“اوراق مسافر”: محمد محمود ودادي يتابع التحولات في “مرابعه” ويضع أفكارا للتنمية
مدخـــــل
• منذ ثلاث سنوات أقضي عطلة الخريف في تكانت، بحثا عن الراحة البدنية والنفسية وهربا من نواكشوط التي لم تعد مضيافة كما كانت، خاصة في فترة الخريف، بسبب تلوث شوارعها وأجوائها، واستيطان البعوض الذي لا يميز بين الليل والنهار، وزحمة شوارعها وأسواقها وفوضى المرور فيها، وانعدام الأمن. كل ذلك جعلني “أهرب” إلى الداخل، الذي لا توجد فيه أي من هذه المنغصات، وأستعيد ما افتقدته خلال الثلاثين سنة الماضية من العيش في الخارج، ثم الركون في نواكشوط، بعد أن كنت أقضي سنويا عطلتي بين القرى والبوادي، مثل الغالبية التي ما تزال تصر على التمتع بنعمة لا تُضاهى وهي تنفس الهواء الطلق في فضائنا الرحب.
وهذه السنة دامت العطلة خمسة أشهر ونصف الشهر، بين قرى ومراكز بلديتي الرشيد وانييملان، فأتيحت لي فرصة التجوال بين القرى والأودية، فتابعت عن كثب الناس وحياتهم، لأدرك مدى التغيير الذي حدث في الريف وأهله، وفي البيئة بشكل خاص. فالبدو الرحل قد أوشكوا على الانقراض من تكانت إلا في الجزء الجنوبي، ومعهم المواشي وخاصة الإبل والبقر، التي تناقصت أعدادها إلى حد ملفت، وأصبحت قطعانها تعد على رؤوس الأصابع، ولا يملكها إلا الأغنياء، وخاصة من المناطق المجاورة: آدرار والعصابة، الذين يأتون أزمنة الخصب – على ندرتها – ليغادروا بعد انتهاء المراعي؛ وخلال تجوالنا في معظم أراضي مركز الرشيد الإداري – الذي تغطي مساحته ثمانية آلاف كلم2 – لم نصادف في الطرق إلا أفرادا مسافرين على الحمير أو راجلين، كما لم نر المواشي إلا بالقرب من بعض المراكز المأهولة، ولم نشاهد غابة من أي شجر كان، باستثناء بعض أشجار الطلح المتفرقة في الأودية الكبيرة، وشجر السلَم (التمات) في القيع، كما لم نر هذه السنة حيوانات برية أيا كانت حتى الأرانب، أو طيورا مثل القطا، والحُبارى أو حيوانات مفترسة، إلا ابن آوى الذي نسمع عواءه في الليل أحيانا.
هذه هي حالة البادية اليوم في تكانت، بعد انتقال غالبية سكانها الرحل مع مواشيهم إلى الولايات الجنوبية خاصة ضفاف النهر أو تلك القريبة من الحدود المالية، فخلى ريف الولاية من سكانها تدريجيا ليتشكل مجتمع جديد في قرى مرتجلة، معظم سكانها من المزارعين، أقيمت دون تخطيط عمراني أو صرف صحي، معظم مساكنها الحجرية والإسمنتية وعرُشها، مبعثرة وهشة، لا تلبي متطلبات السكان ولا تتوفر على شروط السلامة والصحة؛ تقع غالبا على جنبات الطرق الرئيسية أو في بطون الأودية بجوار النخيل أو المزارع، لكن البعض منها منعزل، لا أمل في بقائه.
لقد أدت هجرة البدو إلى اختلال توازن المجتمع وبلبلته، بعد انفصال كفتي عماد حياته: الرعي والزراعة، فغاب التكامل والتكافل وتلاقح الأفكار، وتعطل التطور والإبداع الثقافي والانتاج الاقتصادي، ورافق ذلك تضعضع في قيادة المجتمع، ومن ثم ضعفت القدوة بتوجهيها، ليحل الفراغ، حيث أن شرعية السلطة التقليدية قد اهتزت بعد ما قررت حكومة الاستقلال النأي بنفسها – عكس الدولة الاستعمارية – عن مؤسسة الشياخة، التي تركتها شأنا قبليا بحتا لا دخل لها فيه، مع مواصلة التعاون معها دون أن تكون الوسيطة الحصريه مع الجمهور، وفي الوقت نفسه أشركت الوجهاء في العمل السياسي ضمن الحزب الحاكم، فكان العديد من الأمراء والشيوخ مسؤولين وناشطين داخل صفوفه وقياديين في هيئاته المختلفة، خدمة لأهدافه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما حاولت حركة الهياكل اقتفاءه، وإن وجهته إلى أغراض أمنية محلية.
