«الشعراء» لآراغون: وصية كونية من شاعر الفاجعة السعيدة
منذ الشطر الذي يكاد يكون الأشهر في المعلقات «الجاهلية» العربية «هل غادر الشعراء من متردّم»، حتى أيامنا هذه، لا يتوقف الشعر والشعراء عن أن يكونوا موضوع ذاتهم. فالشعر، بعد كلّ شيء، هو بالتأكيد واحد من أكثر المبدَعات نرجسية. غير أن هناك دائماً تنويعات عديدة في مجال تعاطي الشعر مع الشعر والشاعر مع زملائه الشعراء. ولئن كان العتب في مقدمة تلك الممارسات الشعرية، فإن الأخروية أو بالأحرى الإثرة – إيثار الآخرين على النفس -، ليست كثيرة الحضور، وتحديداً انطلاقاً من تلك النرجسية نفسها. ومن هنا تتخذ أهميتها في تاريخ الشعر، تلك القصيدة الطويلة التي نشرها شاعر فرنسا الأكبر لويس آراغون في العام 1960 تحت عنوان «الشعراء»، وظلت على أي حال واحدة من قصائده المظلومة من ناحية حصولها على الشهرة، على رغم أن جان فيرّا وغيره من كبار المغنين/الشعراء الفرنسيين قد غنوها بأكملها، – كما فعل فيرّا -، أو على الأقل غنوا مقاطع منها – كما فعل ليو فيرّي مثلاً، أو جورج براسّينس الذي بات السطر الذي غناه ضمن واحدة من أجمل أغانيه والذي يقول: «حين نتعلم العيش سيكون قد فات الأوان» مثلاً فلسفياً يُضرب -.
> لا يمكن الزعم أن «الشعراء» التي تقع في نحو مئتي صفحة يمكن اعتبارها واحدة من أكثر قصائد آراغون شعبية، لكنها بالتأكيد واحدة من أجمل تلك القصائد. والقصيدة التي تعتبر الى هذا كله نوعاً من «سيرة شعرية ذاتية» يتحدث فيها آراغون عن مسيرته الشعرية بين معلميه وزملائه، القدامى والمحدثين، الآتين من الشرق أو من الغرب، يقدمهم الشاعر معبراً عن دَينه لهم، عن جوهر شعرهم، وعن جوهر علاقته بهم. بل أكثر من هذا، عن معنى الشعر بالنسبة اليه وعما يفعله الشعر في هذا العالم منذ أقدم العصور.
ولعله يكفينا هنا أن نستعيد بعض أبرز الأسماء الشعرية لندرك ما يريد الشاعر قوله. فأبيات قصيدته تنتقل، وفي شكل يكاد يبدو عشوائياً أول الأمر، من عمر الخيام ومكانته في تاريخ الشعر، الى هولدرلن وبوشكين وفيرلين، مروراً بوقفات طويلة عند زملاء لآراغون ليس لأي منهم شاعرية أولئك أو مكانتهم، لكن آراغون يبدو حريصاً على ان تكون لهم مكانة مميزة في قصيدته: مارسلين ديبورد – فالمور ( من خلال «رحلة الى إيطاليا» )، وكاركو، ونزفال ( مروراً بـ «نثر نزفال» ) وداسوسي ( «عشاق ساحة دوفين» )، ولكن أيضاً روبير دسنوس ( من خلال «روبير الشيطان» ) وماتشادو، شاعر اللغة الإسبانية الأكبر والذي كان آراغون يعتبره أحد أساتذته الأساسيين، ثم طبعا ماياكوفسكي الذي كان الأقرب إليه حتى عائلياً لكونه كان لفترة من الزمن عديله(!)، هذا من دون أن ننسى سورياليّي البدايات الذين كان آراغون منهم، عند بداياته قبل أن ينصرف معظمهم إلى التروتسكية فيما اتجه هو إلى الستالينية، لكن هذه حكاية أخرى. ففي الزمن الذي كتب فيه آراغون «الشعراء» كانت كل تلك الانقسامات قد أضحت من الماضي.
> في الزمن الذي اكتملت فيه «الشعراء» كان آراغون قد أضحى من الضخامة والمكانة الى درجة بات معها في إمكانه أن يروي «تاريخ الشعر والشعراء» الجوّاني كمعلّم واثق من نفسه ومن مكانته. ومع هذا لا بد لنا من القول أن آراغون، بقدر ما تحدث في هذه القصيدة عن مكانة الشعراء وأهميتهم وائتمانهم على روح العالم وجوّانيته، كأفراد وكجماعة متكاملة، حرص أكثر من هذا، على أن يركز على ما يسميه «سلطان الشعر الغريب والمؤكد»، عن تلك «البداية التي دائماً ما تُستعاد من جديد للكون وللعالم»، «من طريق اختراع القوافي والأوزان»، «من خلال إعادة تركيب اللغة الشعرية في كل بهائها وجمالها». أو بكلمات أخرى يشاؤها آراغون أكثر شاعرية: من طريق ما يسعى في عمق أعماقه إلى «فضح» أو «ترجمة» تلك السيرورة التي تبدو مغمورة بالادعاء الطموح والتي يتخللها في شكل متواصل، إعادة اختراع للغة بل لعدد لا متناهي من اللغات.
