جزر موريتانية تحميها مظلة من الطيور ويحرسها أسطول من السلاحف والدلافين
حوض آرغين(موريتانيا) – من الشيخ بكاي- كانت سيارة الـ”تويوتا” تتأرجح يمينا ويسارا حينا وتقفز بعصبية حينا آخر ونحن نقطع الكثبان الرملية الفاصلة بين نواكشوط وأقرب قرى الصيادين المتناثرة على امتداد 300 كم في منطقة الشاطئ الأطلسي قبل أن نبحر إلى إلى”جزيرة الطيور” في الجزء البحري من محمية حوض “آرغين” التى تمتد بمحاذاة الساحل على امتداد 180 كيلومترا وتغطي مساحة قدرها 2000 كيلومتر مربع نصفها في النطاق البحري والنصف الآخر في النطاق البري.
في المنطقة حيوانات قليلة يستوطن بعضها المجاري والأودية التي تنمو فيها أنواع من النباتات الملحية، ويعيش بعضها في الشريط الساحلي.
وقد أدت عمليات القنص التي سهلها انتشار السيارات العابرة للصحراء إلى اختفاء عدد كبير من الحيوانات البرية ولذا فإننا لم نقع على بعض الغزلان الصحراوية كما نقع بوفرة على بنات آوى التي تجوب الساحل ليلا بحثا عن السرطانات والأسماك الميتة.
البحر المزاجي:
قال السائق وهو يشجعنا على تحمل نزق السيارة وجموحها:”علينا قطع مئة كيلومتر قبل الليل كيلا ندرك الطريق الساحلي والبحر في حالة مد وكيلا نبيت في الصحراء مع الذئاب الجائعة”.
وعلى رغم ما بذله السائق من جهد فقد وصلنا القرية الساحلية “تيويليت” ليلا، بعد أن غطى البحر الممر الوحيد الذي يربط بين القرى ، ما تطلب منا قضاء الليل في القرية ونصف اليوم التالي في قرية أخرى لا تبعد عنها سوى 30 كم.
وقال لنا سكان القرية :”إن السيارات تبقى هنا أياما في انتظار أن يهدأ البحر”…
ولظاهرتي المد والجزر تفسير خاص لدى”إيمراغن” (الصيادون بالبربرية القديمة) الذين يسكنون المنطقة منذ قرون وما زالوا يحتفظون بعاداتهم ونمط معيشتهم، وتبعا لتفسيرهم” يهيج البحر حينما تقترب منه النساء”. لذا يمنع “إيمراغن” نساءهم من السباحة أو المشاركة في عمليات الصيد، ولا تقترب من البحر إلا من هن في سن اليأس.
وتؤكد العجوز ميكة بنت عبد الله أن قصة المرأة والبحر وردت في القرآن. ولا تتردد ميكة في تقديم ما تعتبره (خطأ) قرءانا، فتستعيذ بالله “من الشيطان الرجيم” وتقول في إصرار:
” في البحر عجب وفي النساء عجبان”..
وتحاول محمودة وهي عجوز أخرى تفسير الظاهرة من خلال لملمة عناصر رواية مشوشة في ذهنها فتقول :” إن بحر إيمراغن (اسم المحيط الأطلسي عندهم) منذ سمع في العصور السالفة قصة عرائس بحر النيل…. “، وتسرد محمودة القصة: “في قديم الزمان كانت مصر كلما عانت من القحط تؤخذ فتاة جميلة وتزينها بأجمل الحلي والثياب وترشها بالعطور ثم تدفع بها إلى البحر فيهيج وتغمر مياهه الأرض”.
يبدأ البحر في الإنحسار ونحن نستمع إلى حكايات “الإيمراغن” البسيطة الخيالية، وننظر باستمتاع إلى البحر وهو يعانق الصحراء…. ويصلنا صوت السائق: ” الآن نستعد للإنطلاق واضعين عجلة على التراب وأخرى في الماء ، في انتظار أن يفسح البحر في المجال نهائيا”.
محمية آرغين:
أمواج البحر إلى اليسار وجبال الرمل إلى اليمين.. وتتحاذى ألسنة الرمل والخلجان، والفتحات البحرية التي يفصل بينها من حين إلى آخر رأس صخري يشكل العبور بالقرب منه مجازفة خطيرة.
ويحدث أحيانا أن تضيق الطريق فنضطر إلى التوقف في انتظار انحسار موجة ندخل معها في سباق للعبور قبل أن تعود وتغطي الممر.
تتولى إدارة”الحديقة الوطنية لحوض آرغين” طبقا لمرسوم إنشائها “حماية البيئة النباتية والحيوانية برية كانت أم بحرية”.
