أجراس الغياب.. كيف نموت حبّا؟… قراءة في رواية «الغجر يحبّون أيضا» لواسيني الأعرج
القراءة في العمل السّردي الرّوائي ليست فقط البحث عن مستويات جمالية أو محاولات تصيّد خلل البنية داخل الرّواية، إنّه أيضا ذلك البحث المضني عن أثر للذات القارئة انفلت في غفلة من اشتغال الرّوائي وهو منهمك في رسم مآلات شخوصه وبعض ذاته، القراءة في الرّواية هي أيضا تلك العلامات المشتركة بين القارئ والكاتب، ومنها المكان والزّمن وأطروحات السرد الجمالية الكامنة في عمق اللغة، كل هذه الخواطر الما – قبل قرائية تستنفرها رواية «الغجر يحبون أيضا» لواسيني الأعرج في نفس القارئ.
الرّواية، الواقع والقراءة:
تثير هذه الرّواية سؤال النقد الذي يتحدّد عند بعض النقاد بالتفتيش الاستقصائي في مستويات النص بحثا عن الاهتزازات الفنّية واللغوية والمشهدية، وهذا، قد يكون عن سبق إصرار وهو ما يمسّ بجمالية القراءة التي – في ما يبدو لي – تتحدّد بمستويات ثلاثة: المستوى المعرفي أي معرفة النص، وكل نص يحوز أحقية المعرفة به كإنجاز حقّقته الكتابة، ومستوى الذاكرة الإبداعية، أو انتشار النص كمعلم نتيجة التكريس الذي حقّقه الكاتب داخل جغرافية معيّنة، وهم ما يتيح ويوسّع فرص قراءة النص، ثم المستوى الثالث المتمثل في القراءة النقدية بالمفهوم الاصطلاحي، التي تعتمد القراءة الأولى التذوقية والقراءة الثانية النقدية.
انطلاقا من محبّة المكان والتشاركية الواقعية التي وفّرتها الرّواية للمكان (وهران) بين القارئ والكاتب، أو التواطؤ الحِبِّي للمكان، شعرتُ بكينونة الرّواية تسحبني من نقطة الفراغ في وجود راهن لحظة القراءة، الذي يندمج فيه وعي التلقي ببانوراما اللغة والحدث منعزلين عمّا يحيطهما، لتملأ ذلك الفراغ جسورا نحو الحدث والمكان والزّمن العالقين في أحابيل لعبة التبادل الدائر بين حركة الذات الحنينية في ماضي المكان وتمثلاتها له راهنا، بفعل الاستعادة السردية القوية، وبذلك لا تترك القراءة القارئ وحيدا في تجريد الحدث، بل تستمر صامتة تسوق له موسيقاها.
الموت والحب / زمن الاسترجاع:
رغم أنّ الرّواية تتكلم عن الحب إلا إنّها تبدأ بمقطع شعري لغارسيا لوركا بعنوان «الموت والكوريدا» ينتهي بهذا السطر الشعري: «الباقي لم يكن إلا موتا. لا شيء سوى الموت»، والعنوان يحيل إلى هذه الثيمة التي ينغلق عليها النص الرّوائي في معنى الحب، فالحبّ جمع البطلين أنجلينا وخوسي ليموتا عشقا في مدينة وهران، وأيضا ليموتا عشقا في «الكوريدا» وليموتا في آخر المطاف في تراجيديا الموت ذاته، حتى الجد إيميليانو زباتا مات في حبسه منتحرا عشقا في الحرّية، وتعتبر هذه الإحالة إلى الموت عبر موضوع الحب ابتعاثا نفسيا لذاكرة لا يريدها الكاتب أن تموت، تمثّل ذلك التنوّع الثقافي والاجتماعي الذي أنتجته الإثنيات المختلفة في فضاء وهران، والموت في حدّ ذاته يتأسّس جماليا كلّما كان منتجا لقيم حياتية تمثلت في الرّواية في ذلك الهاتف الوجداني الطالع من روح «أزميرالدا» ابنة خوسي وأنجلينا، التي راحت تستدعي الغياب عبر الرسالة التي تخاطب فيها أبويها الراحلين، الغياب باعتباره «موتا» دلاليا أحال بعض الشخوص إلى الوجودية السلبية، لتُجدّد عبر ذلك علاقات الحب المنتجة في مكان وزمن معيّنين، وحتى حي «لاكاليرا» من الأحياء التي شيّدها الإسبان ويعتبر أوّل حي في وهران، والذي هدم سنة 1980، وبهذا يصبح موضوع الموت المرتبط بالحب في استعاداته للمفقود خرقا جماليا لفعاليتي المحو والهدم المؤسّسين للفجيعة والمأساة.
