إضاعة الدولة وتضييع الأمة \ سعيد يقطين
منذ أن استيقظ العرب والمسلمون على مدافع نابليون، وهم يتساءلون: من هم؟ ولماذا تأخروا في الوقت الذي تقدم فيه غيرهم؟ إلى الآن، ونحن في النصف الثاني من سنة 2018، ما يزال هذان السؤالان مطروحين، وإن كنا نرى بعض الدول العربية قد جعلت من سنة 2030 أفقا، أي سقفا، لوضع حد للسؤالين، ضمنيا، وعمليا بتأكيد رغبتها في التحول بخصوص قضايا تتصل بعدم الاقتصار على بعض الموارد الطبيعية الأساسية لاقتصادها، أو محو الأمية. أي أننا بعد مرور أكثر من قرنين من الزمان ما نزال نتساءل عن المآل الذي انتهى إليه التاريخ القديم الذي جر الاستعمار، ونتدبر كيفية الخروج من مختلف الآثار التي خلفها التاريخ الحديث، وعلى رأسها «القضية الفلسطينية»، إلى جوانب أخرى تتصل بوضع حد للتبعية وبناء الدولة المستقلة اقتصاديا، وإقامة علاقات متينة بين مكونات الدول العربية والأمة الإسلامية.
بالمقابل نرى إسرائيل منذ بروز بذرة التفكير في إقامة «دولة» لليهود في «المؤتمر اليهودي» بزعامة هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر، قد تحقق في 19 تموز (يوليو) من سنة 2018، بإعلان الدولة القومية اليهودية الذي جاء مباشرة بعد الإعلان النهائي عن اتخاذ القدس عاصمة أبدية لهذه الدولة القومية. وما تلك العاصمة إلا لهذه الدولة، بين بداية التفكير في تحقيق الحلم اليهودي وتنفيذه على الواقع من خلال إقرار قانون «الدولة القومية» نجد أنفسنا أمام صيرورة متصاعدة تشكلت من حلقات مع وعد بلفور، والانتداب البريطاني الذي تمخض عنه الاستيطان الصهيوني، وصولا إلى التقسيم وإعلان ميلاد دولة إسرائيل عام 1948، إلى حرب 1967 إلى اتفاقية أوسلو.
إننا أمام صيرورة عملية، بطول نفس، ولعب بالزمن، واختيار التوقيتات الملائمة لإنجاز أي خطوة تصب في ما سيليها تصاعديا لتحويل الـ»فكرة» إلى «واقع» رغم كل الإكراهات التي كانت تحيط بها عربيا وإسلاميا منذ أواسط القرن الماضي حين كان لسان حال الحاكم العربي يدعي أننا «سنرمي بإسرائيل في البحر». أما منذ بداية هذا القرن فقد غدا لسان الواقع العربي لا يحفظ من بيت طرفة سوى شطره: «خلا لك الجو فبيضي وأصفري»، وتم نسيان البقية نهائيا تحت تداعيات ما أوصلتنا إليه الجهالات الرعناء التي انشغلنا بها.
مع قانون «الدولة القومية» رمت إسرائيل العرب أجمعين إلى البر المضرج بدمائهم، وهم يتقاتلون فيما بينهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، وأبصارهم عاجزة عن النظر إلى مستقبل ما. فنقرت ما شاء لها أن تنقر، وقد ذهب «الصياد»، فلم تعد تحذر أحدا، فإذا بها تشق طريقها وتواصله إلى تحقيق حلمها الأكبر: «إسرائيل الكبرى». وفيما يبدو لنا من آيات بينات على ما يجري في الواقع العربي أنها ماضية في إنجازه، وما «قانون الدولة القومية» سوى خطوة جديدة من خطوات الألف ميل التي تخطوها.
هل يكفي أن نناقش القانون العنصري، وندينه، ونقارنه بنظام الأبرتهايد، ونطالب المجتمع الدولي بالانتصار لقيم العدالة «الإنسانية»؟ أرى أن كل هذه الدعاوى وليدة القرن العشرين، ولم يبق لها أي مسوغ في الألفية الجديدة، وقد صار العالم على ما هو عليه الآن. إن قانون «الدولة القومية»، لمن لا يتأمل جيدا تاريخ الصراع «العربي ـ الإسرائيلي»، ولا يقرأ سوى «الكلمات»، متناسيا أن «الأفعال» أقوى من اللغة، كان يمارس عمليا، وعلى أرض الواقع، منذ قيام دولة إسرائيل. وبما أن لكل قرار أوانا، فإن ذكرى مرور سبعين عاما (ورقم السبعين له رمزيته الخاصة) على امتلاك الأرض، وتوسيع رقعتها، دون أي اعتراض يقضي بلا شرعية هذا الكيان الاستيطاني، لا يلزمه سوى اتخاذ القرار النهائي في تحديد «العاصمة الأبدية» (القدس) للدولة القومية. ولا يكون بذلك قانون الدولة القومية سوى «التوقيع» الذي تختم به كل الترددات والإحجامات، ونفاذ دعوى «الدولة اليهودية».
