العولمة إذ تأكل أبناءها.. وامريكا تتراجع.. والصين تتقدم
21 أبريل 2018، 08:46 صباحًا
منذ وصل دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة ، وكثير من البنى الفوقية التي سادت هذا العالم منذ انتهاء الحرب الباردة ، تتعرض للهزات المقلقة والتي تقوض مجمل هذا البناء وتضعه أمام تناقض بين مايدعيه وماهو قائم حقيقةً.
ولعل أهم مايتم تقويضه شيئاً فشيئاً هو مفهوم العولمة ذاته، هذا المفهوم الذي ظلت الولايات المتحدة الأميركية أكبر المروجين له والمدافعين عنه والمتصدرين له ، ليس فقط لدى دول العالم الثالث ، وإنما أيضاً لدى القوى الإقتصادية العالمية خلف أميركا ترتيباً كالإتحاد الأوربي وشرق أسيا. فمن كان يعتقد أننا سنصل إلى زمن نرى فيه الولايات المتحدة تدافع عن الحماية التجارية بدل الأسواق المفتوحة وحرية التجارة؟ ومن كان يعتقد أن المواجهات الإقتصادية الأميركية لن تقتصر على علاقاتها بدول العالم الثالث والإقتصاديات الناشئة، وانما ستشمل أيضاً تلك القوى التي تقاسمت مع الولايات المتحدة الترويج للعولمة وحرية التجارة بوصفهما يقيمان عدالة السوق بين جميع الاطراف؟
نعم، كان هناك من يعتقد بذلك، طالما أنه ينطلق من مفاهيم سياسية محددة، تقول بأن البنى الفوقية للنظام الدولي، كما لأي نظام داخل أي دولة، ماهي إلا تعبير عن مصالح الطبقات المهيمنة ، وتالياً عن مصالح الدول المتقدمة. لكن بالمقابل ، لم يكن هؤلاء يشكلون أغلبية في المشهد، بل على العكس. فلقد جرى تبني ماروجته أميركا والقوى الكبرى عن العولمة ، من قبل غالبية الأحزاب والدول والمنظمات ، بمافيهم يسار مخدوع ، مازوشي تجاه فشل تجاربه.
صحيح أن السيد ترامب لايعبر بأرائه حول الحمائية التجارية عن مجمل المشهد الأميركي أو الدولي، لكنه بالتأكيد يقدم مثالاً ومؤشراً هاماً عن حضور هذا الرأي في الأوساط الاميركية. فمايدعو إليه ترامب ، ورغم محاولات دحضه ومناهضته من قبل مؤسسات العولمة ، ماهو إلا تعبير مازال يتشكل أميركياً ودولياً، ومفاده أن العولمة وحرية التجارة قد استفادت منهما دولاً لم يكن مخططاً لها الإستفادة بهذا الحجم على حساب الدول المتقدمة والمهيمنة على الإقتصاد الدولي.
فعندما بدأت نذر العولمة بالتمدد لتشكيل المشهد الدولي بعد الحرب الباردة، عملت كل من أميركا وحلفاءها بجهد كبير لخلق مؤسسات تعبر عن هذه المرحلة. وكما كان صندوق النقد والبنك الدوليين هما تعبيران عن الإنتصار الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، كذلك كانت منظمة التجارة العالمية تعبيراً عن مرحلة العولمة بقيادة الولايات المتحدة. كانت حرية التجارة و تدفق السلع والأفراد والأموال السلس بين دول العالم ، هي العناوين العريضة للعولمة التي أرادتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الكبرى، كل حسب حجمه ودوره ونموه. لم يكن هناك وقتها داخل منظومة الحكم في تلك الدول، من كان يصدق أن الصين مثلاً ستتجاوز ألمانيا واليابان لتتربع على عرش ثاني أقوى اقتصاد في العالم، وتتجابه مع الولايات المتحدة رأساً برأس كما هو حاصل اليوم.
