هل سترسل تركيا قواتها إلى ليبيا؟ قراءة في الخيارات التركية
30 ديسمبر 2019، 01:22 صباحًا
بعد إبرام تركيا اتفاقيتين مع حكومة التوافق الليبية ثم تصريح الرئيس التركي بأن بلاده سترسل قوات عسكرية إلى ليبيا في حال طلبت حكومة السراج ذلك ثم طلب الأخيرة ذلك بشكل رسمي، بات احتمال التدخل التركي المباشر في الأزمة الليبية حديث الأوساط السياسية والإعلامية، بسبب التعقيدات الكبيرة المحيطة بها وكذلك المنحى الجديد لتركيا بالانخراط والتدخل المباشر في أزمات المنطقة.
حرب غاز المتوسط
ليس الاستقطاب حالة مستجدة في المنطقة بل إحدى حقائقها الثابتة منذ عقود، ولئن عمّقت الثورات العربية ثم الثورات المضادة الشرخ العمودي فيها بشكل ملحوظ فإن اكتشاف أحواض الغاز شرق المتوسط قد أوصلتها للذروة.
سريعاً جداً، تشكل محور إقليمي لترتيب الأوراق المتعلقة بغاز البحر المتوسط تنقيباًّ واستخراجاً وتصديراً وتقاسماً، عماده اليونان وقبرص اليونانية والكيان الصهيوني ومصرويتجاهل تركيا ويهمشها بشكل واضح ومعلن. أكثر من ذلك، فقد شاركت الأطراف المذكورة معاً أو مع دول أخرى في مناورات عسكرية لا سيما البحرية منها عدة مرات في رسالة بدت واضحة لأنقرة.
في تموز/يوليو الفائت، استضافت القاهرة المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى غاز شرق المتوسط، والذي شاركت به إضافة لمصر كل من اليونان وقبرص اليونانية و”إسرائيل” والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا، بل ودعيت له الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بينما غُيّبت دول أخرى في مقدمتها تركيا.
وفي تشرين الأول/أكتوبر الفائت، استضافت مصر القمة “السابعة” من نوعها التي تضم الثلاثي مصر واليونان وقبرص اليونانية، وقد كان موضوع القمة ما أسمته الدول الثلاث “التصعيد التركي شرق المتوسط” في إشارة لأعمال التنقيب التركية قرب سواحلها وسواحل شمال قبرص.
أكثر من ذلك، تتهم تقارير تركية اليونان باستغلال التطورات في ليبيا عشية الثورة ثم سقوط القذافي لتغيير حدودها البحرية مع ليبيا وتمديد حدود مياهها الإقليمية بشكل أحادي وبمنطق الأمر الواقع على حساب كل من ليبيا وتركيا.
في المحصلة، تكاد تركيا تكون وحيدة في مواجهة محور إقليمي متكامل في ملف حساس واستراتيجي مثل أمن الطاقة، وهي الدولة الإقليمية والطموحة من جهة والمفتقرة لمواد الطاقة بشكل شبه كامل من جهة أخرى.
الاتفاقان مع طرابلس
بعد عشرات السنين من إدارة الظهر للمنطقة والزهد في الانخراط بها واعتماد حكومات العدالة والتنمية على القوة الناعمة في السياسة الخارجية بشكل شبه حصري، شهدت الأعوام القليلة الأخيرة اتجاهاً تركياً واضحاً نحو القوة الخشنة.
عوامل داخلية وخارجية عديدة ساهمت في ذلك، وكان من انعكاساتها زيادة التصنيع العسكري وصولاً للتصدير، والقواعد العسكرية التركية في عدد من البلدان من بينها العراق وقطر والصومال، وكذلك العمليات العسكرية في كل من العراق وسوريا التي شهدت ثلاث عمليات عسكرية منذ 2016 هي درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام مؤخراً.
وعلى هذا المنوال تسير أنقرة في الملف الليبي، إذ لا تبدو زاهدة في حقها من غاز المتوسط وليست راضية بالتأكيد عن مساعي تجاهلها وتهميش حصتها فيه. المدخل التركي لمواجهة ذلك المحور كان التعاون مع حكومة الوفاق في ليبيا كجهة رسمية ومتضررة في الآن ذاته من المحور الإقليمي وعلى وجه التحديد الخطوات اليونانية الأحادية فيما يتعلق بالحدود المائية.
