قِصَّة إسْعاف (الدهماء)
ذات يوم خريف ، في منتصف رمضان ساخن،.. الثالث من سبتمبر 2009م، وبعد ليلة مُمطرة، حَمَل إليَّ الصَّباح اتّصالاً قذفني من فراشي في حدود السَّادسة، كان من أسرة مَغاربيَّة من أصدقائنا، السَّيدة حُبلى بتوأم في شهرها السَّابع، .. وفي ما فهمتُ من تعبيرها اللاَّهث أنَّ الثّنائيّ الذي تحملُ، قرَّر اختصار الوقت وشمّ النَّسيم خارج المشيمة..، جاءها مَخاضٌ مُفاجئ، وهيَّ بحاجة لامرأة، وبحاجة أكثر لإسعاف مستعجل،..
وجدتها في حالة طلق مُتقدِّم،.. كانت ترتجف من أخمص قدمها الى غُرَّة رأسها،.. انطلقنا، سيارتي تركع وتسجد في الحفر النائمة تحت الماء، أصبحتْ الدقائق كالسَّلاسل الثقيلة، ولا أبالغ… فصراخ المرأة يخترق ظهري، وأقاوم على المِقْوَد رغبة جامحة في التقيؤ جرَّاء عدوى الألم.
وصلنا قسم الحالات المستعجلة بالمستشفى الوطني ،.. تجاوزنا بعُسْرٍ عتبة بوَّابٍ يرغي، يُحسن توزيع البذاءات، ويكيل السّعير بوجه عابس مُنفِّر،.. دلفنا قاعة الولادة، وكانت موجوداتها مُتواضعة، غارفة في بقع الدَّم والفوضى، حالها كفيل بجعل الرَّحْم يستفرغ من تلقاء نفسه،.. تتفرَّع منها غرفة صغيرة هي استراحة الطبيب، وأخرى للمُمرضات، شرحتُ لهنَّ الحالة، فأشرنَ عليَّ بإعلام الطبيب، طرقتُ بابه مرَّات، لم يُجب، ففتحتُ الباب وابقيته مُواربًا قَدْرَ ما يسمحُ لي بالتّعاطي معه، حيَّيتُ،.. كان مُضَّجعا، مُنشغلا بمكالمة،.. أشار عليَّ بالانصراف، تراجعتُ خطوات للوراء تأدُّبًّا، ولدقيقتين،.. ثم أعَدتُ الكَرَّة، فأعاد نفس الإشارة،.. ألححتُ عليه، فاستدار نوحي و ملامح الغيظ على وجهه، ..و صُراخ رفيقتي يُحدِّثه عنها، طلب منِّي انتظار قدوم الطبيب المُناوب بعد دقائق،.. وأن أنادي على احدى القابلات لمعاينتها، ثم نهض وأغلق عليه الباب!، .. تَضَرَّج وجهي بالحرارة، واحسستُ بجثتي تَحْتَرِق داخلي، وتحتَقِرُ مُحدِّثي على حديثٍ لا يستقيم،.. تقدّمتُ صوب القابلات، كُنَّ في هَرَج غير وقور، يُغريِّن ملابسهن للمغادرة، نقلتُ إليهن تعليمات الطبيب بنبرة خيبة، فكان جوابهن مُطابقا لجوابه: فريق القابلات المُناوب سيصل بعد دقائق!.. وقفتُ أتفرَّسهن في استغراب، وآمل منهنَّ غير ما سَمعتُ،..
والمسكينة تتابع حوارنا في جزع واضح، وتتشفَّع لبطنها عندهنَّ.. غريبة أوْطان، تلتمسُ الحظوة فَجْرًا لدى طبيب نصف نائم، ومُمرِّضات يولِّين الواجب الأدبار، وضعوا في المكان الخطأ.. زادت لامبالاتهن من ذعر المرأة ، فكُلَّما استغاثت بهنَّ أجبنها بفجاجة انفعالية.. كُنَّ يُحَقِّرن أمامها بوُجودِهَّن في هذا المكان.
