كتاب عربموضوعات رئيسية
هل أضحى العراق بين خطيئة البرادعي وخطايا الجوار؟ وهل سيشارك في الحرب القادمة؟
جاءت البداية في وقت لم يكن هناك فضاء إعلامي مثل اليوم نتذكر جيدًا متابعة B.B.C في عام 1991، عندما كانت (أبراهام لينكولن) تقصف العراق، هم لديهم ذكرى سيئة عنها. وإن استمرت لقرابة نهاية العقد الثالث نحو هذه الخراب.
هناك مواقف متنوعة وموثوقة.. وتقوم على أسس دقيقة ترى أن محمد البرادعى قد شارك فى الإجراءات التى أدت إلى صدور قرار الحرب على العراق وعملية غزوه التى أدت إلى احتلاله عام 2003، وسبق أن نشرت «روزاليوسف» المصرية حوارين متتاليين الأول ليسرى أبوشادى الخبير السابق فى وكالة الطاقة الذرية.. والثانى للعالم المصرى الكبير فى المجالات النووية الدكتور محمد ناجى.. واتفق كلاهما على أن ما اقترفه البرادعى فى عملية غزو العراق كان سببًا جوهريًا فى «شرعنة» قرار الغزو.
هنا وفي ضرورة أن نقيم الموقف الحقيقي الذي تبناه الموظف الدولي محمد البرادعى.. وهل كان عليه أن يتخذ غيره؟.. وما الخطايا التي ارتكبها؟ ما أدى إلى تجدد الجدل حول الموضوع هو البرادعي نفسه، تصريحاته المتكررة التي تحاول التبرؤ من الكارثة التي دمرت العراق.. دفاعه عن سمعته المهنية وتاريخه الذي يرى البعض أنه في هذا المجال كان مؤسفًا ومخزيًا..
سبق أن قال البرادعي في رده على أسئلة لمجلة «تايم»، قبل أن يترك منصبه الدولى: «الحرب على العراق أسوأ لحظة في حياتي.. كان علي أن أصرخ أكثر.. كان علي أن أصرخ لمنع الاستغلال السيئ للمعلومات التي قدمناها». هذا الندم المتحفظ، الذىي يخلي المسئولية الشخصية من قرار الحرب، لم يقنع الكثيرين، خاصة أن الوقائع ليست بعيدة.. وما جعل الموضوع حيًا مجددًا كان هو البرادعى نفسه أيضًا.. إذ أدلى بتصريحات لصحيفة «الجارديان» البريطانية يوم 2010/3/31 ركز فيها على مسائل ثلاث هي:
-إن جميع تقاريره «حول نزع أسلحة العراق» في فترة التحضير للحرب على العراق صيغت بطريقة تجعلها «محصنة ضد سوء الاستخدام من قبل الحكومات».
-استنكر استخدام الولايات المتحدة وبريطانيا أنشطة التفتيش في العراق لتغيير النظام السياسى فيه، وقال: «إن جميع المؤشرات التي ظهرت تقول أن قضية العراق لم تكن تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، بل بتغيير النظام، وتغيير النظام هو عمل مسموح به فى القانون الدولى، وإذا كان تغيير النظام هو انتهاك للقانون الدولى فأين هي المحاسبة»؟!.
للحقيقة، والتاريخ نقول إن سوريا كانت الوحيدة من بين الدول المشاركة فى اجتماع مجلس الأمن يوم 7/3/2003 التى أعلنت اقتناعها بصدق العراق وكذب الوكالة، فقد ذكر السيد فاروق الشرع وزير خارجية سوريا فى كلمته فى تلك الجلسة الآتى : «إنها لمفارقة غريبة وتبسيط ساذج للأمور أن يزعم البعض أن الحرب على العراق ستكشف ما يخفيه النظام العراقى من أسلحة الدمار الشامل، في حين لا يستطيع المفتشون كشف هذه الأسلحة، إن وجدت، رغم كل التسهيلات غير المسبوقة المقدمة إليهم.
لقد عمل البرادعى وفق الإملاءات الأمريكية التى أرادت من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تبقى ملف «الأسلحة النووية العراقية» مفتوحاً إلى ما لا نهاية من أجل إبقاء الحصار الشامل على العراق، ومن أجل استخدامه ذريعة لغزو العراق وتغيير النظام السياسى فيه.
مرت السنوات، وعلى خطى البرادعي جاءت التصريحات “في أي وقت نتلقى فيه تقارير عن تهديدات، أشياء تثير المخاوف، نفعل كل ما في وسعنا للتأكد من أن تلك الهجمات المخطط لها لن تحدث”. هكذا صرح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قبل مغادرة بغداد، بعد زيارة خاطفة التقى خلالها رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي. فماذا أكد بومبيو لعبدالمهدي.. هل أكد أن واشنطن ملتزمة بحماية سيادة العراق، وأن إيران تصعّد من أنشطتها في المنطقة، وأنه توجه إلى العراق بسبب هذا “التصعيد” الإيراني. في خطوة نحو جذب بغداد لـ”حماية” المصالح الأميركية.
