التسجيل.. وحكم “بوز” في رمضان.. / محمد السالك ابراهيم
في صباح هذا اليوم.. أيقظتُ ذاك المواطن الأثيني القابع بداخلي، منذ أيام دراستي لكتب اليونان.. وتلبُّسي بقراءة أدبيات الديمقراطية. كان مواطنو أثينا في تلك الحقبة رجالاً متوسطي القامة، أقوياء البنية، مُلتحين تماما مثل الكثير من المواطنين اليوم في بلادنا. ولكنهم لم يكونوا كلهم بالوسامة التي صورتها عبقرية النحات الإغريقي “فيدياس” على جداريات معبد “البارثينون”، حيث يظهر المسؤولون والكهنة والوصيفات والفرسان على ظهور الخيل، في الموكب السنوي المهيب، احتفالاً بميلاد أثينا التي هي إلهة الحكمة والقوة والحرب عند اليونان.
ذكَّرت المواطن الأثيني القابع بداخلي بأن عليه أن يبادر للتسجيل على اللوائح الإنتخابية قبل انتهاء المهلة المحددة.. فجادلني طويلا حول مدى دقة التعبير، هل المقصود هو مهلة قبل التزوير أم هو هدنة بين عمليتي تزوير؟ لم أتعب نفسي في النقاش معه لأني صائم.. ولأني أعرف جيدا بأن هاجس الأثينيين القدامى كان دوما الهدنة، خاصة بعد المآسي التي تعرضوا لها أثناء حروبهم الأهلية فيما بين المدن وبين الطبقات. ورغم أن اليونان قد تمكنوا من إلحاق الهزيمة بكورش الكبير، ملك ملوك فارس في معركة “ماراثون” الشهيرة، إلَّا أنهم طفقوا يقاتلون بعضهم بعضاً، بعد أقل من قرن واحد من تلك الملحمة. وعندها أخذت الحضارة اليونانية، التي كانت من أزهى حضارات التاريخ ، تُفني نفسها بنفسها من خلال هذا الانتحار القومي الطويل الأمد. ففي حرب “البلوبونيز” ذبح الإسبارطيون كل من وجدوا من اليونان في البحر، وعاملوهم معاملة الأعداء، كما قتلوا في معركة إيجسبوتامي Aegospotami التي انتهت بها تلك الحرب، ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينيين يكادون أن يكونوا هم صفوة المواطنين الأثينيين الذين قضت الحرب على الكثير منهم. في تلك المعارك، حارب اليونانيون بالقوادس ثلاثية المجداف، وانتصروا.. لكن ما نجاعة مثل تلك الأسلحة القديمة في معارك صناديق الإقتراع اليوم؟
أخيرا وبعد جهد، أقنعت المواطن الأثيني القابع بداخلي، بضرورة أن يتجاوز كل الخيبات والإحباطات من تعثر مسار الديمقراطية التعددية في البلاد على مدى قرابة ثلاثين سنة.. وطلبت منه ألا يؤاخذ الحكومة على تلكئها في إصلاح اللجنة المستقلة للإنتخابات، وأن لا يكثر اللوم للمعارضة بسبب قبولها أصلا الجلوس للتفاوض في الوقت بدل الضائع.. فالمثل يقول “لَمْفارگ اعْدُو”.
أخيرا، خرجت من البيت بعد صلاة الظهر واتجهت إلى أقرب بلدية.. عند مدخل مكتب التسجيل، الذي هو قاعة اجتماعات تعرفت عليها بسهولة، فقد سبق لي أن قدمت فيها بعض المحاضرات، فوجئت بأن عددا من المواطنين يجلسون القرفصاء في الانتظار.. وبأن بأن الباب موصد تماما، وبعد التأكد وجدت بأنه مغلق بإحكام..
سألت أين المسؤولون عن التسجيل؟ فقيل لي بأنهم في “بوز” pause، ، فاستغربت من “بوز” في رمضان وبعد صلاة الظهر.. ما حكمها؟ طرقت الباب طرقا خفيفا.. لكن لم يستجب من بالداخل.. فقلت أفتح يا ولدي؟ ثم ألححت في طرق الباب.. ففتح لي شاب في مقتبل العمر، يبدو أنه أفاق للتو من غفوة القيلولة، وهو متورم الوجه ربما بسبب السهر.. سلمت عليه واعتذرت له عن الإلحاح.. فقال لي نحن في “بوز”، فقلت له مداعبا: أتاك كهل من أهل فيسبوك، قادم من بعيد يريدك أن تسجله قبل انتهاء المهلة أو الهدنة.. وبالمناسبة أقترح عليك يا ولدي أن ترفض “بوز” pause، في رمضان، وتستغل وقتها لإكمال عملك حتى تستطيع الذهاب قبل انتهاء الدوام، لتستريح ربما ساعة قبل موعد الإفطار.. كان الشاب متوترا.. وهو يمسك الباب مواربا.. لم ألحظ بأن تقاسيم وجهه تبدي أقل استجابة للممزاحة التي بادأته بها قبل أن أقدم له نصيحة “بوز” في رمضان.. أخير تكلم وهو واقف على أطراف أعصابه: “هاذي نصيحة زينه.. يغير آنا ماني امعدلها”.. فقلت له جزاك الله خيرا.. وانصرفت.. شبابنا في هذا الزمن “ما فيهم العيب” .. لكن إطالة السهر ليلا.. وقلة النوم في النهار، قد تعكر المزاج..
حانت فرصتي للإنقضاض على المواطن الأثيني القابع بداخلي.. فقلت له.. أنا ذاهب لقضاء بعض شؤوني ولا يمكنني الإنتظار.. أما أنت، فباستطاعتك إنتظار التسجيل بعد “بوز” pause، إذا كانت لديك الرغبة والشجاعة للتصويت ضد الإسبارطيين.
أستغفر الله العظيم وأتوب إليه..
97 تعليقات