إصلاح التعليم: معرفة الخلل خطوة في الاتجاه الصحيح / محمد محمود اميــميــد العيـل
عرفت المنظومة التربوية الموريتانية منذ الاستقلال و إلى اليوم إصلاحات مرت عبر مراحل هامة من تاريخ البلاد التعليمي كان آخرها إصلاح 1999 الذي تبنى المقاربة بالكفايات في التعليم، وتشكل مسألة الإصلاح التربوي واحدة من القضايا الساخنة في مجال الحياة السياسية والاجتماعية في موريتانيا، وقد حفلت الساحة الوطنية بعدة نشاطات سياسية وندوات تربوية سعت إلى بناء منطق جديد يكفل للتربية تجاوز التحديات التي تحيط بها ويمنحها القدرة على مواكبة عصف الحضارة التكنولوجية المتقدمة. وفي خضم هذه التغيرات العاصفة بدأ نظامنا التربوي يتصدع ويتداعى أمام هذا المد الحضاري الذي يهدد المعايير والأسس التقليدية التي قامت عليها مؤسساتنا التربوية التقليدية والحديثة. وإزاء هذه التحديات الجديدة أخذت الدولة والحكومة على عاتقها مسؤولية إعادة بناء أنظمتها التعليمية لتصبح أكثر تلاؤما مع تطور الحياة بشكل يتيح لها القدرة على الإحاطة بإفرازات الحضارة المادية واندفاعاتها. ورغم نبل الأهداف وصدق النوايا بقيت تلك الإصلاحات مجرد قوانين وتوجيهات لم تتمكن بعد من تجاوز مستوى الوثائق، وتأسيسا على ما تقدم، ترى،ما جوهر الأزمة التي يعيشها نظامنا التربوي؟ ما مظاهرها ؟ ما هي الشروط الكفيلة بتجاوزها ؟
يعيش نظامنا التعليمي أزمة تربوية ذات طابع شمولي ومن منطلق هذه الأزمة وفي مواجهتها يجب أن نضع نظامنا التعليمي موضع النقد من حيث الهوية الثقافية والجدوى الحضارية، ومن حيث القدرة كذلك على تلبية حاجات العصر وتجسيد طموحات الإنسان الموريتاني.
لا يختلف اثنان على أن منظومتنا التربوية تعاني أزمة تربوية عميقة وتنبع هذه الأزمة من إشكالية الوظائف والأدوار التي تؤديها هذه المنظومة، وتتمثل هذه الأزمة في إشكالية العلاقة القائمة بين المدرسة وبين المجتمع، فالمدرسة ليست عالما مستقلا يوجد في فراغ، بل نظام تتحدد وظيفته في جملة من العمليات الاجتماعية المتكاملة في إطار النظام الاجتماعي الشامل. ومن مظاهر الأزمة التي يعانيها قطاع التعليم أن التربية تستهدف المستقبل بينما هي في بلادنا مصممة على أساس الماضي وهنا تبرز مفارقة التضارب بين الماضي الذي تقوم عليه وبين المستقبل الذي تعد له، وفي ظل هذا التضارب تحولت المدرسة إلى متحف تاريخي يعيش فيه الأطفال والتلاميذ على إكراه منهم، وبات العالم الخارجي أكثر غنى وجمالا وتنوعا من المدرسة وذلك لما يشتمل عليه من أدوات اتصال وترفيه، وليس غريبا أن يقول الأطفال إننا لا نريد الذهاب إلى المدرسة لننسى ما تعلمناه خارجها. وفي هذا السياق يمكن تحديد الجوانب الأساسية للأزمة في النقاط التالية: – غياب الصلة العميقة بين مناهج المدرسة وبين التجربة الحياتية للأطفال والناشئة. – تركيز العمل المدرسي على مبدأ حشو الذاكرة والاستظهار في حين يغيب مبدأ التغذية الراجعة والعمل على بناء الفكر النقدي الفاعل عند التلاميذ. – عدم القدرة على احتواء التطور التكنولوجي المتدفق. – عجز المدرسة عن إنتاج ونشر المعرفة. – عجز المدرسة بأساليبها التقليدية عن مواكبة المعرفة التي تتطور بإيقاعات مذهلة إنتاجا وتوزيعا. – غياب منهجية التخطيط الاستراتيجي وعدم ربط التربية بالتنمية الشاملة. – جمود النظام التربوي وعجزه عن القدرة على الربط بين مضمون التعليم واحتياجات المجتمع.