إن التشنج (الإيراني- الأميركي) وصل ذروته في الأسابيع الأخيرة مع إدراج الحرس الثوري الإيراني، وهو الذراع العسكري الأقوى للنظام، منظمة إرهابية على اللائحة الأميركية وإلحاق ذلك بإلغاء الإعفاءات لثماني دول تستورد النفط من إيران. لقد استبقت واشنطن ردة الفعل الإيرانية، ببيان شديد اللهجة يحذر من أي هجوم قد تقوم به إيران مباشرة أو بشكل غير مباشر ضد أي نقطة نفوذ للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، سواء في الخليج أو قطاع غزة أو مضيق هرمز. لكن العنوان الأبرز لأي ساحة مواجهة بين واشنطن وطهران هو في العراق، وبسبب التسريبات الاستخباراتية الأميركية حول خطط للحرس الثوري هناك، وزيارة بومبيو، وكونه نقطة وجود أكبر عدد من المقاتلين الأميركيين في المنطقة.
العراق حضر سريعاً، من حظر في القنصليات بين (أربيل وبغداد) وكأن العراق ينقصه نزاعات وتصفيات حسابات بعد دمار (أمريكي- عربي) لقرابة الثلاثين عامًا.. ففي ظل التحشيد العسكري المتصاعد بين ايران والولايات المتحدة، وبعد ارسال حاملة الطائرات لينكولين، دخلت الجبهة العراقية على الخط، وطار بومبيو، إلى بغداد حاملاً صوراً تؤكد ان قوات “الحشد الشعبي” العراقية نصبت شبكة صواريخ قرب القواعد الامريكية على الحدود السورية استعدادًا لضربها. وبرهم صالح ظهر ليؤكد “أن الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة مهمة لبلاده، لكن يبقى أن هناك التزام من العراق بسياسته المتوازنة التى تبني جسور الصداقة والتعاون مع جميع الدول ومنها إيران، وأن بلاده تبنى علاقات مع الجميع على أساس أولويات مصالحها والعمل على تعميق المشتركات. مع الحرص على تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الشقيقة والصديقة فى مختلف المجالات”.
بالعودة إلى الداخل الأمريكي نجد أن ترامب الذي أرسل حاملات الطّائرات والسّفن والقاذفات العِملاقة إلى الخليج لإرهاب الإيرانيين بات حتّى الآن لا يعرِف من أين سيأتيه ولقُوّاته الخطر، والأهم من ذلك أنّه لم يعُد يتحدّث مُطلقاً عن المرحلة الثّانية من العُقوبات التي فرضها على طِهران، أيّ “تصفير الصادرات النفطيّة الإيرانية”، وبات يُرسل الوسطاء لاستِجداء حلٍّ تفاوضي. وهو القائل إنّه “سيرُد بقوّةٍ على أيّ عدوان تتعرّض له أمريكا ومصالح حُلفائها في المِنطقة”، وها هُم الحُلفاء يتعرّضون لهُجومين في غُضون يومين، الأوّل في الفُجيرة الإماراتيّة، والثّانية، في مُحافظتيّ الداوودية وعفيف السعوديّتين، ولكنّه لم يرُد ويُرسل وزير خارجيّته إلى العِراق لتأمين أرواح قوّاته، وفُرصه الانتخابيّة لدورةٍ رئاسيّةٍ ثانية، لأنّ مقتل جنديّ أمريكيّ واحد في العِراق يعني انهيار طُموحاته في هذا المِضمار.
الغريب أن كل ما يحدث يأتي في ظل تواصل مسلسل التصعيد (الأمريكي – الإيراني) في المنطقة.. ها هي واشنطن تحذر من تهديدات وشيكة لقواتها في العراق.. وتطلب من موظفيها غير الأساسيين مغادرة البلاد في أقرب وقت، وتجنب المنشآت الأمريكية هناك… هو تحذير وتوجس أمريكي ينفيه الجانب العراقي، مؤكداً استقرار الوضع الأمني في البلاد، موضحاً أن بغداد تنسق مع الأطراف الدولية كافة بهذا الخصوص. فالحقيقة أن السواد الأعظم من العالم انتظر مواجهة مفترضة في مضيق هرمز، ليأتي السيد/ بومبيو ويقول للسيد/ عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي، بأن الخطر على الولايات المتحدة ومصالحها وقواتها يكمن في العراق (600 الف جندي)، ويحمل رسالتين في الوقت نفسه، الأولى تهديد بأن بلاده، أي أمريكا، سترد على أي هجوم على قواتها بقوة ودون الرجوع للحكومة العراقية، والثانية عرض على إيران بالتفاوض.
لا شك أنه احتقان (أميركي إيراني) المتزايد منذ أكثر من أسبوع، لكن أن يخرج رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي ليقول خلال مقابلة تلفزيونية، “إن مسؤولاً أميركياً التقاه، أكد له وجود منصات صواريخ باليستية في البصرة، وأن اكتشافها كان السبب الرئيسي لزيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو العراق، لا سيما بعد أن رأت الإدارة الأميركية أن القضية بدأت تأخذ منحى أكثر جدية”.