وفي عهد “الديمقراطية” سنة 1992 أحيت القيادة العسكرية الحاكمة الروح القبلية، ووظفت مؤسسة الشياخة في المعادلة الجديدة لكسب الانتخابات، دون أن تسعى إلى توظيفها لأهداف التنمية، وتعبئة الجمهور لذلك، فأصبحت السلطة التقليدية الغائب في النصوص والأدبيات الرسمية، الحاضر في الواقع، حيث بقيت مشروعيتها قائمة، تتكئ عليها السلطة العمومية في تسيير الشأن المحلي، ويُختار منها غالبا المنتخَبون، على كل المستويات أو بإشرافها وتأثيرها، بينما أصاب الوهن مشروعية الإدارة رغم امتلاكها الشرعية؛ فغابت قيم التضامن والتشاور والعمل الجمعوي، وانتهت جهود التنوير والتوعية التي بنى عليها الحزب الحاكم في العهد المدني برامج الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ والريف الداخلي كما “المدينة الريفية” يعيش أزمة قيادة شرعية مؤثرة توجه المجتمع نحو مصالحه والتطلع إلى المستقبل.
ولم تحاول الأحزاب السياسية القائمة الآن – بما فيها الحزب الحاكم – تغيير هذا الواقع، لأنها بدون صوت إلا في مناسبات الحملات الانتخابية. هذا الوضع أثر على العديد من مناح الحياة، مثل ملكية الأرض والأنشطة الزراعية والرعوية، وحماية البيئة، التي هي رسميا وعرفيا منوطة بالقبيلة، التي فككها الجفاف، بعد أن هاجر غالبيتها واستوطنوا أراض جديدة في ولايات أخرى، فشيدوا فيها القرى وتعهدوا مراعيها، لذلك ترتفع أصوات بأن يُعتبر الموجودون الذي لم يهاجروا هم القبيلة، بقيّمها وعاداتها وصيتها وسلطتها وممتلكاتها؛ وأن يُسد الباب أمام اللبس القائم، بحيث تُحمى الأرض من التعدي الحالي بتحمل البلديات والسلطات الإدارية مسؤولياتها في ذلك.
بينما يعتبر المهاجرون أنهم أصحاب الشرعية – حتى ولو تقرى بعضهم – فالقبيلة في نظرهم لا تستقيم إلا بتراثها المرتبط بماشيتها وميسمها وخيامها – حتى وإن كانت من القماش – وبالعيش في البادية وسط البدو. ويدعم ذلك استمرار بعض الصِّلات – ولو من بُعد – بين الطرفين – المستقر والمهاجر – لعمق الروابط الموروثة، مما يتجلى في تعلق المهاجرين – وجدانيا على الأقل – بانتمائهم، مهما بعدوا، متمسكين برموزهم من رؤساء وقضاة ووجهاء، الذين يوظفونهم كمفاتيح للكثير من الإشكالات مع الجيران الجدد، حيث التعايش مرتبط بالعلاقات القبلية؛ كما يظلون متمسكين بقيمهم التالدة أينما حلوا، وبمواطنهم الأصلية، مما جعلهم يطلقون أسماءها على أماكن إقامتهم الجديدة: الرشيد، الحويطات، الزويرة، كما فعل الإسبان مع مدنهم، عندما انتقلوا إلى أمريكا الجنوبية: قرطبة، طليطلة، بلد الوليد، وادي الحب، الوادي الكبير .. والرومان قبلهم، بعد انتشارهم في العالم الجديد.
• لقد كان من العوامل التي دعتنا إلى تقديم هذه الورقات حدوث تطور هام تٌعلّق عليه آمال عريضة: طريق أطار – تجگجه – مرورا بأوجفت وتوابعه من أودية وقصور نخيل، مع العين الصفرة والرشيد والحويطات – رغم تأخرها خمسين سنة عن وقتها. ذلك أن السكان يعولون عليها في فك العزلة عن أطراف واسعة من ولايتي آدرار وتگانت، وتسهيل ربطهما بمراكز القرار السياسي ومصادر التمويل، وانتشار الوعي بتبادل الأفكار وتجارب الآخرين، ووسيلة لنقل السلع وتبادل المنافع، وتأمين أجزاء شاسعة من البلاد؛ وفوق ذلك، يرون أنها ستمكن سكان مركز الرشيد الإداري من التواصل مع أبنائهم المشتَّتين في أرجاء الوطن، ومع أصدقائهم الكثر؛ وقد بدأ أثر الطريق الإيجابي جليا على حاضرة الرشيد وتوابعها، بإخراجها – ولو جزئيا – من قمقمها، بتنفس نسمات فضاء المواصلات، بعد ربطها بعاصمة الولاية والعاصمة الوطنية ومدن الشمال وبقية أرجاء الوطن، حتى قبل انتهاء مقاطع الطريق الأخرى، وبرز أثر ذلك في مجالات العلاج والتجارة وغيرها. وستزداد أهمية هذا الشريان بعد انتهاء الطرق المبرمجة (تجگجه – بو مْديد – كيفه – كنكوصه) وفي الآن نفسه سيكون معْبرا دوليا، مع انتهاء الطريق الرابط بين موريتانيا والجزائر، ومن ثم شمال إفريقيا والمشرق العربي؛ وبين أوروبا وإفريقيا الغربية.