الجسد كينونة التعالي:
«وحدهم الغجر يعرفون أنّ للجسد طعم وللذاكرة رائحة أو روائح»، ارتباط الجسد بالذاكرة ينطلق من أنّ للجسد ذاكرة حسب موريس مرلوبونتي في تقسيماته: الجسم الحالي والجسم الاعتيادي، حيث أن الجسم الذي بتر أحد أعضائه (الجسم الحالي) يظل الشخص يذكر ذلك العضو وكأنّه موجود، أي إنّ الجسم الاعتيادي خزّن حركات هذا العضو. تنبثق فعالية الجسد في الرّواية من خلال حركة المتادور «خوسي أورانو» في حلبة مصارعة الثيران، حركة تتطلبها «الاستوكادا»، يتفادى بها المصارع قرني الثور ليغرس في أعماقه السّيف حتى المقبض، وأيضا تنبثق حركة الجسد من رقصات الغجر المصاحبة للأغاني التي كانت تؤدّيها «أنجلينا»، وحركة السرد الواصفة تمنحنا مستويين لإدراك الجسد يتداخلان ليكشِفا عن مستوى الجسد المستعاد رمزيا من الموت، فالحركة الباعثة للموت خلال «الاستوكادا» هي لحظة لانتصار جسد على آخر، جسد «المتادور» على جسد الثور، فلحظة الموت مشتركة بين الذوات المتصارعة، ويحدث أن ينتصر الثور على المصارع، حركة الحياة هذه عند المُصارع تنبثق موضوعيا في فضاء الجسد الأنثوي الباعث لتفاصيله في موسيقى «الفلامنكو»، وبالتالي تنبعث هندسة الجسد وعمقه الحسي من فعاليات الموت على الحلبة وفعاليات الحياة على وقع الموسيقى، وهو ما يجعل الصّورة الانثربولوجية للجسد في الرّواية تنجــــز انطلاقا من هذا التماهي بين حالتين جسديتين متضـــادتين لا تَبعثان سوى الحــــياة، ولو إنّهما امتــــثلا للموت المحقّق سرديا، إذ في الرّسالة التي تقــــرأها «ازميرالدا» تصل إلى جملة كتبها خوسي: «لنا كل الموت لننام»، تداخل المعنى بين الموت والنّوم يتحقّق دلاليا في إنتاج معنى سيريالي للجسد في أحد الأسطر الشعرية الغنائية الغجرية المسرودة في الرّواية: «نحن الغجر لا نملك أحذية، ننتعل الرّيح والغيوم»، جسد لا يحيل إليه سوى حذاء مفقود وعلى أساس الفقد تحوّل الجسد كائنا متعاليا يتشظى كالرّيح والغيم.
السّردية الثقافية / رواية المعرفة:
تستعيد الرّواية وهران، وقوّة تدفّق الاستعادة تنبثق عن التشارك الحُبِّي للمكان بين المتلقي والكاتب، بحيث يتمّ تفعيل ميكانيزم الاستعادة على مستوى ذهن القارئ، ومن ثمّة تتحرّك الذاكرة لاسترجاع «وهران المتلقي» على إثر الوقائع السّردية لـ«وهران الكاتب»، ويضجّ التلقي بالحنين المصحوب بكل صور المدينة المؤثّثة في الذاكرة وتاريخ الذات الموشوم بالمحبّة للمكان، ويعاد اكتشاف «لاكاليرا» و«سيدي الهواري» وحي «الكميل» و«غرغينتا».. خلال كل هذا يكون الاكتشاف مصاحبا بحركة القارئ في الأمكنة الرّوائية المتعالقة مع مخياله بصورها الواقعية، وهو ما يعزّز فعالية حركة إحيائية للمكان وعولمته بالمعنى الثقافي.