تشعر الولايات المتحدة اليوم بالغبن الشديد، فجميع المؤشرات الإقتصادية تشير إلى صعود صيني رهيب ذو خطر استراتيجي على مكانتها وتفوقها الإقتصادي. فهذا الخطر، ورغم كونه لن يؤثر على الولايات المتحدة في العقدين أو الثلاثة القادمة ، إلا أنه بالمعنى الإستراتيجي هو كل الخطر. إن هذا تماماً مع تردده صالونات السياسيين الأميركيين ، ودراسات مراكز أبحاثهم ومقالات صحفهم ، ومايقولونه “شوشرةً ” يعبر عنه دونالد ترامب علانيةً، ومايتخوفون منه لكن ضمن أصول لعبة العولمة ، يأتي دونالد ترامب لينسف بسببه كل العولمة التي دافعت عنها أميركا وروجت لها.
لقد كانت الشهور الأخيرة حافلةً بما هو مهم في ذلك ويتطلب الوقوف عنده والتأمل فيه. فالعجز التجاري الأميركي مع دول وقوى عدة (بينها اليابان والصين) قد جعلت من الإدارة الأميركية تتخبط في سياساتها. فمن انسحابها من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ في كانون الثاني الماضي، إلى فرض رسوم جمركية مرتفعة على واردات الصلب والألمنيوم في آذار الماضي بلغت 25% للأولى و10% للثانية ، وصولاً إلى محاولاتها إقامة اتفاقيتي تجارة حرة منفصلتين مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وهو ماترفضه اليابان إلى حد الأن، بينما قبلت به كوريا الجنوبية لكن تم تعليقه أميركياً لحين انتهاء لقاء ترامب بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في أيار المقبل.
وتشكل قضية زيادة الرسوم الأميركية على واردات الصلب والألمنيوم ، إشارة إلى تلازم المستوى السياسي مع المستوى الإقتصادي. فبعد الإعلان عن زيادة الرسوم من قبل ترامب في الثامن من آذار الماضي، ونتيجة البلبلة التي أحدثها المرسوم في صفوف المحور الأميركي، ومخافة زيادة الشرخ بين أميركا وحلفاءها، تم استثناء كل من المكسيك وكندا منها ، بينما جرى إعفاء أستراليا والإتحاد الأوربي بشكل مؤقت في وقت لاحق، لتبقى الصين بذلك وحدها المستهدف الأكبر من هذه السياسات الترامبية و بشكل مباشر.
أمام كل ذلك، كانت سياسات الرد الصيني تتجلى بزيادة الرسوم على واردتها من أميركا ، وتخفيض حجم استماراتها هناك، هذا اضافةً الى زيادة حجم وحضور اليوان الصيني في احتياطي العملات الدولية مقابل تراجع واضح للدولار. واختتمت الصين سياسات الرد مؤخراً بتقديمها شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها الحمائية في قطاعي الصلب والألمنيوم. هنا، نرى بوضوح حجم المفارقة والتهكم التاريخيين. إذ من سخريات الواقع أن ياتي يوم نرى فيه أكبر دولة راعية ومشجعة لحرية التجارة والأسواق، وذات إرث ليبرالي عريق (أميركا) تقوم بفرض سياسات حمائية، بينما دولةً أخرى صاحبة اقتصاد مخطط وذات خلفية شيوعية عريقة (الصين) تحتج وتنادي بالحفاظ على حرية التجارة !!
وهذه المفارقة يجب أن تعيدنا إلى مفاهيم أولية، أريد لها أن تحتجب بعد سقوط التجربة السوفيتية والإنتصار الأميركي الغربي في الحرب الباردة. فمؤسسات النظام الدولي ، سواء أكانت في زمن الحرب الباردة أو في زمن نظام فيينا 1815، ليست سوى تعبير عن مصالح وهوى الطرف القوي ، وكل مفرداتها تكون باتجاه خدمة مصالح هذا الطرف القوي. لكن هذه البديهية قد جرى تمييعها في عصر العولمة، حيث تم تعميم مقولات ومفاهيم تتحدث عن عدالة السوق ألياً، وأن على الدول الفقيرة فتح أسواقها أمام حرية التجارة وتقليص تدخل الدولة. طبعاً، هذه الدعوات لم تكن إلا في صالح الدول المتطورة التي تمتلك التكنولوجيا والصناعة ، وتستطيع المنافسة بأريحية. ولم تكن الصين وبعض دول شرق أسيا غائبة عن هذا المشهد، إلا أنه لم يكن يُتوقع لها أن تتجاوز عتبة الحصول على الفتات في هذا النظام الدولي، ودائماً كانت هناك مراهنة غربية على انفتاح الصين الإقتصادي كمقدمة لالتحاقها بالمحور الأميركي تبعيةً لا منافسةً، كما صار عليه الحال بعد ذلك.
