«أمريكا أولاً»: براغماتية تنطح أختها أو… تعانقها!
صبحي حديدي / موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي يتوجب ألا يفاجئ أحداً، حتى السذّج عن سابق قصد أو اعتلال مزمن؛ فعقود المليارات الـ110، التي أهداها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى ترامب، لا يعلو عليها أيّ اعتبار آخر يخصّ القوانين والشرائع وحقوق الإنسان. ما يتوجب التنبّه إليه، في المقابل، هو مقدار انتشار قناعة ترامب هذه في أوصال شرائح واسعة في المجتمع الأمريكي، بات شعار «أمريكا أوّلاً» لا يستهويها على صعيد قومي أو سيادي في المقام الأوّل، وإنما في ميدان واحد محدد هو المال والأعمال والاقتصاد والعقود الخارجية.
فلندعْ خاشقجي جانباً، وهذا لن يضير قضية باتت على كل شفة ولسان، ولننتقل إلى تطبيقات ترامب الأخرى لمبدأ «أمريكا أوّلاً» خارج إطار المملكة العربية السعودية، أو حتى الشرق الأوسط بأسره، كما في الصين مثلاً؛ لعلّ الانتقال يفيد في تأكيد جانب آخر لهذه المسألة: أنّ ترامب ليس أوّل رئيس أمريكي يُعلي شأن هذا الشعار، ويرفعه فوق كلّ اعتبار حقوقي أو قانوني، ولن يكون الأخير حتماً. صحيح أنه قد يبدو متشدداً في نظر البعض، بالمقارنة مع سواه (كما في معاقبة البضائع الصينية برسوم جمركية تبلغ 250 مليار دولار، أو عزمه على إلغاء اتفاقية بريد مع الصين تعود إلى عام 1874!)؛ إلا أنّ جوهر السياسة، ومعظم تفاصيلها أيضاً، لا يجعل ترامب نسيجا وحده أو فريد عصره.
ففي مطلع العام 2000 حظيت الصين بمرتبة «الأمّة الأكثر تفضيلاً» في ميادين التجارة والتبادل، وذلك بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول، في غمرة حماس الجمهوريين والديمقراطيين معاً. وكان تعبير «الفوز بالثلاثة»، إذا جازت هذه الترجمة للتعبير الأمريكي Win ـ Win ـ Win، هو الحصيلة التي استقرّ عليها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في وصف جملة البروتوكولات التجارية التي جرى توقيعها مع الصين الشعبية، أثناء زيارة الرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين للولايات المتحدة. بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة. ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولايات المتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها على حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال مثل تنّين آسيوي خرافي؟
ومع ذلك، أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، اعتبر كلينتون يومها أنّ الصين هي «الأمّة التي تقف في الجانب الخاطئ من التاريخ»، وكان يقف على يسار نظيره الصيني في مؤتمرهما الصحافي المشترك! ولكن… مَنْ الذي يؤرقه التناقض، حتى إذا كان صريحاً صارخاً، بين الوقوف خارج التاريخ في ميادين حقوق الإنسان والحرّيات والليبرالية، والصعود على كتف التاريخ في مسائل العقود والتجارة والاستثمار؟ لا أحد كما يبدو، باستثناء حفنة مئات من المنشقين وأبناء التيبت والدالاي لاما، وباستثناء الرهط المحدود المعتاد الذي يواصل معزوفات الحرب الباردة والعداء المقدّس للشيوعية، كأننا بالفعل في الحقبة الخاطئة من التاريخ وليس الجانب الخاطئ منه فحسب.
ترامب ليس أوّل رئيس أمريكي يُعلي شأن شعار أمريكا أولا، ويرفعه فوق كلّ اعتبار حقوقي أو قانوني، ولن يكون الأخير حتماً
ولأنّ الحال هكذا، والمثل في مليارات السعودية كالمثل في مليارات الصين، يكتفي رؤساء أمريكا باستخدام العبارة/ الكليشيه التي تضع الصين في الجانب الخاطئ من التاريخ بالمعنى السياسي والحقوقي الأمريكي، قبيل الانتقال إلى العبارات الأهمّ التي تضع الصين في الجوانب الأدسم من التجارة والأعمال والأشغال. ولم يكن الرؤساء وحدهم أصحاب هذا التلوّن البلاغي، والحقّ يُقال. بعض فرسان حقوق الإنسان في أمريكا، وهم غالباً فرسان النفاق وتجزئة الحقّ وكيله بألف مكيال ومكيال، صرخوا في وجه فيليب موراي كونديت، المدير التنفيذي لشركة «بوينغ» آنذاك: وماذا عن حقوق الإنسان؟ فردّ الرجل، دونما حاجة إلى تبطين عبارته بنبرة ساخرة: يا لمحاسن الصدف! لقد كنت في بكين حين عرضت أقنية التلفزة الأمريكية المشاهد الوحشية لاعتداء الشرطة الأمريكية على المواطن الأمريكي (الأسود) رودني كنغ!