لا أريد أن أنْهَشَ لحم الأطباء ومُلْحقاتهم من المُساعدين، أوْ أورِّطهم في شائنة ضدَّ الانسانية، لكنِّي أحسَسْتُ يومها أنِّي أمام قطاع نهض إلى حدِّ اسْتِرْخَاص الحياة.. ويقايضها بالكرامة.. حياتك مقابل نشوة الإذلال!. هل يعقل أنَّ كل ذات حَمْل وصلت في البرزخ الزَّمني الفاصل بين مُناوبتين مَنْذورة للإهمال وربما الموت؟!.
عجزتُ عن افتعال الشِّجار، أو تمطيط اللّسان عن حجمه الطبيعي،.. وما جئتُ أصْلاً للتَّداول مع رؤوس فارغة،..
كان عليَّ فقط أن أُحَوِّلَ السَّاكن إلى مُتحرِّكٍ، وإلاَّ أَصبحَ قبولي للوضع شاهد إدانة على تآمري معهم لوأد الحياة.
في الشّقق المقابلة لبيتي، يقطن طبيب لأمراض النساء والولادة، اقترن اسمه بالجهاد الإنساني في “طَبْ سينْكيمْ”، حلَّ بحيِّنا قبل فترة، تربطني به معرفة محدودة في إطار نشاطات رسمية جمعتنا،.. لكنَّه حُظيَّ بزوجة جمعتْ حُسن الخَلْق والخُلق، وأصرَّت منذ مقدمها الحيّ، أن تنسج علاقات حُسن جيرة وودٍّ مع الجميع.. هاتفتُ حارسَ بيتي، وطلبتُ منه اخبار الطبيب بحاجتي المستعجلة له في المستشفى.. تعذَّر عليه التَّواصل معهم،.. فطلبتُ منه أن يقرع باب شقَّتهم حتى ينفلق، فأجابني: ” ابْرَايْ”، فشعرتُ بالطمأنينة على المُهمَّة، فحارسي حمَّادي “ذوْقُ الآكْشِنْ الخَشِن”،..
كنتُ أيضا بحاجة إلى مَنْ تقف معي، وأغلب الأهل والأصدقاء غادروا في العطلة،.. قدَّرتُ وفكَّرتُ في أقرب ضمير مُستيقظ ذلك الوقت، وأوْثَق مَودَّة في المحيط القريب من المستشفى، يُحتَمل فيها سرعة الاستجابة والفاعليَّة، فاستقرَّ ذهني على حبيبتي فاطمة، كانت تعاني تمزُّقاً عضلياًّ في الكاحل، والوقت مُبكّر جدًّا في رمضان على سُكَّان “تفرغ نائمة”،.. ومع ذلك هاتفتها، وطلبتُ منها الالتحاق بي،.. لم تسْتفْسِر، وكانت معي بعد ربع ساعة، تزامُنًا مع وصول الطبيب الجار،..
تعامل الطبيب الجار مع الوضع بسرعة ودراية وانحياز للحياة،…وساق الله الفرج على يده الطَّيبة، وضعت المرأة مولودها الأول، يزن 1.8كلغ، (الوزن الطبيعي 3.4كلغ) .. أمر بنقله بسرعة إلى جناح الأطفال على بعد مائة متر، لإنعاشه!.. تسلمتْ فاطمة خَديجًا هو مُجسَّمٌ صغيرٌ لِوَعْدٍ بالحياة .. وانطلقتْ به تركض في سرعة تَفُوق السّلحفاة بخطوات،.. إلا أنَّ العزيمة سدَّدت خُطاها الى ان وصلت غرفة الإنعاش …(طارِحْنِ مُولان اعْليها ذَ الزَّمن).
دقائق وتسلَّمتُ الطفل الثاني بدوري،.. وزنه 1.9كلغ، أزرق اللون، ووضعه حرج بالمقارنة مع توأمه، جرَّبتُ الرَّكض به وكنتُ أشعر بالموت يُلاحقه،.. لكن مُفاجَأةً سيئة كانت في الانتظار،.. كلّ الحاضنات الطبية مشغولة، وعددها تسع فقط، تسع حاضنات لهذا الكمّ البشري!… تكفَّلتْ الصَّدمة بِكَتْم أنفاس بقية الأعصاب.. عُدتُ كالصَّاروخ للطبيب أحدِّثه عن الوضع، فأصرَّ على حاجة الطفل لحاضنة،.. قلتُ في يَأسٍ: وإلاَّ ؟،.. قال: الأعمار بيد الله..