وماصارت عليه الصين اليوم وبعض دول شرق أسيا، لم يعد مقلقاً للأميركيين وحدهم، بل تعداه إلى مؤسسات العولمة ذاتها التي ، ورغم محاولاتها مداراة ذلك، قد باتت تنظر إلى مشاريع الصين التنموية في العالم بكثير من الريبة والخوف من نشوء قطب صيني حقيقي في مواجهة القطب الأميركي الذي يرعى تلك المؤسسات. فمن يستمع الى السيدة كريستين لاغارد ، مديرة صندوق النقد الدولي، وهي تحذر من قلب بكين يوم الثاني عشر من نيسان الحالي ، من ازدياد الديون في دول المشروع الصيني الضخم ” طريق الحرير ” ، يتأكد بأن لمؤسسات العولمة هدف واحد فقط، وهو الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على عصر العولمة، لا العكس. فعبر التاريخ الحديث، زمن الحرب الباردة كما زمن العولمة، شجع صندوق النقد الدولي كثير الدول النامية ومتوسطة النمو على الإنخراط في القروض الدولية التي ترعاها أميركا وأوربا لإقامة بنى تحتية ومشاريع استثمارية كبيرة، هذا دون الحديث عن أو رفض مايترتب على ذلك من ديون وتبعية لتلك الدول الفقيرة تجاه أميركا ومؤسسات العولمة. بل على العكس، فلقد كان الصندوق ومعه البنك الدولي، يتحدثان دائماً عن فوائد متبادلة، ويحيلان الديون والتبعية إلى مجرد ضحايا ” كوارث طبيعية ” لايمكن تجنبها أو التقليل من أثارها.
لكن وبمجرد أن بدأت الصين الهيمنة على أسواق إفريقيا وبات ميزانها التجاري رابحاً مع أميركا وأوربا حيث منتجاتها أغرقت تلك الأسواق كما لم يكن متوقعاً قبل ثلاثة عقود، ومع إقامتها مشروع ” طريق الحرير ” الذي يشمل سبعين دولةً ستتلقى تمويلات وقروض صينية لإقامة بنى تحتية بمافيها موانئ عملاقة… بات خطاب مؤسسات العولمة يحذر ، وإن بشكل خجول بدايةً ، من تداعيات المديونية والتبعية التي سيفرضها المشروع الصيني على تلك الدول !! هذا في حين أنها دائماً ماشجعت و تشجع القروض والتمويل الأميركي أولاً والأوربي ثانياً لمشاريع البنية التحتية في العالم الثالث، وتعتبرها مؤشراً للإنخراط في التطور وفي “العولمة”. لاننسى هنا ، أن صحيفة ” أستراليان فايننشال ريفيو” قد نقلت عن مسؤول أميركي كبير، قوله إن الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليايان تناقش مشروع بنية تحتية دولية مشتركاً كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية (طريق الحرير) سعياً لمواجهة اتساع نطاق نفوذ بكين. وذكرت الصحيفة ، كما اقتبست عنها عنها صحيفة العربي الجديد القطرية، نقلا عن المسؤول الذي لم تسمه، أن الخطة التي تضم الشركاء الأربعة ما زالت وليدة، مضيفاً أن الوصف الأمثل للخطة أنها “بديل” لمبادرة الحزام والطريق وليست “منافساً ” لها.
نلاحظ من الخبر الأخير أن ” المنافسة” مازالت فقط خطاباً يصدر إلى دول العالم الثالث والدول متوسطة النمو، بينما الهيمنة والسيطرة هما مايجري العمل عليهما في دوائر صنع القرار الأميركي أولاً والغربي تالياً. ففكرة المنافسة بشكلها “الرومانسي” غير موجودة في ثقافة السياسة الأميركية عندما تكون خاسرةً تجارياً وتعيش هاجس التراجع أمام قوى صاعدة تمثل الصين رأس حربتها.