ويقول مسؤول المحمية أنغيدي آلسان إنها :” تندرج في السياق الإقتصادي الموريتاني، فهي تضم مجموعات من الصيادين يجنون فوائد كبيرة من مصائد الأسماك الغنية، كما أنها تشكل محيطا جيدا للسياحة”.
وتعيش داخل المحمية مجموعات من صيادي”إيمراغن” الذين تعتبرهم السلطات جزءا من الوسط الطبيعي ، ويسمح لهم وحدهم بالإقامة والإصطياد، ويحظر عليهم استخدام القوارب ذات المحركات على اعتبار أنها تزعج البيئة.
“حوض آرغين” من السواحل الأطلسية القليلة التي ظلت محافظة على مقوماتها البيئية وثرواتها الطبيعية الأصلية، فهي اليوم موطن لأنواع حية يندر وجودها في أي منطقة أخرى من الكرة الأرضية.
وتشكل المحمية حقلا مهما للبحث العلمي. ويقوم خبراء موريتانيون من المعهد الوطني للبحث الأوقيانوغرافي والصيد بتنسيق البحوث التي تشارك فيها فرق فرنسية وبريطانية وهولندية.
تزامن وصولنا إلى شبه جزيرة “إيويك” آخر قرى الصيادين ومحطة الانطلاق إلى”جزر الطيور” مع ظروف مناخية صعبة لا تسمح للمراكب الشراعية بالتحرك.
وصيادو هذه القرية لا تربطهم بالدلافين صداقة حميمة شأن صيادي سائر القرى الذين يعتبرون هذه الحوتيات حليفتهم التي لا تعترض أسراب الأسماك وتدفعها دفعا إلى شباكهم.
وقال أحد سكان”إيويك” إن الدلافين ” مسخرة لسكان القرى الأخرى، “أما نحن فنخصص للفقراء والمساكين نصيبا، ولذا تأتي إلينا الأسماك بلا واسطة”.
تشمل محمية حوض آرغين 15 جزيرة بعضها صخري ترتفع شواطئؤه الجرفية مطلة على البحر، والبعض الآخر رملي تغطيه النباتات الملحية.
وهناك جزر رملية صغيرة لا تكاد تعلو على سطح الماء، وعندما ينفض مستوى سطح البعض تبدو للعيان ممتدة على مساحات واسعة تغطيها الأعشاب كأنها مروج خضراء عائمة فوق الماء.
قال قبطان القارب للمصور ونحن نهم بالصعود : “هل أخذتما ما يكفي من أغطية وزاد؟ إن الأمر يتوقف على الريح واتجاهها وليس هناك ما يضمن لنا العودة قبل الصباح”. ثم أردف قائلا :”الجزر ليست بعيدة إلا أن الزوار القلائل قد يقضون 24 ساعة في عرض البحر بسبب الرياح”…
وتبدأ الرحلة إلى الجزر ويطلق قائد المركب الشراعي حنجرته بأغاني البحر، ويدير أحد مساعديه أكواب الشاي المنعنع على رغم الأمواج العاتية التي تنكسر أحيانا داخل حوض القارب.
مهمة استطلاعية
ومع الاقتراب من جزيرة “نر” إحدى أكبر الجزر، تدب الحركة وتطلق طيور- يبدو أنها خرجت في مهمة استطلاع – صرخات تحذير وهي تحلق فوق القارب على ارتفاع منخفض،
وبعدما رسا القارب بدت عمليات التقاط الصور مستحيلة إذ اتخذ “سكان” الجزيرة مواقع دفاعية، فواصلت أسراب من الطيور التحليق فوق رؤوسنا مطلقة “صفارات الإنذار”، بينما تجمعت أسراب أخرى في أماكن بعيدة عن “مرمى” الكاميرا.
ودارت مشادة كلامية طويلة مع المرافق الذي يحرص على عدم “إزعاج الطيور التي تحضن بيضها”، انتهت بسماحه لنا بالنزول شرط البقاء على بعد أمتار منها.
مؤتمر دائم للطيور
تختلف أنواع الطيور التي تظهر في خليج “آرغين” تبعا لفصول السنة، إذ تلجأ إليه طيور في فصل الشتاء، وتعبر طيور أخرى الحوض أثناء هجرتها إلي الشمال أو إلى الجنوب.
وتتوزع طيور الماء المستوطنة أنواعا منها: “الخرشنة”، “الغاق”، “النورس” ، وهي تعرف بطيور البحر. وهناك فئة ثانية طويلة الساق منها مالك الحزين، “البلشون الأبيض”، ” النحاء”.