إن هذه “الأفكار” التي بين أيدينا تدور حول جزء من المشاكل التي يعيشها مجتمع هذا الحيز وأبعادها، والتي هي في الغالب تداعيات خلو الريف من سكانه تدريجيا خلال الأربعين سنة الأخيرة؛ حيث حاولنا – انطلاقا من مشاهداتنا ولقاءاتنا خلال هذه العطلة – ملامستها عن قرب، راجين أن تكون طُعما، يشد انتباه النخب إلى مزيد من الاهتمام بالشأن العام، لإخراج مركز الرشيد الإداري من عزلته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2 – هموم المجتمع المحلي وتطلعاته
• لا بد لأصحاب القرار والمهتمين بالشأن المحلي، والقوى الحية والمجتمع المحلي من أن يكونوا قد وضعوا في الحسبان استثمار فرصة إقامة الطريق لتنمية هذا الجزء من الوطن الذي عانى من العزلة التي كادت تُخليه من سكانه، وتقضي على مواطن عيْشهِ؛ لذلك على هؤلاء أن يتقدموا للسلطات العمومية الولائية والمركزية، بمطالب عملية وواضحة في هذا الشأن، حيث سيكون الطريق مسهلا لدمج المركز، بل مقاطعة تجگجه ضمن المشاريع الوطنية مثل “استراتيجية النمو المتسارع والازدهار المشترك” التي تغطي الفترة من 2016 – 2030، المعلن عنها قبل أشهر، حيث لم يكن لهم حظ وافر في مشاريع التنمية المحلية، السابقة، ما بين سنوات 1985، 1990 و2001، وكذا “الإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر 2001- 2015”. فهي تمثل فضاء واسعا من عالم الريف الأحوج لأي مجهود تنموي، بعد أن وصل التدهور الاقتصادي فيه مداه مع موجات الجفاف المتتالية، التي أحدثت نتائج خطيرة، في مقدمتها القضاء على قاعدة الاقتصاد الريفي الذي كان العمود الفقري للثروة الوطنية، وتحولات هائلة اجتماعية وثقافية، رافقت هجرة السكان إلى الحواضر ومراكز التجمع، حتى لم يبق في البادية إلا حوالي 6% من عموم السكان سنة 2000، بعد أن كانوا 70% سنة 1965؛ وقد كان تأثير الجفاف على تگانت بالغ السلبية، ليس فقط على الثروة الحيوانية، وإنما على الزراعة وخاصة النخيل، ومن ثم على الگصورْ. فقد تفرق السكان البدو بحثا عن الكلأ والخدمات في الولايات الأكثر حظا في الأمطار، والمتوفرة على طرق وبُنى تحتية وبعض الخدمات الضرورية، كالعصابة وگورگل وگيدي ماغا والحوض الغربي، بينما اتجهت الطاقة العاملة من شباب ومن أصحاب حرف وعمال يدويين إلى المدن الكبرى كالعاصمة ونواذيبو والزويرات وكيفه، وغيرها من التجمعات القائمة على طول طريق الأمل، فتقلص سكان بعض بلديات الولاية إلى أقل من الثلث، مما كان له تأثير سلبي بالغ على نموها، وزيادة العبء على الأسر المعيلة، بعد أن خلت من ثروتها الحيوانية، وطاقتها البشرية، وفي مقدمتها مركز الرشيد الإداري ببلديتيْه.
• إن المطلوب من السلطات العمومية أن تعطي هذه الولاية الأهمية التي تستحق، كغيرها من الولايات، مع العناية بالبلديات والمراكز الأكثر فقرا، حتى يُرفع الحيف عن سكانها، ويعامَلون كالمناطق الأقل حظا في التنمية، ومنهم سكان مركز الرشيد الإداري ببلديتيه: الواحات والتنسيق، فيعطوْن تمييزا إيجابيا، كما اتُّبع في أنحاء عديدة من الوطن، مما سيكون له مردوده الاقتصادي والاجتماعي، نظرا للموقع الاستراتيجي للبلديتين وقابليتهما للنمو. لذلك لا بد من المبادرة بوضع خطة تنموية مناسبة للمرحلة، تتكفل بإعدادها وتمويلها السلطات العمومية، بالتعاون مع شركاء التنمية، على أن تُشرك القدرات المحلية: الإدارة الإقليمية، البلديات، المنتخبين، المجتمع الأهلي، الفاعلين السياسيين، المستثمرين، أصحاب المبادرات، وكل المهتمين، وأن يصدر عن ذلك:
• تشخيص مشاكل المركز، وتحديد حاجات بلديتيْه، وترتيب أولوياتهما، ومدى إسهامهما المادي والبشري، وطاقتهما الاستيعابية، وإعطائهما الإمكانيات والصلاحيات المنصوص عليها في اللوائح، والتي ما تزال حبرا على ورق، مما يجعل اليوم من هذه المؤسسة التي أنشئت لإدارة الشأن المحلي مجرد ديكور
• تلبية مطالب المجتمع التي عبر عنها الناطقون باسمه أكثر من مرة، ومن أهمها:
