“الدهماء”على الشاطئ الآخر.. مصرع “موهبة” و دفن “حلم”.
كانت الموسيقى أول حُبٍّ في حياتي،.. ولها في القلب عوالم، بادَلَتْني الحُبَّ سِرًّا في جوٍّ محافظٍ، في بيت وقور، لا تُسمع فيه إلا نشرة الأخبار، أخلصتُ لها اهتمامًا وهُيامًا، ، وأوقدتُ جذوة حبِّها في محيطي، واعتبرتُني محظوظة بوجودي في حياتها.. استبْطَنتُ منذ الصّغر رغبة جامحة في معرفة المزيد عنها،.. ولم يكن من سبيل الى ذلك الحلم الهُلامي حتى افتتح قبل سنوات الأستاذ سيدي ولد إسلمو، طبيب النساء، معهدا للموسيقى في جامعة نواكشوط الحرة ، فوجدتني في اليوم التالي للإعلان المُبهِج أُفتِّح حواسي في بناية المعهد لأتشبَّع موسيقى.. فالحدث من دافئات المُنَى،
أخترتُ “البيانو الديجتال”، .. أغلب المُسجِّلين لحِصَصِه أطفال من جنسيات غربية وأبناء دبلوماسيين أفارقة، بين السَّابعة والعاشرة من العمر،.. في قاعة التدريب تواجدتُ مع كُتلة المَرَحِ الصغيرة التي تأمَّلتني في براءة، ثم سألتني طفلة: « سيدتي أنت تُدَرِّسِين هنا؟ »، ابتسمتُ: « لا، حِلْوتي..أنا تلميذة، “زميلتكم”!»، حاول الصّغار التّماسك برهة أمام الاكتشاف، ثم انفجروا ضاحكين؛.. باشرْت و إيَّاهم مراسيم الصّداقة وكان علينا أن ننسجم عُمُرِيًّا، وبما أنهم أغلبية طويتُ السَّنين لصالحهم، و اندفعتُ هبوطا مع سُلَّمِ العُمر باتجاه “أقْرَاني”.. لزوم الوضع الجديد!.
أستاذتنا سيدة ألمانية مُسْلمة، مُسنَّة مُتخصِّصة في الموسيقى، وكاتبة مُتمكِّنة باللغة الفرنسية، وتمتدُّ على مساحة عقلية شاسعة، عامرة بالحكمة والتَّجارب،.. سلطوية جدًّا وثقيلة كالصّناعة الألمانية؛.. مازالتْ متمسِّكة في كبرياء برواسب من الإيمان بشموخ الجيرمان، و بدناءة الغُرماء الفرنسيين، فتوكَّأتُ على تلك الرَّواسب منذ اليوم الأول و نشَّطتُ بقيَّةَ مهارةٍ قديمة من فنُّ تكييف أمزجة الأساتذة، وأتخمتُ سَمْعها بأمجاد أُمَّتها وبنذالة أحفاد الغال من الفرنسيسْ…،
العزف على البيانو يتطلَّبُ تنسيقًا ذهنيًّا كبيرًا، فالعَيْنُ تقرأ في ذاتِ الوقت درجتين على السُّلَّم الموسيقي، (صُولْ) تعزفها اليد اليمنى، و (فَا) تعزفها اليسرى،.. اظهرتُ استيعاباً سريعًا للصُّولفيج (قراءة النوتة)، لكن لم يُسايره تقدُّم في الجانب التَّطبيقي، وكانت حفنة السَّكاكر، “زملائي في القسم” عكسي تماما تتراقص أصابعهم الملائكية في عفوية على مفاتيح البيانو دون مشقَّة، ولا يعنيهم النظري.. وحين يأتي دوري في العزف يتهامسون عليَّ بغِيبة مسموعة،.. تذكرتُ Ray Charles تُرى ما رأيه في عزفي.. طلبتُ من أستاذتي حِصصًا إضافية.. وبدأتُ التَّردُّد على بيتها ،
يحتَضِنُ بيت الأستاذة كلبًا مُتقاعدًا، اسْتهلَك عمْرهُ المُفترض ويَسْتمتِع – كسيدته – بشوطٍ تكميليٍّ من العُمر الفائض ،.. كما يحتضن البيت قطيعاً من القطط تعيش مع الكلب في وضع توافقي لحدِّ الائتلاف، ففي مملكة الأستاذة لا مجال للعداوات التقليدية بين الأتباع ( chien et chat)،.. يَقتل الكلب المُسنُّ وقته في التَّصاغر و مُلاعبة القطط كشيخ تخلَّى عن وقاره فلحقت به هيبته…اختارتْ له سيدته شريكة، كلبة محلية، طردَتْها بعد ثلاث سنواتٍ من سوء العشرة الزوجية،.. قالت إنها فوضويَّة و عَصِيَّة على التَّرويض… انثى موريتانية أصلية!
رغم مُضاعفة الحِصص لمْ أتغلَّب على عجزي في اتقان العزف،.. تَفنَّنتُ في الإفلات من مُحاولاتِ استاذتي التّشكيك في قدراتي .. فكلَّما لَمَّحتْ بأن لا فائدة من المواصلة، اسْتنسخُ نفسي أمامها ثانية، وأقنعتها بأن النُّسخة الجديدة مِنِّي ستكون أبْرَع و أكثر قابلية للتَّعلم من سابقتها ،.. واسْتصدرتُ لها مرَّاتٍ سَنَداتٍ جديدة من ذكائي أُسدِّد بها عجز الأولى … وكثيرا ما أداعبُ صبرها: « صِدْقًا سيَّدتي، موهبتي عالقة في زحمة “كبِّتالْ”.. لكنها ستصل!»
