أصوات الحالمين.. عيــنــيــة ابــن زريـــق.. الـــقـــصيـــدة الـيــــتـــيــمــة/ حسن حريمو
من أروع ما اتفق لشعراء العربية من إبداع هذه القصيدة المعروفة بثلاثة أسماء هي: عينية ابن زريق، واليتيمة، والفراقية. والاسم الأول “العينية” نسبة إلى قافيتها العين على رغم وجود هاء مضمومة بعدها. وسميت اليتيمة أيضاً لأنه لم يصلنا من شعر ابن زريق غيرها، ولا يعرف له سواها. وهي فراقية لأن موضوعها الفراق، والتحسر على مكابدته دون طائل. وقائل هذه القصيدة الوحيدة الفريدة هو الشاعر العباسي أبو الحسن علي بن زريق البغدادي، وكانت له ابنة عم أحبها حباً عميقاً صادقاً، ولكن أصابته الفاقة وضيق العيش، فقرر الرحيل من بغداد إلى الأندلس لمدح أمرائها عله يصيب سعة من رزق يعود بها إلى بغداد دار السلام… وقد تعلقت به ابنة عمه وحاولت جاهدة منعه من السفر. ولكنه كان قد قرب المطي، وأزمع السفر، فقصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن في الأندلس، ومدحه بقصيدة بليغة جداً، فأعطاه عطاء قليلاً زهيداً، فمات حسرة وندماً وكمداً على تفريطه في حبيبته، وقطعه الفيافي والقفار والبحار ليكافأ بأقل مما يقابل به المتسولون.
وقال بعض مَن كتب عنه أيضاً إنَّ عبد الرحمن الأندلسي أراد أن يختبره بهذا العطاء القليل ليعرف هل هو من المتعففين أم الطامعين الجشعين، فلما تبيَّنت له الأولى سأل عنه ليجزل له العطاء، فتفقدوه في الخان الذي نزل به، فوجدوه ميتًا، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه العينية. فبكاه عبد الرحمن الأندلسي بكاءً حاراً.
وعينية ابن زريق هذه تعتبر من عيون الشعر العربي الفريدة… قال عنها ابن حزم الأندلسي: “من تختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف”.
وهي قصيدة جميلة من أولها إلى آخرها، وصادقة ودافقة، وأجمل ما فيها هو قافيتها “عُـــهُ” التي هي تسجيل فونوتوكي دقيق لصوت البكاء، وكيف لا يبكي من ألمت به كل هذه البلايا والرزايا، ولم تأته المصائب فرادي؟ وقد حظيت هذه القصيدة باهتمام كبير من الشعراء والأدباء على مر العصور، فعارضها أبو بكر العيدي (ت580هـ) بقصيدة من 49 بيتاً مطلعها:
لي بالحجاز غرامُ لست أدفعه ……. ينقاد قلبي له طوعاً ويتبعه
وعارضها أبو العباس أحمد بن جعفر بن أحمد الدبيثي (ت621هـ) بقصيدة من 31 بيتاً مطلعها:
يروم صبراً وفرطُ الوجدِ يمنعهُ …… سُلوهُ، ودواعي الشوق تردعهُ
ويشكك بعض النقاد المعاصرين مثل الناقد السعودي صالح معيض الغامدي في نسبتها كاملة لابن زريق، ويرى أن فيها أربعين بيتاً ليست له، وإنما هي جمَّاع عبر العصور من مجموعة عشاق ضمت إلى ثلاثة أبيات لابن زريق لتصنع هذه القصيدة، يتيمة الدهر. ولكن هذا رأي ضعيف بادي التمحُّل فليس في هذه القصيدة أكثر من صوت شعري واحد.
وإليكم نص القصيدة برواية السبكي في مقدمة “طبقات الشافعية الكبرى”:
أخبرنا بها أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الخباز قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو الحسن ابن البخاري وأبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب الشيباني وزينب بنت مكي ابن علي الحراني إجازة قالوا أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد أخبرنا إبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن نبهان الغنوي أنشدنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي أنشدني أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي الواسطي المعروف بابن بشران بواسط أنشدني الأمير أبو الهيجا محمد بن عمران ابن شاهين أنشدني علي بن زريق أبو الحسن الكاتب البغدادي لنفسه:
لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا يضر به ** من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا ** من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالبين يحمله ** فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التفنيد أن له ** من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ** رأى إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل ** موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى ** ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه ** للرزق كدا وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة ** رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم ** لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى ** مسترزقا وسوى الفاقات تقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قدقسمت ** بغى ألا إن بغى المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ** يوما ويطعمه من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا ** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني ** صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ** وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ** وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ** عني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ** بالبين عني وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته ** وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا ** شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته ** كأسا تجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين قلت له ** الذنب والله ذنبي لست أرقعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ** بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام أبت له ** بلوعة منه ليلى لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا ** لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني ** به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد ** عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ** آثاره وعفت مذ بنت أربعة
هل الزمان معيد فيك لذتنا ** أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ** وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه ** كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ** جرى على قلبه ذكرى يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ** به كما أنه بي لا يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا ** فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ** جسمي تجمعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته ** فما الذي في قضاء الله يصنعه؟