تصحيح الخطأ الفادح الذي ارتُكب سنة 1986 بإلغاء اسمي بلديتي انييملان والرشيد، قلعتي الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، والذي تُشم منه رائحة السعي لطمسهما، وكأن الوادييْن بلا أهل ولا تاريخ؛ إضافة إلى أنه عمل استبدادي، لم يُستشر فيه السكان أو يعرض على مختصين. والرشيد اسم تاريخي فريد في جنوب الصحراء اختاره رجال بُناةٌ علماء صالحون، منذ مطلع القرن الثالث عشر (نهاية الثامن عشر للميلاد)،
تحويل مركز الرشيد الإداري إلى مقاطعة،
إنشاء صندوق اقتراضٍ للتنمية المحلية،
تأهيل عاصمة المركز، بإقامة منظومة إدارية كاملة، كمكاتب الحكومة ومساكنها، وإداراتٍ ومقارِّ أمن، والمساعدة على تخطيط الحواضر والمداشر وتزويدها بالتجهيزات الضرورية،
إقامة بنية تحتية من طرق فرعية، وغيرها، وتعزيز المنشآت التعليمية القائمة، وفتح مركز للتكوين المهني متعدد الاختصاصات، بما فيها الإرشاد الزراعي والسياحي ودعم الصحة، مع تأهيل المنشآت الخدمية القائمة، من مياه وكهرباء، بتوسيعها وزيادة طاقتها. فحاضرة الرشيد تستحق عناية، للنهوض بها كما تم مع مناطق أخرى في الوطن، مثل انبيكة الاحواش وترمسّه والشامي،
تفعيل القوانين المنظِّمة لتوزيع مياه الأمطار من منابعها وبين أعاليها ومصابِّها، على طول الأودية المنطلقة من إژيفْ والسّنْ مثل وادي الگصور (تجگجه، الحويطات، الرشيد) وروافد الوادي الأبيض الرئيسية اليمنى: من أدروم؛ والوسطى: من انييملان، والجنوبية من التِّشوطن؛ وهو توزيع ظل مُحترما – إلا في حالات نادرة – زمن الإدارة الفرنسية، حيث أن الوضع الحالي تعدٍّ على حقوق سكان المصاب، وسيؤدي إلى جفاف أراضيهم الزراعية المتبقية، وتصحرها، والإضرار بمجاري الأودية وآبارها، وعيونها وأحسائها التي تغذيها سيول إژيفْ. إذن لا بد أن تراجع السلطات العمومية هذا الوضع، وتزيل السدود العشوائية عديمة المردودية، التي أنشئت خلال العقود الأخيرة، في غفلة من الزمن، وأن يُعاد النظر في الارتفاع الزائد لبعض السدود، حتى يُضمن انسياب المياه إلى بقية المَصابِّ. إن العدالة في توزيع المياه تُستمد – كما هو معروف من الشريعة الإسلامية والقوانين العصرية، وحتى من شرائع البابليين والفراعنة،
إعادة النظر في موضوع الملكية العقارية، انطلاقا من مقاصد الشريعة الإسلامية بإحياء الأرض وتعميم نفعها، ومن العرف، الذيْن تضعهما القوانين السارية في الحسبان، وإلا فيُخشى أن تتحول المناطق الزراعية المتبقية إلى أراض بور، ويحْرم الناسُ من كسب رزقهم؛ جرّاء تعطيلها؛ إذ الهدف الوصول إلى تنمية محلية متوازنة، يشارك فيها الجميع، ويحصدون ثمارها بعدل وإنصاف،
3 – التحدي الأول : التعليم
• كان أول ما ركزت عليه السلطات العليا الموريتانية بعد الاستقلال: التعليم، بوصفه المدخل الصحيح لتحقيق الاستقلال الناجز، وتدعيم ركائز الدولة، لحاجتها الماسة للأطر، الذين كانوا يعدون على رؤوس الأصابع، والاستغناء عن الأجانب، الذين كانوا المسيرين الفعليين لدواليب السلطة، لذلك أعطت كل العناية للتعليم، بجميع مراحله، وخاصة الابتدائي والثانوي الذي كان متاحا داخل الوطن، ففتحت مدارس في القرى والبوادي، وخَصّصتْ أموالا طائلة لتجهيزها، وأقامت الكفالات المدرسية، وتحملت مصاريف النقل والسكن لتلاميذ المرحلة الثانوية، فحطت عبئا ثقيلا عن كواهل الأسر، ومنحت الطلاب في الخارج، واكتتب المعلمين وكونتهم بإنشاء مدرستين للمعلمين والأساتذة، وفي الخارج أيضا، كما انتدبت معلمين ومربين وإداريين متخصصين في المجال من الدول العربية، وبعض الدول الصديقة، وأرسلت متدربين إلى البلاد العربية، قبل فتح الباب أمام الطلاب في جامعاتها، وبذلك رسخت في الأذهان وجود الدولة، وشرعيتها؛ وضمن هذا التوجه فُتحت مدرسة متنقلة في حلة أولاد سيدي الوافي السنة الأولى من الاستقلال (1961) وانتقلت إلى وادي الرشيد بعد التقري، سنة 1968؛ وتوجد اليوم في البلدية عشر مدارس ابتدائية، منها اثنتان مكتملتان في الحاضرة، تضمان ستة وثلاثين وثلاثمئة تلميذ (336) ومثلهما في أشاريم، وتضم ثلاثة ومئتا تلميذ (203) والحويطات … والباقي من المدارس موزع بين رأس الطارف (فصلان)، الساگية (فصلان مجمّعان) آكنانه (فصلان)، تالمست (ثلاثة أقسام، منهما اثنان مجمعان)، انوارْ (واحد) أغنمريت (واحد بدون معلم) وثانوية في الرشيد.