هل حقاً هناك وجود “تهديد حقيقي للمصالح الأميركية في العراق؟، وهل هناك أكثر من 47 فصيلاً مسلحاً من الميليشيات، أعلنوا صراحة ولاءهم المطلق للولي الفقيه، ودعمهم لوجستياً من قبل إيران؟”. وهل التهديد الذي تمثله تلك الميليشيات للقوات الأميركية والسفارات والقنصليات والقواعد الأميركية المنتشرة على الأراضي العراقية حقيقي؟، وهل تثبيت الأهداف لهذه الفصائل من قبل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري قاسم سليماني، استعداداً لحصول أي مواجهة؟.
يبقى أن الرسالة الأميركية كانت واضحة، ومفادها طلب ضمانات بأن العراق سيكون قادراً على منع تلك الجماعات من تهديد المصالح الأميركية، وإلا سيكون الرد مباشرة ضرب تلك الفصائل دون العودة إلى بغداد!.. يبقى كذلك في النهاية أنها أمريكا التي أرسلت أكثر من (300 ألف) جندي إلى العِراق، وخسِرت (7 تريليونات) دولار و(ثلاثة آلاف) جندي من جرّاء هذا العُدوان الذي استند إلى معلومات مُزوّرة، ومع ذلك لم يعد في مقدور وزير خارجيّتها، أو رئيسها، زيارة هذا البَلد في وضَح النّهار، لنبقى في النهاية أمام واقعية هذه التهديدات وكيفية تعامل حكومة بغداد مع هذه التطورات؟ وفي أي إطار يأتي التأهب العسكري الأمريكي في العراق؟. فما هو نطاق المواجهة داخل العراق؟ وما أفق التصعيد بين البيت الأبيض والنظام في طهران؟.
يبقى في النهاية أن موقف العراق من التوتر في منطقة الخليج، أن ينأى بنفسه، لأنه إذا وقعت الحرب فلا ناقة للعراق ولا جمل، لذا على العراق أن يكون خارج اللعبة حفاظاً على مصالح شعبه. هكذا تحدث بعض العراقيين بعد نال البرادعي من الجوائز والتكريم ما لم ينله مسؤول دولي قبله؛ “جائزة نوبل للسلام”، وأربع عشرة أخرى عالمية، وخمس عشرة دكتوراه فخرية، وكل ذلك لا يغفر تقديره الخاطئ، والقاتل في آن، تجاه سلامة التواجد النووي في العراق، مع انحيازه للرؤية الأوروبية الانتهازية، والقائمة على الجهل. والأكثر إيلاماً أنه مازال على خطئه بعد ذلك كله.
أخيراً، فمن المناسب تذكير البرادعى بكلمة بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 12/9/2002 والتى كان حاضراً عند إلقائها، وفيها أعلن بوش خطته لتغيير النظام السياسى فى العراق، سلماً أو حرباً، بدعوى عدم تعاون العراق مع المفتشين وإخفائه أسلحة دمار شامل. وفى أى من التواريخ أعلاه، السابقة للغزو، لو كان البرادعى قد اقتنع بأن التفتيش هو غطاء لتغيير النظام السياسى فى العراق، كان يجب عليه أن يعلن رفضه أن يكون جزءاً من هذا المخطط، وأن ينأى بنفسه وبالوكالة عن هذا الهدف غير المشروع من خلال إعلان الحقائق على المجتمع الدولى والقول إن العراق ممتثل لقرارات نزع الأسلحة وأن التفتيش يجب أن يتوقف والحصار يجب أن يرفع، أو أن يستقيل إذا لم تسمح له الوكالة بإصدار مثل هذا البيان.
لقد وثقت منظمة اليونيسيف آثار الحصار على العراق بقولها إن خمسة آلاف طفل عراقي كانوا يموتون شهريًا بسبب هذا الحصار، ووثقت مؤسسة الأبحاث البريطانية «أو آر بى» موت 2,1 مليون مدني عراقي منذ الغزو الأمريكى للعراق حتى 2007، المسئولون عن قتل العراقيين بالحصار والعدوان العسكرى ليسوا بوش الأب والابن وتاتشر وبلير فقط، بل كل من أعطى الذرائع لهذا الحصار والعدوان. مع مرور العقود جاء ترامب وبومبيو والحلفاء في جوار العراق.. فهل أضحى العراق بين خطيئة البرادعي وخطايا الجوار؟.
المؤكد أن حاملة الطائرات الشهيرة (أبراهام لينكولن) هذه الأيام لا تتحرك لمجرد ضغط نفسي، بل تخرج لمهمة، ولا تعود إلا إذا دفع أحدهم أجرة عودتها. رغم ذلك يظل يحتفظ العراقيون بتفاؤلهم، على أمل بـ«صفقة لحل هذه الأزمة»، وعلى الجميع أن ينتصر في الحرب و«الانتصار في الحرب، هو تجنبها».
المقال لرأي اليوم