انطلاقا من هذا بدأت المدرسة تلعب دورا سلبيا في قضايا التثقيف والمعرفة، فهي بدلا من أن تعمل على تقديم المعرفة الجديدة والمستجدة إلى الطلاب والتلاميذ، تحاصرهم بمناهجها وأساليبها القديمة وتحرمهم من التواصل مع المعرفة والحياة الاجتماعية، فتحولت المدرسة إلى سجن كبير يحرم الطلاب من غنى الحياة الاجتماعية والمعرفية، وأصبحت وبحكم التطور المذهل للمعرفة والتكنولوجيا خارج المجتمع وغير قادرة على مواكبته، بل أصبحت المدرسة تحت تأثير هذا التطور مؤسسة تناهض تيار الحياة الاجتماعية بحكم رتابتها في بناء المعرفة وعدم قدرتها على مواكبة الزمن، وبعبارة أخرى يمكن القول إن دورة المعرفة إنتاجا وانتشارا وتوزيعا، أصبحت اليوم تتم خارج جدران المدرسة وتلك هي خلاصة الأزمة التربوية للمدرسة الموريتانية المعاصرة ونظامها التربوي الراهن. وإذا كان الكل مجمعا على أن نظامنا التربوي يعيش أزمة بنيوية، ترى ما الآليات أو الشروط الكفيلة بتجاوزها ؟ إن تجاوز هذه الأزمة يطرح رهان الحداثة ﺑﻘوة وﯾـدﻓﻊ ﻓﻲ اﺗﺟﺎﻩ اﻟﺗرﺑﯾﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺣرﯾﺔ ﺑﻣﺎ ﻫﻲ ﺗﻣرﯾن: اﻟﺟرأة ﻋﻠﻰ اﻹﺑداع، ﻋﻠﻰ اﻟﻛﻔﺎءة، ﻋﻠﻰ الاستقلالية، ﻋﻠﻰ اﻟوﻋﻲ، ﻋﻠﻰ المسؤولية، وﻫكذا ﻓﺈن إصلاحا ﺣﻘﯾﻘﯾﺎ للتعليم ﻫو ذﻟك اﻟذي ﯾﻧظر إﻟﻰ اﻟﻔﺎﻋﻠﯾن واﻟﻣﻣﺎرﺳـﯾن ﻛﺑﺎﺣﺛﯾن وﻟﯾس ﻓﻘط ﻛﻣﻧﻔذﯾن وﺷرﻛﺎء، وﯾﻧظـر إﻟﻰ اﻟﻣﺗﻌﻠمـﯾن ﻛﻘـوة ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻓﻲ اﻟﻣﺷﻬد اﻟﻣﺟﺗﻣﻌﻲ وﻛـذوات ﻣﻔكرة، وﻋﻠﻰ القائمين على إصلاح التعليم أن ﻻ ﯾرﺳـخوا ﻧﻣوذﺟﺎ واﺣدا ﻟﻠﻣـﺗﻌﻠم، وﺑﺎﻟﺗﺎﻟﻲ ﻋﻠﯾهم ﻛذﻟك أن ﯾﺗﻔﻧنوا ﻓﻲ إﺑداع اﻟطرق الكفيلة بتحبيب اﻟـﺗﻌﻠم ﻟﻠمـﺗﻌﻠم وتوظيف اﻟﺛﻘﺎﻓـﺔ داﺧل اﻟﻣدرﺳﺔ وﺟﻌل اﻟﺑراﻣﺞ ﺷﻛﻼ وﻣﺿﻣوﻧﺎ ﻣرﻏوﺑﺎ ﻓﯾﻬﺎ، ﺑواﺳطﺔ ﻣﻧﺎﻫﺞ ﺗﻌﻠﯾﻣﯾﺔ ﺗراﻋﻲ ﻣﺑدأ اﻟﺣرﯾﺔ واﻟرﻏﺑﺔ، وﺗﻧزع اﻟﻘداﺳﺔ ﻋن اﻟﻣﻌﺎرف اﻟﻣﺳﺗﻬدﻓﺔ وﻋن ﻧﻣط التقويم.