• أما البلدية الثانية التابعة للمركز: التنسيق، فأنشئت المدرسة فيها سنة 1968، وبها اليوم مدرستان مكملتان تضم أربعة وخمسين وأربعمائة تلميذ (454) ومدارس متكاملة في أغلمبيت وإگفان، ومجموعة من الفصول في كل التجمعات والمراكز الصغيرة التابعة للبلدية، وإعداديتان في كل من أغلمبيت وإگفان، وثانوية في مركز البلدية، بها أحدا وعشرين وأربعمائة تلميذ (421). وخلال السنتين الأخيرتين نجح من ثانوية الرشيد ثلاثة تلاميذ فقط، بينما كانت النتيجة في انييملان 18% في العام الماضي.
• تعتبر نسبة التمدرس في البلديتين ضعيفة في مجتمع يشهد تطورا دموغرافيا لافتا، مع نقص في الفصول، يؤدي إلى الاكتظاظ، مع قلة المعدات والتجهيزات؛ أما المشكلة الأكبر، فهي انحطاط مستوى التعليم، الذي بلغ درجة تنذر بالخطر على حاضر الأجيال ومستقبلها. والمقلقُ تواصله سنة بعد سنة، والتعامل معه كأمر مقضي لا راد له، بحجة جاهزة وعلى كل الألسن، من معلمين وإداريين وآباء تلاميذ، ومسؤولين: “هذه حالة التعليم في موريتانيا كلها”!. نعم إنه وضع عام، لكنه لا يُخلي أحدا من مسؤوليته، خاصة في مجتمع منكوب منذ الاحتلال الفرنسي الذي سلط عليه العزل الدائم، انتقاما من مقاومته له، حيث حوّل أبناءه – بعد تدمير حاضرتهم الرئيسية في الرشيد ـ إلى بدو منزوين، مصنّفين في سجلات الإدارة وفي سلوكها، على أنهم غير جديرين بالثقة، وهو ما فشل قادة المجتمع المحلي، وممثلو الدولة الوطنية في تغييره بعد الاستقلال. إن الواجب الأدبي على الأقل، يقتضي تعويض ما فقده سكان هذا المركز من حقوق، وجبْرَ ما تعرضوا له من تمييز إبان الحقبة الاستعمارية وما بعدها. فكيف يتفرج آباء التلاميذ والمجتمع عامة على ضياع أبنائهم الذين هم أجيال الحاضر وأمل المستقبل؟ وكيف يصمت المنتخَبون والمسؤولون الحزبيون والسياسيون ورجال الدين والنشطاء، من نساء وشباب ووجهاء؟ ولما ذا لا تقوم الوزارة المعنية وإداراتها المحلية والسلطة الإدارية الوصيةُ في الولايات على القطاعات الإدارية المحلية، والمدرسون بواجباتهم، والمبادرة بإيجاد حلول على مستواهم، ووضع السلطات العليا أمام مسؤولياتها؛ إننا أمام تلاعب واضح بمصير أجيال بكاملها، حيث نواجه عملية ممنهجة لتجهيلهم، الذي من تجلياته التنافس بين المدارس لتقديم أكبر عدد من “الناجحين” في الانتقال بين الفصول، ومن الابتدائي إلى الإعدادي، وهكذا دواليك إلى الثانوية؛ ثم الجامعة، رغم التواتر على أن الكثيرين من حملة شهادة الإعدادية ـ فما بالك بخرّيجي الابتدائية ـ غير قادرين على تهجي نص بأية لغة؛ وهم أيضا أُميّون في بيئتهم ومحيطهم الأسري، وأدوات منازلهم، وفي المحيط الطبيعي: نخيل وأشجار ومواش وحيوانات برية وطيور؛ ولا يعرفون أسماء ولايات الوطن وحدودها، أو دول المحيط الجغرافي، رغم أنهم قضوا – على الأقل – عشر سنوات في المدرسة. فما القصد إذن من اختبارات هؤلاء، إذا لم يكن – كما يقال – لـ”تحقيق نسبة نجاح عالية تبرئ الذمة، وتحقق “العدالة” في توزيع نسب النجاح بين مدارس الإدارات الجهوية؟، والعجيب أن خريجي الإعدادية هم النسبة الأغلب ممّن يُكتتبون اليوم – دون تأهيل – للتدريس في المدارس الابتدائية، حتى يُعمّم الجهل، ويستمر حصار التلاميذ في المدرسة طول اليوم لـ “يريحوا أهلهم من شغبهم”، كما يقول أحد المدرسين.
