تربية مستعارة لشعب بلا سند
يرى البعض أن الأفكار تستمد أهميتها، وتاريخيتها، عند تحولها الى قوى بأيدي الشعب من خلال الوعي النقدي الشمولي للواقع ، وحينها تتحول البلاد إلى كتلة ناهضة بعد أن تمردت على ثقافة اللاجدوى، النخبوية الشكلانيةعند المثقف التقليدي الذي يجرّد المعرفة من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي في حالة من التفرد والتنائى بوصفه فوق الشعب .
وإذا كان في جوهر وأدبيات العلوم السياسية أقوال مأثورة وخالدة ، فإن من أبرزها :” سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ” ، غير أن على الحاكم أن ” يتقي مجانيق الضّعفاء ” ، ويعلم أن ” من منع المستوجبين فقد ظلم” ويدرك جيدا أن الحكماء يرددون في كل سانحة بعض المفردات الزاجرة ، بل جعلوها كلمة باقية ، مثل قولهم “إذا رغب الحاكم عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة” و” من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك
ومع ذلك فلا شك أن أحداثاً ضخمة في تاريخ البشرية ما كان لها أن تتحقق وتحدث لولا إجماع كلمة الجماهير، ولم يعد فى استطاعة أى حكومة اليوم الاستمرار فى الحكم دون الحصول على الحد الأدنى من موافقة الشعب، مع أننا ندرك أن للأوضاع الاقتصادية والأجتماعة مثل دخل الفرد ومستوى معيشته وثقافته أثر بالغ على اَراء الأفراد وأفكارهم واتجاهاتهم .
لذلك أضحى تأثير الرأي العام منوطا في كثير من الاحيان بالنخبة السياسية ومنظمات المجتع المدني في جميع الدول ، بما في ذلك بلادنا التي ينبغي أن يتولى قيادة الرأي فيها العلماء والسياسيون والأدباء والكتاب والصحفيون وغيرهم ، بأعتبار أن لديهم خبرة ودراية كبيرة بالمسائل والقضايا والمطالب والآمال والأحاسيس التي تشغل الرأي العام بما يمكنهم من تبني الأفكار الجديدة مبكراً ، وفي العادة فإن مثل هؤلاء القادة في جميع الأمم الحية يبذلون أكبر جهد في دراسة الأوضاع والمواقف والمعلومات ، حتى يكونوا رأيا بشأنها ، وهوما يجعلهم قادرين على التأثير في الرأي العام .
ومن هنا فمن الضروري أن نؤكد على بعض القضايا التي تهم الرأي العام المحلي والوطني في بلادنا ، والتي يأتي على رأسها في الوقت الحاضر: التردي المستمر في أحوال ومعيشة السواد الأعظم من الشعب الموريتاني حتى ضرب الفقرالمدقع أطنابه في طول البلاد وعرضها، في ظل ارتفاع جنوني لأسعار المواد الغذائية ، وأسعار المحروقات ، وتدني رواتب العمال، وانخفاض قيمة الأوقية ، مما أوقع البلاد في قبضة المرض والمعاناة والفساد والبطالة وانعدام الأمن والجهل .
لذلك فلا غرو أن يكون قدرا كبيرا من التشوه قد لحق حياتنا الفكرية والثقافية ، ومنظومتنا التعليمية ، بعد أن أصبح التعليم يعاني وضعا كارثيا وتدميرا ممنهجا بسبب التربية المستعارة ، والاستلاب اللغوي والحضاري ، والخلود المطلق في الطرف السفلي لثقافة الاجنبي ،ومن ثم التردد والارتباك على مستوى الأغراض والاختيارات التي تنظم مسار التعليم في مختلف الشعب والمراحل ، لأننا ابتعدنا كثيرا عن مجانيه التعليم وزيادة ميزانيته و دعمه المستمر ، وهو ماينذر بتصدع هذا الهيكل وقرب انهياره .
أما المستشفيات فهي تعاني اليوم من نقص حاد في الخدمات الأساسية ، مع أن الأمر يزداد سوءاً في داخل البلاد ، وذلك بسبب النقص المزمن في الكوادر الطبية المختصة ، فضلاً عن عدم توفير أبسط الأدوية.
وإذا كانت الإدارة مفتاحا للتنمية والتطورفإن ظاهرة الفساد الاداري والمالي في بلادنا أصبحت آفة فتاكةلأنها تقف عقبة في وجه الانتعاش الاقتصادي والتطورالسليم والصحيح ، بسبب إهدار المال العام و التلاعب والابتزاز والمحاباة ، وقد نتج عن هذا كله جملة من الآثار السيئة منها تدهور الخدمة داخل المرفق العمومي ، وتحويل الموارد والامكانات الحقيقية من مصلحة الجميع إلى مصلحة أشخاص حيث يتم تركيز الثروة في يد فئة قليلة من المجتمع .
وقد أدت هذه الأوضاع إلى أن يعيش أكثر من نصف الشعب الموريتاني تحت خط الفقر المدقع، رغم ما حظيت به موريتانيا من ثروات وخيرات واحتياطات،مع أن الشعب الموريتاني يستحق الاكرام لا الإهانة لأنه شعب له تاريخ ويحمل قيم الوفاء والطهر والنقاء والكرم .
وبما أن المعاناة أصبحت ترسم طريقها في حياة الناس بالموازاة مع محاولات بعض الأطراف الرسمية وشبه الرسمية أن يتم غض الطرف عن الواقع السيئ الذي تعاني منه البلاد ، من خلال تغيير الأشخاص وإدمان لعبة تبديل الكراسي ، واستغلال عدم جدية الموالاة أو ” الأغلبية الصامتة ” التي نسيت أن ” مَنْ أكلَ مَرَقَةَ السُلْطَانِ احْتَرَقَتْ شَفَتَاهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ” ، فإن على النخبة السياسية وقادة الرأي في بلادنا أن يشاركوا بفعالية من خلال الحملات الضاغطة على الحكومة الموريتانية لرفع المعاناة عن الشعب وتمكينه من الاختيار بين البرامج المتعددة ، وإدانة التجاوزات ورفض المقترحات والإجراءات الحكومية الضارة .
وإذا كانت النخبة الواعية في بلادنا تعلم جيداً أن من مسئولياتها كشف النواقص والسلبيات، إلى جانب دور الاحتجاج والنقد و الاعتراض ، فإن عليها أيضاً المشاركة في تقديم الحلول والمقترحات التي يمكن أن تسهم في علاج أي أزمة طارئة أو التقليل من انعكاساتها السلبية على الوطن والمواطن، لأنها تشكل سلطة مضادة ، بل وأكثر من ذلك فهي “حكومة ظل”.
غيرأنه من الانصاف والمصداقية ـ خلافا لقاعدة “إما أبيض أو أسود ” ، ومفهوم إقصائي آخر”إما معي وإما ضدي” ـ أن نسجل هنا أن بلادنا تنعم أكثر من بعض الدول في المنطقة بحرية الإعلام ، وحرية الرأي ، وهي مكتسبات يجب المحافظة عليها وصيانتها من خلال رفع المعاناة عن الشعب .
باباه ولد التراد
تعليق واحد