> وليس أدلّ على ذلك بالطبع من كون آراغون يقول لنا منذ مدخل قصيدته أن «ذلك الذي يغني إنما يمارس على ذاته تعذيباً/ ترى أي صراخ يندلع في داخلي، أي حيوان أقتل/ باسم الخير باسم الشرّ/ وحدهم الذين يعرفون فضيلة الصمت يحارون جواباً/ أما أنا فلا أدري ما الذي يعتريني…». وفي المقابل نصل بعد غوص في عالم الشعر والشعراء، بما في ذلك عالم إلسا التي ما كان في إمكانها أن تغيب عن مثل هذه القصيدة، نصل الى الخاتمة التي يعود فيها الشاعر من جديد الى ذاتيته مستعيداً لغة الـ «أنا» بكل زخمها ولكن أيضاً بكل أريحيتها، مقدّماً نفسه كشاعر للقرن العشرين، يكاد يكون في شكل مضمّر تلخيصاً لشعر العالم كله وشعرائه، ولكن من خلال السؤال لا من خلال اليقين – وآراغون يقول لنا تلميحاً في القصيدة كلها، أن الشعر ليس له أبداً أن يكون لغة اليقين فهو ما وُجد أولاً وأصلاً إلا ليكون لغة السؤال -، فيقول «أنا لم أنته أبداً من ولادة ذاتي…»، مؤكداً، إنما بصيغة الجمع هنا – ما يحمّل دلالته شديدة الخصوصية -، «في هذه البيوت، قديمة كانت أم جديدة، لا يمكن لنا أبداً أن نكون في ديارنا…». بيد أن هذا لا يمنعه من أن يخلص الى دعوة يوجهها الى أولئك «الذين سيأتون من بعدنا»، الى الشعراء الشبان الذين يرسم «ليل الشباب صورتهم» وإلى كتّاب المستقبل قائلاً «الفاجعة يتعين على كل واحد أن يستحوذ على حصته منها/وحتى حين يحدث لصوت ما أن يصمت/ اعلموا دائماً أن الجمع سيستأنف العبارة التي تقطعت بها السبل، في عمق أعماقه/ وذلك منذ اللحظة التي يكون فيها المغني وحتى وهو على آخر رمق، قد قام بأقصى ما كان يمكنه القيام به…». فبعد كل شيء يعرف آراغون، ويقوله لنا هنا بصوت المغني الذي لا يكلّ «ليس هناك حب لا يكون ألماً. ليس هناك حب لا يقتلنا. ليس هناك حب لا يدفعنا الى الذبول (…). ما من حب هناك يمكنه أن يعيش من دون دمع. ليس هناك حب سعيد. لكنه بعد كل شيء حبنا نحن الإثنين».
> هل هي صورة متشائمة فجائعية للعالم تلك التي يصوّرها آراغون في هذا الشعر العابق بالألم؟ ليس هذا مؤكداً بالضرورة. فبعد كل شيء، يكاد الشاعر يروي لنا هنا واقع الكون في جوانيته، لا مأساة الوجود وحسب. فهو وكلما حدثنا عن الألم والدمع والموت، يعود ليقول لنا ان الحب والشعر معاً إنما صُنعا من هذا كله.
لكن الشعراء هم وحدهم الذين يدركون روعة هذا كله. فهو مثلاً حين يخاطب مارلو – الكاتب المسرحي والشاعر الإنكليزي مزامن شكسبير وكاتب إحدى أولى مسرحيات «فاوست» قائلاً له «مارلو، أنت تحتاج الحانة ليس كمسرح لفاوست وإنما كمكان لموتك، حيث تتحرك بين القتلة المحيطين بك وخناجرهم وقهقهاتهم، على ضوء مصباح شاحب/ على ضوء نجوم غبار من لهب في شهر آب إذ تتهاوى على الأرض، تعلن السماء كلها تلك الليلة مقتلة العنادل» يخلص الى التساؤل: «… ولكن ما الذي يعرفه الكون عن المأساة». حين يقول آراغون هذا يبدو كمن يصور جوهر الشعر وجوهر الكون في بوتقة واحدة.
> على هذا المنوال تسير تلك القصيدة البديعة التي تبدو في جزء أساسيّ منها كوصية لشاعر خبر الموت والعالم واللغة والجمال وروعة الحياة وعظمة المأساة ليضمها جميعاً في باقة واحدة تعبق بروح الإنسان وإحساسه بوجوده في كون صُنع من أكثر المآسي جلالاً، هو الكون الشعري الذي من أجله عاش آراغون، وفي حضن جلاله سيرحل بعد سنوات من رحيل امرأته وملهمته، وربما أيضاً قيده المرصّع، إلسا، التي تلوح لنا في ثنايا هذه القصيدة كما تفعل في كل أشعاره وكتاباته.
> حين أصدر لويس آراغون (المولود العام 1897) هذه القصيدة في كتاب مستقل كان في الثالثة والستين من عمره، لكنه كان يشعر ان لديه أشياء كثيرة يمكنه بعد ان يقولها. بيد أن تلك القصيدة سرعان ما بدت «ورطة» فكرية بالنسبة اليه، إذ شعر بعدها أنه قال، في الشعر على الأقل، كل ما كان في حاجة الى قوله. ومن هنا كانت رمقه الشعري الأخير حتى وإن نشر بعدها أشعاراً أخرى.
ابراهيم العريس والمقال للحياة
تعليق واحد