عدتُ أدراجي ثانية نحو الإنعاش، تتلبَّسُني الهواجس، أحمل طفلا مرصودًا للموت،.. وأستمع لدقّات طبلٍ أجوف في صدري،..
كانت تقوم على الإنعاش مُمرِّضة بدينة، من فئة الزَّبانية.. نعقَتْ، الْتفتُّ اليها، فوجَدْتُها كعَربة شُؤْم، تحمل لُفافَة،.. طفلٌ أسْلم الرّوح للتَّوِ، سلَّمَتْه لأهله، وصاحت بي أنْ أسلِّمها مشروع الطفل، ثم اختفت عنِّي، وبقيتُ أتابعُ بالصَّوت دورها الخشن دون ارتكاس، ..
رابطتُ طيلة اليوم في حيِّزٍ ضيِّقٍ، يفصل بين غرفة الإنعاش وغرفة مُلحقة، يقبع فيها الطفل الثاني تحت جهاز للأشعة، يُنادمني القلق، والقلق نديم سمج،.. ونعيق البدينة ولفائفها الهامدة تَتْرَى، ومع كل ابلاغٍ بموتِ طفلٍ، أتحيَّن الدَّور على طفلنا..
على أيَّة حال، القاعدة أنَّ الموتَ نهاية الأحياء، لكنه في إنعاش الأطفال بدايتهم..
ظلَّت فاطمة في خدمة الأم، تُسند، تُحْضر الدَّواء، تُقدِّمُ الغذاء، وتواسي نفْسيًّا،.. تُسقط ألَمَ امرأة غريبة على مذاق شعورها، وهو ألم جرَّبته كل أمٍّ تَحرَّش الموت ولو للحظة بما وضَعَتْ.. ….
أنهى الطبيب الجار اسعافه بنجاح، وانسحب، وكان ذلك آخر عهدي به، فلم يمنحني فرصة شكره، كما رحل عن الحي بعد أن شيد بيتا خارجه،..
أفطرنا، في ردهات المستشفى، نقتسم قنِّينة ماء، ونتقاسم الانهاك وانشغال الخاطر،.. كان يومًا صعبا، لكنه يستحق أن تُسْفَك من أجله الأعصاب والرَّاحة.. فالأم بخير والتَّوأم الخديج تجاوز عتبة الخطر باتجاه العافية وعاش،.. وأسرة الغُرباء استقرَّ مَجْرى حياتها.
عدتُ الى البيت لأكتشف أن حارسي “حمَّادي” فهمني غلطا، فأوْعز إلى نساء “الكَردايه” في الجوار، بأن “البَطْرونه” كانت حاملا، وذهبت باكرًا تَلِدُ، واستغاثت بالطبيب الجار!.وووو. وكُنَّ قلقات على حالي.
تحسَّستُ بطني، استوضح كوابيس “حمَّادي ” المجنونة، لأتمكَّن من خنقها قبل أن تَعُمَّ الحيّ، وقد خفتُ من العودة ثانية لغرفة الولادة التَّعيسة، وأن أكون المفعول بها هذه المرّة.. أيُّ خَيَال أوحى له بهذا الافتراض.. هو عاشق كبير لأدوار البطولة في قصص مُعَتَّقة خَيَالاً وطَرافة، نتظاهر له بتصديقها ونسمِّيها غِيبَة “حَمَّاديات”.
اليوم،.. التوأم محمد وأحمد، ثنائيّ جميل، متطابق الملامح، يدرس، ويتكلم الحسَّانية بطلاقة.
اكتشفتُ منذ فترة وجيزة على هذا الفضاء حسابا للطبيب، مُغيث الصَّرخة،.. إنه محمد حم ولد عبد القادر
سيدي!،.. لك منِّي شُكر استغرق في ذهني عقدا من الزَّمن،.. شكرا من القلب لطبيب فذِّ بين الأطباء.
شكرا لسيدة تعطي، ولا تراجع الحِساب
موفَّقة شنقيط التي انجَبتكُما.. فمعادن البَشَر تَتَكشَّفُ عند الاحتكاك بالأوقات الحرجة
171 تعليقات