إن البرنامج السردي لقيام «الدولة القومية» برنامج محكم، ومتقن تركيبيا ودلاليا وتداوليا. لقد توفرت له «بنية أولية للدلالة»، أو «دعوى مركزية»، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتدخلت عوامل كثيرة أسهمت في انتقاله من الأوان إلى النفاذ، فتحققت الدعوى مع هذا القانون.
لكن عن أي برنامج سردي عربي يمكننا أن نتحدث؟ وهل أتقن الراوي العربي صياغة قصته وفق برنامج مضاد كفيل بجعل الدعوى المركزية اليهودية غير قابلة للتحقيق؟ لا. لم تتحقق دعوى رمي إسرائيل في البحر، ولا تحقق الجواب عن: من نحن؟ ومن الآخر؟ ولا بنينا الدولة القطرية العصرية، ولا حققنا «الوحدة العربية»، ولا فكرة «الجامعة الإسلامية». لم ينجح برنامج «الدولة»، ولا أفلح حلم جمع «الأمة». كانت مقولة «الشتات» تطلق على اليهود، فلم تبق مقتصرة على الفلسطينيين فحسب، بل امتدت لتصبح ملازمة للعربي أيا كان القطر الذي ينتمي إليه. كانوا يتحدثون عن «شعب» بلا «وطن»، فصار للشعب اليهودي الوطن الذي فرضه على الجميع، وافتقدت شعوب عربية أوطانها. فضاعت الدولة، وتم تضييع الأمة.
نجح البرنامج الإسرائيلي لأن فكرة «تأسيس» دولة كانت هي التي توحد مختلف الأطراف التي تكونه مهما كانت الأقطار التي عاشوا فيها، أو الإيديولوجيات التي ينتمون إليها. فوفر لها ذلك كل المستلزمات الضرورية للتحقق. فشل البرنامج العربي في «تحرير» الأرض لأن كل الأطراف التي تدخلت فيه كانت لها رؤية خاصة للتحرير، فضاعت القضية ضياع مختلف رؤى الأطراف.
كانت القضية الفلسطينية تجمع كل العرب والمسلمين، وفي الوقت نفسه كانت تفرقهم. اعتبرت قضية وطنية لدى كل الشعوب العربية والإسلامية. لكنها في الوقت نفسه كانت فقط «ذريعة» لمواجهة بعض الأنظمة بطريقة غير مباشرة. انقسم الفلسطينيون أنفسهم، فيما بينهم، تبعا لاختلاف التصورات حول عملية التحرير، فصارت الاختلافات العربية تنعكس على الفلسطينيين، وتدفعهم إلى الانحياز والانقسام. ولما كانت الأنظمة العربية والإسلامية منقسمة على بعضها، وتدخل في صراعات ظاهرة أو مضمرة بينها، ظل الصراع العربي ـ العربي، والإسلامي ـ الإسلامي مؤثرا على القضية وعلى الفلسطينيين أنفسهم. فصارت التناقضات الثانوية في ما بينهم في المستوى الأول، وتراجع التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني إلى الخلف.
هذا الافتراق العربي ـ الإسلامي، والتدخل السافر في الشأن الفلسطيني، كان الآخر (إسرائيل ـ أمريكا ـ الغرب) يستفيد منه، ويغذيه ويدفع في اتجاه تعميقه، وتمديده إلى ما لا نهاية. فلم يبق للقضية أثرها في النفوس، وبدأ يخفت التعاطف ولا سيما بعد أن وصل الأمر إلى حد الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني، والانقسام الحاد بين رؤيتين مختلفتين. جاءت أحداث الربيع العربي لتطرح سؤال المستقبل، فواجهتها الأنظمة العربية بأجوبة الماضي، فكان المستنقع الذي يمتزج فيه الطين بالدم العربي. وتصدعت البلاد العربية، وازدادت الفرقة والعداوة بين مختلف مكونات الجسد العربي، فلم تبرز لا الروح الوطنية، ولا القرابة الدموية، ولا الروح الإسلامية ليفلح أي منها في رأب الصدع، وتجميع الكلمة. هذا البرنامج الكارثي الذي دمر الدولة، وشتت شمل الأمة هو الذي جعل «التحرير» غير قابل للتنفيذ، وأدى في النهاية إلى إعلان الدول القومية، عشية إعلان القدس عاصمة أبدية.
استنكرنا اتخاذ القدس عاصمة، وسجلنا الإدانات، وها نحن نعيد الكلام عن قانون الدولة! سردنا قصة باللغة ولكن بدون برنامج، فظلت ناقصة، وكان لهم البرنامج فجاءت اللغة لتختم القصة.
كاتب مغربي
المصدر القدس العربي