• إن من أسباب هذا الوضع ما هو معروف وجلي للمتابعين وحتى لغيرهم، مثل:
إصرار السلطات العليا على التمسك بشعارات فارغة، مثل تعميم التعليم، بدل وضع مقاربة تركز على الممكن والأنجع، وإخراج العملية التربوية من المساجلات السياسية المحلية والتدخلات الخارجية السافرة،
إفراغ المؤسسة التعليمية من كفاءاتها التربوية والإدارية، بسبب التقاعد، أو الانتقال إلى قطاعات أخرى إدارية أكثر ربحا، بفعل التدخل السافر خلال الحملات السياسية، أو التحول إلى التعليم الخاص؛ والأسوأ أن ذلك شمل قطاعي التعليم الابتدائي والثانوي، حيث فُرّغ الكثيرون منه لشؤونهم الخاصة، الأمرُ الذي تفاقم في العقدين الماضيين،
تلاشي القواعد التي بنيت عليها المدرسة الحديثة منذ أن أنشأها الاستعمار، وورثتها الدولة الوطنية ولاءمتها مع متطلبات السيادة، وإهمال القوانين والنصوص المسيرة لها،
فوضى “الإصلاحات” وتطبيقها بدون إعداد المعلمين، وتهيئة التلاميذ،
الاكتتاب العشوائي لمعلمين دون مراعاة للضوابط المعروفة وعلى رأسها التأهيل، ومتعاقدين لا ينتمون إلى السلك، ودون دراية بالتعليم،
عدم جدية جهات الاختصاص: جهوية أو مركزية في التعاطي مع المشكل،
غياب الرقابة والتفتيش، وتجاهل نتائجها إن وقعت،
التدخل السافر للنافذين في الاكتتاب والتحويلات التي كرست إبقاء معلمين من أبناء القرى والحواضر من غير أصحاب الكفاءات فيها، أو استمرار أمثالهم سنوات طويلة دون تحويل، في خرق سافر للنصوص والتقاليد، ولقواعد الإدارة الرشيدة وسنة التناوب، وتعميق لحمة المجتمع بالتنقل بين أطراف الوطن،
غياب مبدإ المكافأة والعقاب،
تجاهل خصوصيات الجنسين، خاصة في المسؤوليات، والتحويل،
• من باب المقارنة فعندما نعود إلى الوراء نجد أن نتيجة المدرسة الأولى – بالنسبة لسكان بلدية الواحات (الرشيد) التي بدأت بفصل واحد ومعلم واحد، وعدد قليل من الأطفال، في ظروف الترحال في البادية – كانت إيجابية، حيث إن خريجيها وخريجي وريثتها في الرشيد – عِقدا من الزمن بعد ذلك – هم من أصبحوا – على قلتهم جميعا – كوادر، وحققوا لأنفسهم وأهليهم مستوى محترما من العيش والمكانة المعنوية، وشكلوا سندا لأبناء مجتمعهم وساهموا في خدمة الوطن بتميز. فالمدرسة كانت وستظل سُلّمًا للرقي والازدهار المادي والمعنوي، ورفع مستوى وعي المجتمع ومعيشته، وهو ما اقتنعت به الأسر الفقيرة، التي تحملت التضحيات بالاستغناء عن أبنائها وإدخالهم التعليم، وهي في أمس الحاجة إليهم في كدّها لتحصيل قوتها اليومي. ومنذ أن بدأ التعليم يتدهور، لم يلتحق بالإدارة ولا القطاعات الخاصة أو غير المصنفة – من خريجي مدارس الرشيد ومركزه الإداري – إلا أفراد يُعدون على رؤوس الأصابع، بينما ضاع الباقون في صحراء البطالة والتشرد. وقد حل محل التعلم في الارتقاء والكسب “التبِتيب” الذي لا يُكتسب بالتدريس والكد، وإنما بالشطارة والمحاباة، إذا لم نقل بالتلصص، ولا يُراد لأجيال مدرسة اليوم سبيلٌ غيره.