لا تقتصر ثقافية الرّواية على المكان، بل تتعدّاها إلى تشريح ثقافة مغايرة تحمل اختلافها وتنوّعها، وهي الثقافة الإسبانية لغة، اجتماعا وفنّا، ومن خلال تطوّر مسار السرد الحدثي تنفتح الخزانة الثقافية الإسبانية لدى الكاتب على كثير من المعلومات الدالة على سعة معرفته باللغة الإسبانية وتمثلاتها الاجتماعية والثقافية، وهو ما يشكل مصدر اغتناء ثقافي ومتعة سياحية مجانية بالنّسبة للقارئ، الذي سوف يلتقي بعض أشعار غارسيا لوركا، ويطّلع على العديد من مفردات عالم مصارعة الثيران: «الكوريدا» و«المتادور» و«البيكادور» و«الموليتا»، «الباسو دوبلي»، كما إنّه سوف يتعرّف على العديد من عادات وتقاليد الغجر في الحب والغناء والإنسانية.
يتحدّد المستوى الثقافي عند القراءة في المشترك المكاني بين القارئ والكاتب، فقراءة رواية «الغجر يحبون أيضا» تمنح غواية الحدث ومحاولة كتابة وهران. أن نقرأ رواية ليس معناه فقط أن نجد متعة الاسترسال في متابعة خيوط الحكاية، ولكن أن نجعل من الحكاية حالة يطاردها القارئ بخيال موازٍ يشبه غواية كتابتها بدء أو لذّة الكتابة عند الكاتب.
خوسي أورانو أو الوجودية القلقة:
تنمو شخصية «خوسي أورانو» سرديا في خضم العلاقات المتشابكة مع الذات والتاريخ والمجتمع، فهي على المستوى الوجودي تمثل ثلاث هويات: هوية واقعية وتنبع من أصوله الإسبانية، وهوية عاطفية تتعلق بشبكة التواصل مع الكيانات الإنسانية المتمثلة في علاقة الحب مع أنجلينا، وعلاقة الصّداقة مع أحمد زبانا، وهوية هامشية تتمثل في كونه غجريا، وهوية منفصلة (قومية) كونه أوروبيا وبالتالي شعوره فرنسيا (استعماريا) بالتبعية، تتفاعل هذه الهويات لتنتج شخصية خوسي الممزّقة والموزّعة بين الوفاء للمبادئ الإنسانية والشعور بالانتماء للدائرة الاستعمارية الرّافضة لكل ما هو غير فرنسي، فـ»خوسي أورانو» يجد نفسه متعاطفا ومتواشجا في العمق مع ارتباطات الصّداقة مع أحمد زبانا صديقه الجزائري العربي المسلم، الذي تكوّن معه في المدرسة الحرفية في أسفل سوق «غرغينتا»، الذي أصبح من رموز الثورة الجزائرية، وهو ما جعل خوسي يقف بين نداءي الهوية العاطفية والهوية المنفصلة، ولم تفصل الرّواية في مآل العلاقة مع زبانا، ولكنّها رافقت مصرع خوسي باستشهاد زبانا، وهو ما يحيل دلالة إلى انتصار خوسي للهوية العاطفية.
تبقى على مستوى القلق الوجودي الذي تثيره الرّواية شخصية «أزميرالدا» التي لا تذكر على مستوى النص إلا شذرا، ولكنّها تمثل حسب مسار الحدث مفتاح الدخول إلى معنى الحب في الرّواية، بحيث يرتكز الحدث على اللقاء بين الشّخصيتين الرّئيستين خوسيه وأنجلينا، اللتين تموتان وتستمرّ وجوديتهما بـ«أزميرالدا»، بمعنى أنّ مستوى الهوية العاطفية لـ«خوسي» انتصر لصالح الاستمرار بميلاد «أزميرالدا»، منتَج العلاقة الجنونية والأسطورية للحب، فهل «أزميرالدا» هي وهران، أم هي الكينونة المتحرّرة للوطن، على أساس تحرّر شخصية «خوسي» من أوهام هويته المنفصلة انطلاقا من تأثير أفكار أنجلينا الإنسانية التحرّرية؟