إن ﻋﻣﻠﯾﺔ اﻹﺻﻼح اﻟﺷﺎﻣل ﺗﺗطﻠب ﺟﻬدا وﻣﺎﻻ ووﻗﺗﺎ، ﻟﻬذا ﯾﺟب التريث ﻗﺑل اﻟﺗﺄﻛد ﻣـن وﺟـود ﺣﺎﺟﺔ ﺣﻘﯾﻘﯾﺔ ﻟﻺﺻﻼح، ﺑﻌد ذﻟك ﯾﺟب اﻟﻘﯾﺎم ﺑﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻣن الإجراءات الضرورية: – إﯾﺟﺎد ﻫﯾكـل داﺋم ﻟﻠﺑﺣث واﻟﻣﺗﺎﺑﻌﺔ، ﺗوﻛل إﻟﯾﻪ ﻣﻬﻣﺔ رﺻد اﻟواﻗﻊ و التحولات التربوية ﻓﻲ ميادين اﻟﺗﻘﯾﯾم واﻟﻣﺗﺎﺑﻌﺔ وإﺻدار التوصيات الضرورية لإصلاح اﻟﻣﻧظوﻣﺔ التربوية، وﯾﺟب أن توفر له ﻛل الإمكانيات واﻟوﺳﺎﺋل اﻟﻣﺎدﯾﺔ وﺗﻣﻧﺢ له ﻛﺎﻣل الصلاحيات ﻹﻧﺟﺎز اﻟﻣﻬﺎم المنوطة به.
– ﺗوﻓﯾر ﻓرق ﻣن اﻟﻣربين واﻟﺑﺎﺣﺛﯾن ﻟﻛون ﻋﻣﻠﯾﺔ اﻹﺻﻼح اﻟﺗرﺑوي ﻋﻣﻠﯾﺔ ﺑﺣث ﻋﻠﻣﻲ، ﻓﻬذا ﯾﺗطﻠب ﺧﺑرات وﻛﻔﺎءات ﻋﻠﻣﯾﺔ ﻋﺎﻟﯾﺔ، وﻣوﺿوﻋﯾﺔ ﻓﻲ ﺗﻧﺎول القضايا بعيدا ﻋن الأثيرات اﻟﺣزﺑﯾﺔ و اﻷﯾدﯾوﻟوﺟﯾﺔ.
إن اﻹﺻﻼح ﯾﺑدأ ﻣن ﺗﺣﺳﯾن وﺿﻌﯾﺔ اﻟﻣدرس ﻣﺎدﯾﺎ ومعنويا ورﻓﻊ ﻣكاﻧﺗﻪ الاجتماعية إﻟﻰ اﻟﻣﺳﺗوى اللائق، وﻻ ﯾﻣﻛن ﻷي إصلاح ﺗرﺑوي أن ﯾنجح ويؤتي أكله وﻣﻛﺎن اﻟﻣدرس ﻓﻲ اﻟﺣﺿﯾض، ﻧﻘول إذن إن ﻋﻣﻠﯾﺔ التطوير ﺗﺗم ﻓﻲ ﺿوء الطريقة اﻟﻌﻠميـﺔ ﻓﻲ اﻟﺑﺣث والتفكير، وﺗﻌﺗمد التخطيط، وﻻ ﺗﻛون ﻣزاﺟﯾﺔ وعشوائية، وﻣن ﻫﻧـﺎ ﻻﺑـد أن ﺗﺳـﺑق ﻋﻣﻠﯾﺔ التطوير هذه، ﻋﻣﻠﯾﺔ اﻟﺗﻘﯾﯾم اﻟﺗﻲ بواسطتها تحدد ﻧﻘﺎط اﻟﻘوة وﺟواﻧب اﻟﺿﻌف، وﺗﺳـﺗدﻋﻲ ﻋﻣﻠﯾﺔ التطوير أو اﻹﺻﻼح ﻛذﻟك مسايرة ﺗطور الاتجاهات اﻟﻌﺎﻟﻣﯾﺔ وروح اﻟﻌﺻر اﻟذي ﻧﻌﯾش ﻓﯾﻪ ﻣﺛل الانفجار اﻟﻣﻌرﻓﻲ وظﺎﻫرة التغيير المتسارع.