وتمتاز الطيور المستوطنة بالوفرة والتنوع. ويقدر مسؤولو محمية”آرغين” عدد هذه الأجناس بما يتراوح بين 25 ألف و40 ألف زوج تنتمي إلى 15 نوعا ، وهي تشكل أكبر تجمع للطيور المائية في منطقة غرب إفريقيا.
ويقول المسؤولون إن أعداد “الخراشن” تفوق أعدادها في أوروبا.
ويعود تنوع الطيور إلى التقاء مجموعات تسعى إلى مواطن مختلفة. فبعض هذه المجموعات يأتي من أوروبا وسيبيريا، وبعضها الآخر من المنطقة الواقعة ما بين مداري السرطان والجدي، وهي “المجموعة الأثيوبية”، ومنها “الغاق الإفريقي”، “الخرشنة الملجمة”،” زمج الماء الأرمد”، “البلشون المزدوج الشكل”.
وتهاجر الطيور من مناطق تمتد من شمال أوروبا إلى سيبيريا في الشرق، وإلى ايسلندا أو غرينلاند في الغرب عندما تسوء الظروف المناخية ويشتد البرد القارس الذي يزيد من حاجة الطيور إلى الطاقة، ويحد في الوقت نفسه من توافر”الغذاء”. فتجد هذه الطيور الشتوية المهاجرة في منطقة “آرغين ” مساحات واسعة من الأحواض والمستنقعات تنتشر فيها بحثا عن الغذاء.
انتظام مصادر الغذاء
وتمكن الظروف المناخية المعتدلة إضافة إلى الهدوء الذي يكتنف المنطقة من تقليل حاجة الطيور إلى الطيران ما يتيح لها أن تدخر جزءا كبيرا من طاقتها.
ويرد مسؤولو حوض “آرغين” وفرة عدد الطيور إلى انتظام مصادر الغذاء فبيئة “آرغين” غنية بأنواع عديدة من الأسماك الصغيرة والقشريات التي تشكل أهم مصادر الغذاء للطيور، وهذا عامل مهم على أعتبار أن “أسرة” واحدة من “البجع الأبيض” تستهلك سنويا ما بين 450 إلى 500 كيلوغراما من السمك.
وتقوم الطيور المهاجرة قبل العودة إلى موطنها باستبدال ريشها بآخر زاهي الألوان، وتختزن كميات من الشحم تكون بمثابة وقود يساعدها في قطع آلاف الكيلوميترات التي تفصلها عن مناطق التوقف في أوروبا.
ويؤكد خبراء ” الحديقة الوطنية لحوض آرغين” أن الحوض”يأتي في المرتبة الأولى باعتباره أهم منطقة للطيور في افريقيا إذ يضم مليوني طير”.
وإضافة إلى الطيور المستوطنة المهاجرة يقول مسؤولو الحوض إنهم رصدوا “وجود أصناف أخرى من الطيور المهاجرة لا تتوقف إلا لفترة قصيرة مثل “سباع الطير” و”البلاشيك” و”الجواشم”… وبهذه الفئات يصل عدد الأصناف التي تعيش في الحديقة إلى 249صنفا”.
سلاحف مهاجرة
ويستضيف النطاق البحري للحوض – إضافة إلى مئات الأصناف من الأسماك والكائنات البحرية الأخرى- السلاحف البحرية الخضراء التي تتعلق بأعشاب عرائس الماء مصدر غذائها الأساسي.
ويؤكد مسؤولو الحديقة أن بعض هذه السلاحف مهاجرة وحجتهم في ذالك أن “الإيمراغن” اصطادوا سلحفاة عليها ختم فلوريدا بالولايات المتحدة. ومثلت هذه الواقعة أول إشارة إلى السلاحف المهاجرة عبر المحيطات.
ومن الأنواع البحرية المهمة في منطقة “إيمراغن” ما يعرف بالحوتيات ومنها خنزير البحر والدلفين والتخت.
ويقول المهتمون بشؤون الكائنات البحرية إن صنفين فقط هما الدلفين والتخت تكيفا كليا مع بيئة الحوض وهما يتقاسمان مساحة المنطقة، ومصادر الغذاء المتوافرة فيها.
وهناك عجول البحر التي كيفت نفسها مع مياه البحر المدارية، وكانت من قبل تعيش في البحر الأسود وحوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى أمتداد الساحل الغربي لإفريقيا، إلا أنها تعرضت للإبادة، إذ طمع الإنسان بجلودها وبالزيوت المستخلصة من لحمها ولم يبق منها اليوم طبقا لما يقول الخبراء سوى نحو 500 رأس تمثل المجموعة الموريتانية أهم واحدة منها، ويقدر المسؤولون عددها بمئة رأس.
” الوسط” اللندنية
العدد:94 التاريخ 15-11-