للفرسان أنفسهم قال الرئيس الصيني: «ولكن لماذا لا تعودون إلى تاريخ بلدكم أيها السادة؟ ما فعلناه في إقليم التيبت لم يكن سوى عملية تحرير للعبيد من نظام قنانة ينتمي إلى القرون الوسطى. أليس هذا بالضبط ما فعله رئيسكم أبراهام لنكولن»؟ ليس تماماً بالطبع، ولكن المقارنة لا تخلو من منطق براغماتي بارع يتوسّل المماثلة والمطابقة؛ وهو أيضاً المنطق الذي استخدمه جيانغ زيمين في اختزال مجازر ساحة «تيان آن نمين» إلى «حادث شغب» توجّب قمعه بقوة القانون، لا لشيء إلا لكي تتواصل «الإصلاحات السياسية» في أجواء الاستقرار الضرورية، ولكي تسير خيارات اقتصاد السوق مثل سكين حادّة النصل في قالب زبدة. وبمعنى ما، لم يكن غامضاً وإن كان حاذق الصياغة، قال الرئيس الصيني: هل تريدون قطف ثمار هذه «الإصلاحات»؟ عليكم إذاً أن تتناسوا الدماء التي روت شجرة الإصلاحات لكي تعطي الثمار.
براغماتية أمريكية كانت تقابلها براغماتية صينية. الحال ذاتها كانت ناظم العلاقات الأمريكية ــ الصينية حين وقعت حادثة احتجاز طائرة التجسس الأمريكية في الصين، مطلع عهد جورج بوش الابن. لقد بدا واضحاً أنّ الأعمال والتجارة والمال، وليس العقائد والنظريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، هي التي تحكم وتتحكّم، وإليها احتكم الطرفان في نهاية المطاف. وبدا أكثر وضوحاً أنّ قواعد العلاقات مع القوى العظمى ليست كثيرة معقدة شائكة، بل هي في حال الصين لا تتجاوز ثلاثة مبادئ.
هنالك أولاً توطيد الأمن الكوني حيث بلوغ عالم آمن مزدهر سيكون أسهل بكثير حين تكون الصين جزءاً من السيرورة، لا تلعب وفق قواعد السلوك الدولي فحسب، بل تساعد في كتابة تلك القواعد وتطبيقها أيضاً. وهنالك، ثانياً، الضمانة الصينية لاستقرار أوضاع آسيا حيثما لا تشعر النفس الأمريكية الكونية بالطمأنينة الكافية. والولايات المتحدة تفكّر في دول مثل كوريا الشمالية، وفي أخرى مثل إيران والباكستان. والأمن الكوني هنا يترجم محتواه إلى حظر تصدير التكنولوجيا النووية، سلمية كانت أم عسكرية، وضمان «عدم وقوعها في الأيدي الخاطئة». ثم وقف صفقات بيع الأسلحة الصاروخية، وأيضاً التخفيف ما أمكن من الدعم الأدبي والدبلوماسي الذي تمحضه الصين بين حين وآخر إلى هذه الدول. والولايات المتحدة تفكر في طرائق «عقلنة» صوت الفيتو الذي تملكه الصين الشعبية في مجلس الأمن الدولي، بحيث يكون هذا الصوت جزءاً من جوقة الإنشاد الأمريكية ــ الغربية بدل الروسية ــ الآسيوية.
بيت القصيد هو المبدأ الثالث: توطيد العلاقات التجارية، وتصفية العوائق الجمركية، وفتح بوّابات الصين الشعبية أمام السلعة الأمريكية… دون قيد أو شرط. وضمن حيثيات هذا المبدأ وقّعت الصين عقداً لشراء 50 طائرة بوينغ، وعقوداً أخرى لشراء مفاعلات نووية، وبروتوكولات مختلفة ترفع المزيد من قيود التجارة بين البلدين وتهبط برقم العجز في الميزانية التجارية (44 مليار دولار) إلى معدلات دراماتيكية غير مسبوقة.
وكما التقى كلنتون وبوش الابن مع جيانغ زيمين، كذلك التقى باراك أوباما وترامب مع شي جينبينغ؛ في أجواء من توقيع العقود أو فرض الرسوم الجمركية، والحديث عن حضور في التاريخ أو خروج منه؛ بينما المعادلة الكبرى الغائبة دائماً هي الحقّ والحقوق: براغماتية تنطح أختها أو… تعانقها!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي