الثقافة: جَدَلُ الأرواح والأشباح/ ادي آدب
الإنسانُ كائنٌ مُرَكَّبٌ – في بنْيَتِه العَمِيقة- منْ قبْضَةِ طِينٍ،ونفْحَةِ رُوحٍ،وكلُّ واحدةٍ مِنْهُما تَنْزَعُ به إلى أصْلِها،فحَيَاتُه كلُّها – منذ النشْأة الأولى- مَجَالٌ مِغْناطيسي يَتَرَدَّدُ فيه أبَدًا، مُتَجَاذَبًا بيْنَ رُوحٍ تَتَسَامَى بِهِ في مَعَاريجِها العُلْوية،وبَيْنَ طِينٍ يُخْلِدُ به إلى الأرْضِ.
وقد كانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا غِذاؤُه الضَّرُوري،فالجَسَدُ الطِّينِي يَتَغَذَّى بالمَطْعُومَات، والرُّوحُ السمَاوِيةُ تَتَغَذَّى بالمَفْهُومَات،ومنْ هُنا كانَ التوازُنُ بيْنَ الجِسْم والعِلْم، هو قسْطاسُ الحَيَاةِ المُسْتقيم، وهيْمَنةُ الأرْواح على الأشْباح إفْراطٌ في التصَوُّف،وتَغَلُّبُ الجَسَد على الخَلَدِ تفْريطٌ في الإنْسانية لصالح الحَيَوَانِية.
وعلى ضوْء هذه الجَدَلِية الأزَلِية،كانَ التاريخُ الإنساني – على طُولِه- مُجَرَّدَ مَسْرَح تتصَارَعُ فيه القِيَمُ الرُّوحِية والقِيَمُ المَادِّية،وتتنَاوَبَانِ مَواقِعَ السِّيادَة والتَّبَعِيَّةِ،ففِي الفَتَرَات التي تكُونُ الغَلَبَةُ فِيهَا لِلْقِيمِ الرُّوحِية تَنْتَصِرُ”الكَلِمَةُ الطِّيِّبَة” الجميلة، و”تُؤْتِي أُكْلَها ضِعْفَيْن”،وفي فتْرَةِ هيْمَنَةِ القِيَمِ المَادِّية،يكُونُ:” السَّيْفُ أصْدَقُ إنْبَاءً منَ الكُتُبِ”،وتَكُونُ الدَّرَاهِمُ :
“هِيَّ اللِّسانُ لِمَنْ أرادَ فَصَاحَةً”
وهَكَذَا صارت اليوْمَ سُوقُ العِلْمِ- في هذا الزَّمَنِ العجيب – بَائرَةً، لدَرَجَةِ أنَّ السِّجَالَ تحَوَّلَ من الجَدَلِ بيْنَ”العَقْل والنَّقْل” قدِيمًا، بدون ترْجيحٍ نِهَائِيٍّ، إلى سِجَالٍ جديد بين”العَقْل والرِّجْل”، حُسِمَ فيه النِّزَاعُ بتفْضيلِ الأقْدَامِ عَلَى الأفْهام،ورَجَحَانِ “الجِسْمِ – عُمومًا- عَلَى العِلْم”.
وأمَامَ هَذا الاخْتِلال الرَّهِيب فِي بنْيَة مَنْظومة القِيَمِ،لمْ يَعُدْ المالُ والإعْلامُ مُسَخَّرِينَ إلاِّ لِخِدْمَةِ هَزِّ الخُصُور العَارية، إضَافَةً إلَى أنْوَاع الرِّياضاتِ الجَسَدِية الأخْرَى، ممَّا يَعْنِي أنَ ثقافَةَ الجَسَدِ أصْبَحَتْ – لِلْأسَف – مُهَيْمِنَةً عَلَى ثقافةِ الرُّوح،وهَذا ما يَسْتَدْعِي مَزيدًا من إعادة النظَر في السياسات الثقافية، فهذا مآلٌ خَطيرٌ، يُهَدِّدُ الإنسانية في إنسانيتها،إذا لمْ يُتَدَارَكْ في القريب العاجل؛ حيث إنَّ التَّغَوُّلَ المادي المَشْهُودَ،والرِّدَّةَ إلي عِبادة العِجْلِ السَّامِرِيِّ،الذي أصَمَّ خُوارُه العالي الآذان، قدْ مَثَّلَ صَحْوَة للحَيَوَانية التي تَسْكُنُنا،على حِسَاب الإنسانية الحَقَّة،التي أخْرَسَ صَوْتَ ضَمِيرها الحَيِّ،صَلِيلُ الأصْفَر الرَّنَان،وخَشْخَشَةُ وَرَقِ البَنْكَنُوتِ،الذي أمْعَنَ أبْنَاءُ آدَمَ فِي الخَصْفِ عليْهِم منه، لِيُوَارُوا به سَوْءاتِهم، فلمْ يَزْدَادُوا إلاَّ تَعَرِّيًا أمَامَ الآخَرِينَ، وحَتَّى أمَامَ ذَوَاتِهم، الكَلِيلَةِ مَناظِيرُها المَغْشُوشَة.
وهكذا، فإنَّ العُلومَ والعقول والأرواح – في عالمِنا الإسلامي- لَنْ يُحْتاجَ إليْها أكْثَرَ منْ فَتْرَةٍ كهَذه، يَسُودُها السَّفَهُ والنَّزَقُ والجُنُونُ،ويَقُودُ الجَهْلُ سَفِينَتَها الجَانِحَة، في بَحْرٍ لُجِّيٍّ منَ الأحْداثْ المُتلاطِمَة،طَغَى فيه زَبَدُ المَاديات على الجَوْهَر الإنساني.