• لا بأس أن نقدم بعض الأفكار، علّها تنشّط الاهتمام بهذا الموضوع الطاغي على كل ما سواه، والموجة قبل كل شيء إلى المعنيين، من سلطات عمومية، ومنتخَبين وقيّمين على المدرسة، وآباء التلاميذ، والفاعلين السياسيين وعلماء الدين والنشطاء، والنساء والشباب والوجهاء، أي القوة الحية في المجتمع، لـ:
خلق إطار محلي للتشاور، برئاسة عمد البلديات، يشارك فيه ممثلو الأطراف المذكورة أعلاه،
إنشاء صندوق لدعم المدرسة، والعملية التربوية، وتحديد الأطراف المساهمة فيه،
التركيز على التعاون بين آباء التلاميذ وإدارات المدارس والمعلمين، للتصدي لتقصير التلاميذ وجبره،
المتابعة المنزلية اليومية للأطفال، للقيام بواجباتهم المدرسية، حتى ولو كان آباؤهم من غير المتعلمين. ولنا في الأجيال السابقة واللاحقة المثل، حيث معظم الأمهات والآباء أُميون،
تنظيم دروس خصوصية طوعية من قبل المعلمين وأبناء القرى والتجمعات، تشرف عليها إدارة المدرسة خارج أوقات الدوام، وخلال العطل،
العناية بالعلوم المدرّسة في المحظرة، من قرءان، نحو، صرف، علوم شرعية للناشئين، سيرة نبوية…
إحياء سنّة مدارس الكبار (محو الأمية) لمساعدة مَن حرموا من التعليم،
خلق فضاء متعدد الاختصاصات، تشرف عليه البلديات، يحتضن أنشطة ثقافية كالندوات الدينية والفكرية والشعرية، والمسرح والفن، والأنشطة الرياضية، ويحتضن البعثات الثقافية الزائرة، والباحثين والمنقبين عن الآثار، وحماية البيئة، وإنشاء مكتبة وقاعة للمطالعة،
دعوة المثقفين وأصحاب الكفاءات العلمية من أبناء مركز الرشيد الإداري، من علماء دين وأساتذة جامعات وشعراء وكوادر وغيرهم من أصدقاء المنطقة لإقامة ندوات في مواسم الگيطنه وفي العطل، وتشجيع أصحاب المكتبات المهاجرين، وخاصة المخطوطات بإعادتها إلى مقارها الأصلية، وبذلك يمكننا أن نستعيد جزءا من الذاكرة الثقافية، لحواضرنا.
ومما سبق، ندرك أننا أمام تقهقر ستكون نتائجه في منتهى الخطورة، لذلك لا بد من إطلاق صيحة إنذار عالية لقادة المجتمع ومسؤوليه ولجميع أطراف العملية التربوية لإنقاذ أطفالنا من الضياع، ومجتمعنا من الاندثار، كما حل بدول وشعوب مثل الصومال؛ فالدول لا تبنى إلا بالعلم، الذي يؤهل للتخطيط والقيادة والحكم الرشيد، ولا تستقيم إلا بالعدل وعلى رأسه المساواة في التعليم. وكما جاء في المدخل، فإن أكثر ما كرس سيادة الدولة الناشئة وحضورها هو التعليم، لأنه أساس تقدمها وصدقتيها، بل مشروعية أنظمتها السياسية، وهو ما على السلطات العمومية تداركه قبل فوات الأوان.
4 محاربة الاتكالية
• إن أخطر ما يهدد مستقبل سكان البلاد كلها والريف ومراكزه خاصة، روح الاتكالية والتعويل على مساعدات المنظمات الوافدة والهيئات الخيرية، سواء مباشرة أو عبر السفارات المقيمة النهج الذي ابتكرته الدول الغربية وقلّدته الدول الأخرى بما فيها العربية، بترحيب من الحكومات الوطنية، التي تتهمها تلك الجهات علنا “بعدم الأمانة كواسطة بين الممولين وشعوبها”!. وبتوجيهات من هذه الجهات أُنشئت منظمات أهلية في العاصمة والمدن، وانتشرت في الحواضر الريفية، إلى درجة أنْ صار لكل أسرة منظمتُها؛ غير أنه لم تسجل في هذا الحيز تمويلات أو هباتٌ ذات نفع يذكر، وإنما يتم الاقتصار على تقديم مواد غذائية قليلة، تعوّد الفقراء على أن نصيبهم منها ما يبقى – أحيانا – عن أسر متنفذة. وبشكل عام، يظل الناس في ترقب توزيع المواد الغذائية، يتنافسون عليها تلقائيا، حتى ولو كانت غير صالحة للاستعمال، أو من نوعيات رديئة، ومنها ما تقدمه الحكومة في خطة أمل، أو إبان مواسم الحملات السياسية والزيارات الرسمية. فالسجلات جاهزة لتضخيم الأسرة، والبرهنة على المسكنة وسوء الحال! إنها درجة متقدمة من فقد قيَم القناعة والنزاهة و”كبر الخيم”. ومن الواجب القيام بحملات توعية تشمل شرائح المجتمع كله لمحاربة هذه الروح، والتسول المقنّع، والعودة إلى العمل والاعتماد على النفس، فالإسعاف – حتى عندما كان متوفرا بكميات كبيرة وغير مغشوشة – لم يساعد في تغيير أحوال متلقيه، بل زاد الفقراء فقرا، وسلب إرادتهم ثم كرامتهم.
