بين الدولة والأمة في أيامنا هذه | حسن شامي
اعتدنا في أدبياتنا ولغاتنا السياسية، منذ عقود في الأقل، على استخدام عبارة الدولة القومية والوطنية أو الدولة ـ الأمة كما لو أن هذه العبارة تحيل إلى صيغة علاقة بدهية بين الصفتين. والحال أن هذا الاستخدام يبدو ثمرة ترجمة لمصطلح شائع في الأدب السياسي الأوروبي. وهذا ما يفسر استسهال الاستخدام ورواجه كتقنية أكثر من رواجه كمفهوم. وهذا ما يساهم في تقديم العبارة كتوصيف جاهز ومكتف بنفسه إلى حد الاستغناء عن الحاجة إلى مقاربة تاريخية العبارة وملابسات توالدها وشيوعها. نعلم أن العلاقة بين الدولة والأمة ليست بدهية وليست سهلة، وافتراض التطابق بين النصابين يبقى رهان عمل أيديولوجي. فالعلاقة معقدة ومركبة وتتلون صورها بألوان التاريخ السياسي ومواصفات التحولات التي طاولت أشكال التنظيم الاجتماعي ومواقع الفئات والطبقات الاجتماعية ودرجات صعودها وهبوطها في هذا البلد أو ذاك.
في فرنسا، مثلاً، هناك اعتقاد راسخ بأن الدولة هي التي صنعت الأمة منذ الثورة الفرنسية وتأسيس الجمهورية التي بقيت متقطعة بسبب التجاذب والتنازع بين الثوريين الجمهوريين وقواهم الاجتماعية الصاعدة والناشطة وبين أنصار النظام القديم في صيغته الملكية أو ما يشبهها، في تثبيت شرعيات «طبيعية» لحيازة السلطة كالدم والولادة والحسب والنسب. المعادلة قد تكون معكوسة أو بمقادير مختلفة في تجارب أخرى. يبقى أن الرافعة الأساسية للعلاقة بين الدولة والأمة تعود إلى المجتمع وبروزه كمسرح لتجارب تعاقدية بين أفراد أحرار وتكتلات وفئات وسيطة تسعى إلى حيازة شرعية تمثيل قائم على الاختيار وتقدير المصالح.
كيف نقرأ هذه العلاقة في العالمي العربي والإســلامي، خصوصاً أن لغتنا الاصطلاحية حـــبّذت طويلاً مصطلح الأمة وحمّلته دلالات مختلفة من بينها المجتمع والجماعة والطائفة أحياناً.
فلنسأل هل هناك صلة بين انتفاضات الربيع العربي واضطراب العلاقة بين الدولة والأمة؟ هل يعود هذا الانتفاض إلى وجود الكثير من الدولة في معنى الجهاز السلطوي والقليل من الأمة في حالات معينة مثل سورية وليبيا والجزائر؟ هل العكس صحيح أيضاً في حالات أخرى مثل لبنان والعراق الحاليين؟ هذه الأسئلة تحض على التمعن في المدى المتوسط والبعيد لتاريخية العلاقة بين الدولة والأمة وإن كان المدى القريب والمنظور أكثر استحواذاً على الاهتمام، خصوصاً أنه يدخل بالضرورة لاعبين آخرين، إقليميين ودوليين، إلى قلب العلاقة المذكورة.
نرجح إذاً أن متابعي التقلبات والتطورات السياسية في المشرق، إضافة إلى المولعين بوقائع انعطافات درامية، يصبون اهتمامهم في هذه الأيام على محورين: المعركة المرتقبة في محافظة إدلب في الشمال السوري، وارتفاع منسوب التوتر بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني على خلفية العقوبات المفروضة أميركياً من جديد. نرجح أيضاً أن يقتصر التعامل مع البؤرتين الفوارتين على وجه الإثارة الاستعراضية المستندة إلى الاصطفاف الجاهز. فالجمهور العريض، خصوصاً في المجتمعات المستقرة نسبياً، اعتاد منذ عقود على تفضيل صورة معينة عن التاريخ المرفوع راية عالية لأنوار عقلانية تحليلية منتصرة أو يفترض أنها انتصرت دفعة واحدة وإلى الأبد.