طبعاً، ليس المراد من هذا الكلام القول أن أميركا على وشك الإنهيار، لا. فالولايات المتحدة مازالت أقوى إقتصاد عالمي بمايسبق الصين بأشواط، وناتجها المحلي الإجمالي مازال يتفوق على الناتج المحلي لكل من الصين و اليابان وألمانيا مجتمعين، كما لايزال الإقتصاد الأميركي أكثر اقتصاديات العالم اعتماداً على تطوير القوى المنتجة في قطاع التكنولوجيا لخلق الثروة، وذلك بما يتفوق على أقرب منافسيها في هذا الحقل ألا وهي اليابان. فوادي السيلكون في ولاية كاليفورنيا قد بات قاطرة التقدم في العصر الحديث، ومنه يجري التحكم في منتجات الحضارة الحديثة كما في أذواق المستهلكين عبر العالم، وهو ماسيضمن هيمنةً أميركية على الإقتصاد العالمي لعقود مقبلة. فحتى لو استطاعت الصين في قادم السنوات التفوق إقتصادياً على الولايات المتحدة الأميركية، فإنها ستعجز عن مجاراتها في اعتماد نسبة وتناسب مرتفعين للعمل البشري قياساً إلى بقية عناصر الإنتاج الأخرى كالأرض ورأس المال. هذا إلى جانب أمر مهم أخر، ألا وهو سمة المجتمع الأميركي التاريخية كمجتمع مهاجرين يستطيع دائماً استقطاب العقول الخلاقة في كافة المجالات.
إن هدف ماذكر أعلاه هو التأكيد على أن المؤسسات الدولية والبناء الفوقي لمجمل النظام الدولي ليسا جيدين أو سيئين بذاتهما، كما أنهما ليسا بالصورة الرومانسية التي يتخيلها أبناء العالم الثالث خصوصاً منهم الليبراليون المأخوذون بالغرب، واليساريون المازوشيون تجاه فشل تجاربهم. فالنظام الدولي ومؤسساته وبناه الفوقية ماهي إلا تعبير عن إرادة القوي والظروف الموضوعية القائمة، ورأينا كيف أن هذا القوي لمجرد شعوره بوجود المنافسة كيف بدأ يفكر بالتراجع اشواط بعيدة نحو ماهو أساساً ليس له كالحمائية التجارية من جهة، والتشكيك بالقروض الدولية الضخمة من جهةٍ ثانية. علماً أن هذه الأخيرة كانت من أهم أدوات الغرب للسيطرة على العالم الثالث في زمن مابعد الكولونيالية ، وكانت بمثابة حصان طروادة حقيقي للسيطرة على تلك الدول من الداخل.
يهم هنا القول أننا لا نتحدث عن ظاهرة موجودة بعد ، فمايحدث من قرارات ترامبية ومن تصريحات غربية متناثرة وطفيفة، كلها لم ترق إلى مستوى الظاهرة بعد، وإنما فقط نتلمس محاولات لبداية تشكلها. على أنه بتقديري ستفشل تلك المحاولات لأن العولمة هي ظاهرة موضوعية ، وما على الغرب وعلى المؤسسات المالية والإقتصادية التي يديرها إلا قبولها والعمل على تحسين شروطه ضمنها، أي تماماً كما فعلت الصين بنجاح قبل ثلاثة عقود عندما فاجأت العالم بالتخلي عن المواقف الأيديولوجية تجاه الإقتصاد الدولي، ولعبت من داخله وبشروطه ، وذلك بما يخدم قضيتها الوطنية في التنمية والصعود والقوة.
فالتشكيلات الإقتصادية الإجتماعية عبر التاريخ ماهي إلا معطيات موضوعية ، لايمكن وقفها أو تغييرها أو تجاوزها إرادوياً كما حاول لينين ورفاقه فعله عام 1917 ، أو عرقلتها كما يرغب السيد ترامب اليوم. إن الإرادة والفعل الإنساني يمكن لهما فقط ، ولدرجات طفيفة، تسريع أو تأخير أو تحسين شروط تمظهر الظاهرة الموضوعية ، لا نفيها أو تجاوزها أو عرقلة مسارها. من هنا، فإن العولمة ستمضي وستستمر ، سواء تذمر ترامب من تداعياتها المفاجئة على بلده ، أو سواء امتعض البنك الدولي من وجود مصادر تمويل منافسة له. وما على الجميع ، دولاً وحركات سياسية وشعوب، سوى العمل على التقليل من الأثار الجانبية السيئة للعولمة ، بالإضافة إلى تحسين شروط انخراطهم فيها … وذلك إلى أن تشيخ ميكانيزماتها الداخلية وينقضي أمرها.