• إن الظاهرة التي تولدت عن هذه الروح، هي انتشار الزهد في الكسب بالعمل اليدوي المحلي، بل الترفع عنه، وعن المهن المعروفة بحياة الگصور، مثل تلك المرتبطة بالنخيل، كالتأبير (أجَنْكرْ) حتى أنه لا يوجد في وادي الرشيد اليوم – مثلا – سوى ثلاثة أشخاص يزاولونه، وهم من كبار السن، مما أفقد أعدادا من الناس مصادر دخلها، وحرم مُلاّك النخيل من الاستفادة من ثمره، فتناقص إنتاجه. فلجأ البعض إلى بدائل مكلفة، مثل المصاعد المتحركة، كما أوشك حُفّار الآبار المرصوفة بالحجارة (العيون) على الانقراض، إذ لم يعد في الرشيد ممن يقبل العمل فيها إلا ثلاثة أشخاص، كما انقرض العمل في المنازل أيضا؛ وعزف الناس عن مهنة رعاية الماشية، التي انحصرت في مواطني مالي من الطوارق المهاجرين، بعد أن انقرض قبلها غزل الوبر وصناعة خيامه، التي حل القماش محلها، وحلت النعجة البيضاء الملداء محل السوداء ذات الوبر الوافر.
• في السياق ذاته تخلت ربات المنازل عن إعداد الوجبات الغذائية المحلية الصحية، التي لم يبق منها إلا كسكس، لتحل محلها المواد المستوردة كالمكرونة والرز، وإن كانت أقل لذة وقيمة غذائية، وانقرضت أدوات هرش الحبوب وطحنها من مهاريس ورُحي. وتوقفت الصناعة اليدوية المرتبطة بالنخلة، كالحصيرة، بأنواعها المختلفة والطبق أو المتعلقة بشجرة السبط أو بالجلود، كالمخدات والأفرشة (آلواويش) بعد العزوف عن دباغة الجلود، التي تُرمى اليوم في الشارع. إن علينا فتح حوار مع أصحاب هذه المهن من أجل إعادة الاعتبار إليها، وتحسينها، كالعين التي يمكن أن تنافس بئر الإسمنت، إن وُسّع قُطرها وزاد عمقها، وكالحصير، والأدوات المصنوعة محليا. وعلينا دحض مقولة أن كل مستوَرَد أفضل، والدعوة إلى الإقبال على الإنتاج المحلي المتوفر، من حبوب وفواكه، ووجبات طعام محلية، والتزام المجتمع، وفي المقدمة النخبة بإعطاء المثل في استعمال المنتج المحلي، ومنه البناء ومواده من حجارة وسقوف.
5 حماية البيئة
• تتطلب حماية البيئة وعيا بمدى أهميتها لحاضر السكان ومستقبلهم، فالتصحر يتسارع بشكل حثيث، نتيجة عوامل عدة، منها الجفاف، ونزوات الإنسان، مما أدى إلى تلاشي الغابات والغطاء النباتي، وتقليص الرقعة الزراعية في جميع أنحاء المركز الإداري، وقضاء صيادي المدن المتنفذين بما فيهيم العاصمة – بدواعي المتعة والبطر – على كل ما يدب على وجه الأرض من حيوانات برية؛ فبعد الغزلان والحُبارى والأرانب والطيور البرية المستوطِنة من قطا وحمام، أو مهاجرة كإوز وبط، ها هي الدائرة تدور على ابن آوى (الذئب) وكلاب الكدية، وكلها عوامل تسبب حبس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. والمخجل أن تدمير ما تبقى من حياة في البراري، يجري في غيبة كاملة لسلطان الإدارة ورقابة البلديات، بل بمشاركة منتسبيهم أحيانا، مما ولّد يأسا عاما جعل المواطن غير مكترث بما يجري حوله، وكأنه قدر لا راد له.
• صحيح أن أكبر مصيبة حلت بموريتانيا بعد استقلالها هي تدمير بيئتها، وهو في مركز الرشيد الإداري اليوم وفي وادي الرشيد بصورة خاصة نكبة على الباقي من شجر الوادي، حيث تقوم قلة من تجار الحطب والفحم، بقطعه وحرقه لبيعه بأسعار خيالية للسكان، دون إذن أو رقابة أو أداء رسوم. وبالطريقة نفسها دُمرتْ دشرة الرشيد القديمة ومسجدها في ستينيات القرن الماضي ببيع أبواب منازلها وسقوفها لسكان تجكجه، وتركها تنهار على مخازن الكتب والعقود، التي كان الصبية يلعبون بأوراقها على أعين الناس دون اكتراث، لندبّج اليوم خطبنا بأن ذلك كان فعل المستعمرين الفرنسيين!. وهل من المقبول أن يظل الأمر على ما هو عليه، حتى ينتهي كل شيء، أمام أعين السلطة الرسمية من ولاة وحكام وموظفين إداريين ودرك وحرس وشرطة وعمد ومستشارين وممثلي وزارة “حماية البيئة” والناطقين باسم الأحزاب السياسية؟.
عن مدونة “أوراق مسافر”