الصورة التي نتحدث عنها، بالتقابل مع صور أخرى لوظيفة التاريخ، هي صورة الموضوع القابل للاستهلاك السريع، ما يجعل السباق والتنافس على صناعة الرأي العام حلبة لاستعراض المهارات الإعلامية وفنون التسويق الدعوي. فالأمر يتعلق بتثبيت صورة تتعدى بكثير توصيف مساوئ الخصم، إذ تطاول قيمة المكانة التي ينسبها الخصم إلى نفسه والحكم عليها كما لو أن هذا الحكم صادر عن محكمة كونية متعالية عن شبكات المصالح وأهوائها واستراتيجيات السيطرة كما تفهمها وترسمها مجموعات الضغط الناشطة في كواليس اللعبة السياسية في البلدان الديموقراطية. ليس مستغرباً، في ترسيمة من هذا النوع، أن نقع على مفارقات وخرافات تضليلية وأهواء جارفة.
هناك، مثلاً، اعتقاد راسخ عالمياً مفاده أنه من الصعب الوثوق بحكمة رئيس عالمي مثل دونالد ترامب يحترف الشطط والمزاجية والابتذال والسفاهة. مع ذلك ثمة، في بيئات المشرق العربي، من يفرك يديه متلهفاً إلى إقدام ترامب على تنفيذ تهوراته الكلامية وضرب العدو المشترك حتى لو تبين لاحقاً أن ذلك أقرب إلى الحماقة منه إلى السياسة، كما يستفاد من التجربة العراقية وغيرها. ففي ما يخص إيران، تحديداً، يظهر أن مناشدة الحلفاء لتطبيق برنامج العقوبات ورزمتها، معطوفة على التهديد بمعاقبة المخالفين والمقصّرين، إنما هي تعبير عن السعي إلى فرض قرار أحادي وتظهيره في صورة انصياع دولي لحكمة وضعها التاريخ بين يدي رئيس شعبوي ملهم مثل ترامب. هناك حتى الآن ثلاث دول من العيار الوازن أفصحت بلغة ديبلوماسية لا تخفي وجه التحدي عن عدم مجاراتها سياسة ترامب في تنفيذ العقوبات، وهي ألمانيا والصين وتركيا. كان لافتاً أن يتحدث التصريح الصيني عن الشفافية والشرعية الدولية في التعامل مع إيران، غامزاً من قناة مخالفة ترامب الإرادة الدولية وشذوذه عنها. أما تصريح وزير الخارجية الألماني فذهب أبعد من ذلك، إذ حذر من عواقب السعي الأميركي إلى تغيير النظام والخشية من الوقوع في حالة فوضى أخطر من الوضع الحالي. أما تركيا فهي ستواصل استيراد الغاز من إيران لأنها بكل بساطة لا تريد لسكانها أن يغرقوا في الظلام.
ينبغي أن يكون المرء متهوراً كي يظن أن شرعية الاعتراض على بعض وجوه السياسة الإيرانية تجيز التوقيع على بياض تصورات ترامبية لا مكان فيها لشرعيات سياسية سوى شرعية الطاعة وقابلية الاستعمال. من الملاحظ في هذا السياق أن تصريحات ترامب منذ انقلابه الأحادي الجانب على الاتفاق النووي الإيراني صارت تعتمد أكثر فأكثر على تقديم سياسته كوصفة خلاص من نظام يقمع شعبه وينشر الإرهاب في العالم بحسب عبارات حكومية أميركية شائعة.
أما عن المعركة المتوقعة في إدلب فهي ستجدد لعبة الاصطفافات وخلط الأوراق بالنظر إلى كثرة الأمم المتزاحمة على المسرح السوري. لكن المشكلة الأكبر، وهي مصدر انسداد الأفق السياسي للمحنة السورية، تبقى في رهانات المـــتصارعين على تذويب النصابين، الدولة والأمة، بحيث يمــتص أحدهما الآخر بالقوة العارية أو بمعزوفات خــطابية فقـــيرة. بـــين شــعار «يبقى الأســـد أو نحرق البلد» وشعار «يرحل الأسد أو يرحل البلد» لا يبقى شيء سوى الخراب.