كنتُ يومها في بداية مأمورية بيولوجية مُضْطربة.. ومَا أصعبَ أن تكونَ مُتسلِّحًا بقُدراتِ تَعَلُّمٍ عاديَّة في ظروف فيزيولوجية غير عادية.. فلم يكن جمهور شِقَّةِ الأستاذة من الكلب للقطط على دراية بالتفاعلات الهُرمونية التي تَعْصِف بي، وبمشاكسات القيئ، فقد كانت مِعْدتي تفيض بسخاء باتجاه البلعوم… أحسنت في استغلال “الحالة” لاستدرار عطفها،.. كنتُ أُسايرُ بحماسٍ النَّفس الأمَّارة بالعزف، و كنتُ أقاومُ بقهرٍ ظروفا مُحبِطة مُرابِطة حولي،.. رائحة رحيق المثانة المنبعثة من القطيع المُدلَّل ، وَبَره المتناثر في الشِقَّة الضيقة، الحضور في ميعاد معلومٍ في صيف قائظ، و…الغثيان، .. أبتسِمُ للكلب الزَّعيم كلَّما قَدِمتُ لأضْمَن حيَّادَهُ فيما إذا طوَّعتْ لِي نفسي الهَمْس ببعض نوادِرِ السَّبِّ الجارح لصغارِ القطط المارقة، والتي أدْمنتْ التّحرش بأقدامي تحت طاولة البيانو، وقد حفظتُ أسماءها ومُيولها في المداعبة و أذواقها في الأكل، تقرُّبًا للأستاذة.
كنتُ بين تحديَّيْن، إتقان العزف الذي حَسِبته -عن جهالة – موعدًا مضمونًا، و التَّغلب على الفشل الذي يتوَعَّدني.. بل قد يُضيفُ الى مخزوني منه رقمًا جديدًا،… لقد عجَّل أدائي السيئ برفع كُلفة المُجاملة عن استاذتي، فأبْهرتْني ببرودها أمام اعتدادي بذكائي، إذْ باشرتْ بتسديد سهامها إلى كل خلل، حتى كادت تُفقدني متعة تخيّل انبلاج الموهبة.. يَشتهر الألمان باستقامة التفكير وقلَّة المجاملة.
كنت كلَّما بسطتُ يديَّ على مفاتيح البيانو مُحاوِلةً العزف بالسّرعة المطلوبة، انقطع الاتصال بين عيني التي تقرأ النُّوتة ويدي التي تعزف،.. فتتمايل النُّوتة في استرخاء حِينًا من الدَّهْر بين بَصري ودماغي،.. وتَحوَّلتْ أناملي إلى أصابع نقانق مُجمَّدة، تَتحرَّك بتثاقل الى أن تتخشَّب فوق مفاتيح البيانو فيُطلقُ استغاثة مفزعة كصوت سيارة إطفاء!.. تذْعَر القطط وينبحُ الكلب الهرم ، وتصفعني العجوز بنظرة حادة، فأذوب خجلا!…وتزمجر في انزعاج:« أووووف، أوصلي دماغك بالتَّيار قبل أن تبدئي! »، أتَمْتِم كالجنديِّ المبتدئ:« اسْتُلِم»، .. و أتزمَّلُ من جديد بقوة الإرادة.
تيقنتُ بعد فترة أني سأترك بصمة في تاريخ الفشل الفنِّي، و عظمةُ الفشل أنَّ نتائجه فورية… وكنت بعد كلّ تدريب خاذِلٍ أتمنَّى أن أدلق في أُذني دلوًا من المُقدِّمات الموسيقيَّة لروائع أم كلثوم،.. لأنظِّفها مِنِّي.
مع ذلك لم أقبل بتقويض حلم تولَّعْتُ به، وبعد اشهر من المُكابدة عزفتُ أوَّل لحن صحيح لمقطوعة صغيرة، .. يا لفرحتي!.. هتفتُ بحياتي، و قفزتُ خلف أسوار الحقيقة مُنتشيَّة بكسب التَّحدي بعد شرود في صحراء الإبداع،.. لكن ما لبثتُ ان اكتشفتُ أنَّه السَّراب تلقَّاني بالأحضان لِلَحظة.. وانْسلَّ!،.. فمُحصِّلة الجهد تُأكِّدُ جفاء تلك الآلة الموسيقية اتجاهي، لأني لم أستطع التَّقدم خطوة بعد ذلك اللَّحن اليتيم!.. وخشيتُ على عجوزي من جلطة وجدانية تلحق الأذى بأحاسيسها الجمالية.
عزَّيتُ نفسي.. وغَمَدْتُ أناملي، واجهزتُ على ما تبقَّى من الوَلَع بالتَّخلي عن التّدريب، فقد شهدتُ بنفسي مصرع الموهبة التي لم تكن أصْلاً، وشاركتُ صاغرة في دفن الحلم.. غير أني ربحتُ إلى اليوم صداقة مفيدة تطوَّرت على مهْلِها مع سيدة استثنائية زادت من حبِّي للموسيقى ومعرفتي لعالمها، وأهدتني مكتبة ثرية من الموسيقى الكلاسيكية.. واقتنعتُ من الغنيمة بحسن الاستماع وطيب الاستمْتاع. فالحب دون أمل من أسمى معاني الغرام.
……….
لا داعي للمواعظ المجانية بخصوص الموسيقى، لستُ في حاجة لها.. “حَدْ عندُ موعظة حاِركَتُ افليْد “يحوّلها الى فدوة ويرسلها للفرابي والكندي والخليل بن أحمد. وذاك الرِّجلي.