بالأغلال، ويَرتدون بزّات زرقاء، بإطلاق النَّار علي رؤوسِهم في ساحَةٍ عامّة بتُهمة كونهم من “الجِهاديين”، وجَرى اتّهام أحد أتباع ميليشيا رئيسية بتَنفيذ هذه الإعدامات، ولم يَمثُل هؤلاء أمام محاكم عامّة في “ليبيا الجديدة”، التي من المُفترض أنّها تَنعم بأرقى أنواع الديمقراطيّة الغربيّة التي جاءت على ظَهر طائِرات حلف “الناتو”.
ولا يُمكِن أن ننسى منظر العشرات من الأقباط المِصريين والسلاسل المعدنيّة في أيديهم وأرجُلِهم يرتدون بزّات الإعدام البرتقاليّة، ويُقتادون من قِبل مُقاتلين لـ”الدولة الإسلاميّة” إلى قُبورِهم الجماعيّة.
***
بعد أيّامٍ مَعدودة من المُفترض أن ينزل مِئات الآلاف من الليبيين إلى الشوارع والساحات احتفالاً بالذِّكرى السابعة لثَورتهم التي أطاحت بالنِّظام الدِّيكتاتوري، ومن أجل استبداله بآخر ديمقراطي تَعدّدي، يُحقّق الاستقرار والازدهار، ولكنّنا لا نَعتقد أنّ السَّاحة الخَضراء سابِقًا، وثورة الحُريّة حاليًّا، الواقِعة في وَسط العاصِمة طرابلس، المُطلّة على البَحر، ستَشهد أيَّ احتفالّ، بل ربّما مجالس عَزاء للآلاف الذين قُتلوا بعد الثَّورة بسبب الفَوضى الأمنيّة الدمويّة التي تَسود البِلاد ورَصاص المِيليشيات.
نِصف الشَّعب الليبي تقريبًا باتَ يَعيش على الكَفاف في مَنفى دُول الجِوار، مِصر وتونس، كلاجئين يَبحثون عن لُقمة خُبزٍ مَغموسةٍ بالأمن، والنِّصف الآخر الذي لم يُهاجِر بَقي لأنه لا يَملُك المال وباتَ يُسلّم أمره إلى الخالِق جلّ وعلا، ويَترحّم على الدِّيكتاتوريّات وزمانِها.
أين مَنظومة “أصدقاء ليبيا” التي أسّسها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي من أجل رِعاية شُؤون الشَّعب الليبي، مُصالحة، وضَمّت أكثر من ستّين دولة، من بينها أمريكا وبريطانيا وألمانيا وتركيا وعِدّة دُول عربيّة؟ وأين وعودها بتَحويل ليبيا إلى نَموذَجٍ في الديمقراطيّة والرّخاء تَحسُدها عليه شُعوب دُول المِنطقة العربيّة الأُخرى؟
اليوم (الجمعة)، خرج علينا الرئيس الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني في حديثٍ مع مَحطّة “سكاي نيوز 24” يُؤكّد فيه “أن ساركوزي كانَ عرّاب التدخّل، أي العَسكري في ليبيا”، وقال أنّه عارَض هذا التدخّل، أي برلسكوني، لأنّه اعتبر إسقاط حُكم القذافي ضَربًا من الجُنون، “فالرّجل، ورُغم مساوئه كان عُنوان وِحدة البِلاد وتماسكها لسَيطرته على 104 قبيلة”، وأشار إلى “أن طائِرات فرنسا الحربيّة بدأت القَصف بينما كُنّا نُناقش في باريس إمكانيّة تشكيل تحالُف”.
وثائق فرنسيّة نَشرتها برامِج تلفزيونيّة استقصائيّة كَشفت أن التدخّل العَسكري في ليبيا لم يَكُن بسبب الحِرص على الديمقراطيّة أو مصالِح الشعب الليبي، وإنّما لإطاحة نِظام القذافي الذي كان يُعطِي عُروض التّنقيب عن النفط والغاز لشركات صينيّة وهنديّة وروسيٍة وتركيّة وليس فرنسيّة أو بريطانيّة، بسبب ماضي البلدين الاستعماري، وكذلك عُروض الإعمار وبِناء البُنى التحتيّة الليبيّة، والأخطر من ذلك، وَضعِه خُطط لإصدار الدينار الأفريقي وتَوفير الغِطاء اللازم له من الذَّهب، ليَكون بديلاً عن الدّولار واليورو.
النظام الليبي الديكتاتوري ترك ودائِع ماليّة بحواليّ 360 مليار دولار غالبيّتها العُظمى، جَرى نهبها، وتَحويلها إلى مصارف خارجيّة، من قِبل بعض الثوّار أو المُقرّبين منهم، وباتت ليبيا التي تُحكَم من قِبَل ثلاث حُكومات وبَرلمانيين، وعَشرات المِليشيات، تَستدين من البُنوك الغربيّة لتَسديد رواتِب مُوظَّفيها.
***
“ليبيا الجديدة” باتت تشهد أسواقًا لبيع “العبيد” في وضح النهار، وما زال حوالي ثلاثين ألفًا من أهالي مدينة تاورغاء ممنوعين من العَودة إلى مَدينتهم، والعَيش فيها، مُنذ التنكيل بهم، والفَتك بمُعظمهم، ووَضعِهم في مُعسكرات اعتقال، مثل مُعسكرات النازيّة، لأنّهم سُمر البشرة، ومُتّهمون بالوَلاء للنِّظام السَّابق، والدُّول الغربيّة والأُمم المتحدة التي تَدّعي احترام حُقوق الإنسان وتَغزو دُولاً تحت شِعارها تتحلّى بفَضيلة الصَّمت، صَمت المُتواطِئ.
الرئيس باراك أوباما اعترف قَبل أشهر مِن مُغادرته البيت الأبيض بأنّ الشيء الوحيد الذي يَندم عليه هو مُوافقته على التدخّل العَسكري في ليبيا الذي أعطى نتائِج كارثيّة، وحَمّل المسؤوليّة للرئيس الفرنسي ساركوزي، وشَريكه ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السَّابِق.
النَّدم لن يُعيد الاستقرار والأمن إلى سَبعة ملايين ليبي، ولن يُعيد الحياة للآلاف الذين قُتلوا برصاص الميليشيات والجماعات المُسلّحة المُتنافِسة على الحُكم، ولن يُعيد عَشرات المِليارات التي جَرى نَهبها من قِبل “ثُوّار الناتو”.
الشعب الليبي لا يَستحق كُل هذهِ الكوارِث والطَّعنات التي جاءت إليه من “العالَم الحُر”، وبَعض العَرب وجامِعَتهم، وبِغِطاءٍ من بَعض المُتآمرين مِن أبنائِه.
تعليق واحد