كانت تركيا قد بدأت جهود التنقيب عن البترول والغاز عام 2017 بسفينتي “خيرالدين بارباروسا باشا” و”أوروج رئيس”، ثم بدأت أولى السفن التركية “الفاتح” التنقيب عن الغاز قرب مدينة أنطاليا التركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، لتتبعها سفينة “ياووز” قرب ساحل قبرص الشمالية )جمهورية شمال قبرص التركية( في آب/أغسطس 2019. وتتحدث الآن بعض التقارير التركية عن نية أنقرة إرسال سفينة ثالثة بعد الاتفاق مع الحكومة الليبية، فضلاً عن أن تركيا تتأهب للتنقيب في ثلاثة بحار – المتوسط والأسود ومرمرة –بشكل متزامن رغم الضغوط الكثيرة التي تتعرض لها من أطراف إقليمية ودولية.
التحدي التركي للضغوط على أعمال التنقيب التي تقوم بها قرب سواحل قبرص تحديداً لم يقف عند الحد الدبلوماسي، فقد أجرت تركيا مناورة “الوطن الأزرق” في آذار/مارس الفائت وهي المناورة الأكبر في تاريخها والتي شملت مشاركة 103 سفن في البحار الثلاث المحيطة بها، في رسالة تحد واستعداد واضحة.
في الـ27 من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أبرمت أنقرة مع حكومة السراج اتفاقين، أحدهما مذكرة تفاهملترسيم الحدود البحرية والآخر للتعاون العسكري والأمني. يمثل ترسيم الحدود البحرية سابقة بعدِّه أول اتفاق تركي في منطقتها الاقتصادية الخالصة مع دولة ساحلية باستثناء قبرص التركية، وسيزيد الجرف القاري لها بحوالي 30%، وسيمنع اليونان من ترسيم الحدود البحرية مع باقي الدول عبر جزر كريتوميس وبالتالي اختزال المنطقة التركية إلى خليج أنطاليا حصراً، وفق الباحث محمود الرنتيسي. كما يعيد الاتفاق لليبيا حوالي 16700 كلم مربع في منطقتها الاقتصادية وفق تقدير لمركز الفكر الاستراتيجي للدراسات.
وأما اتفاق التعاون العسكري والأمني فيتضمن تقديم تركيا الدعم والتدريب لقوات حكومة التوافق، وإنشاء الطرفين مكتباً للتعاون الدفاعي والأمني، والقيام بمناورات مشتركة، والتعاون الاستخباري، وإرسال تركيا قوات عسكرية ومدنيين منتسبين للمؤسسة الأمنية والدفاعية للأراضي الليبية، وهو البند الأهم بطبيعة الحال والذي ينتظر الجميع ما ستفعل أنقرة إزاءه بعد إقرار الاتفاق من الجانبين والطلب الرسمي من حكومة السراج.
الخيارات التركية
في الـ 21 من الشهر الجاري، صادق البرلمان التركي على اتفاق التعاون العسكري، وطلبت حكومة السراج الدعم التركي “الجوي والبري والبحري” رسمياً وفق ما أعلن، وقال الرئيس التركي بعدها أن “تركيا دُعيت، وبالتالي ستلبي الدعوة”.
فهل يعني ذلك أن تركيا سترسل قواتها إلى ليبيا وستتدخل في الصراع الداخلي )والإقليمي( هناك؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج بحثاً تفصيلياً حول أهداف أنقرة والخيارات المتاحة أمامها والتحديات القائمة في طريقها.
وفق الوضع الحالي تمثل ليبيا والاتفاق مع حكومتها بالنسبة لأنقرة ثلاثة سياقات مهمة:
أولاً، جهة صديقة في ظل حالة الاستقطاب الإقليمية.
ثانياً، ساحة مواجهة مع محور إقليمي معادٍ لها.
ثالثاً، والأهم، ضماناً لحقها في الغاز ومعركة متعلقة بأمن الطاقة لا تملك رفاهية خسارتها.
وعليه، فالهدف الذي يحقق مصالحها ليس الدخول في الصراع الليبي الداخلي وضمان هزيمة حفتر مثلاً ولا التورط بصدام إقليمي واسع مع الأطراف المتدخلة بالشأن الليبي وهي كثيرة، وإنما دعم صمود حكومة الوفاق وبشكل أكثر تحديداً منع سقوط طرابلس بيد قوات حفتر في الفترة الحالية، بما يضمن على الأقل صمود الحكومة وبالتالي صلاحية الاتفاقين/المذكرتين ومشروعيتهما، والمساهمة بالدفع نحو حل سياسي للأزمة الليبية لا تبدو فرصح كبيرة حالياً.
ولتحقيق هذا الهدف المحدد، ليس هناك خيار تركي أوحد وإنما مروحة من الخيارات المتدرجة أهمها:
الأول، أن يكون الاتفاق المبرم والتلويح بالتدخل التركي بحد ذاته رادعاً لحفتر وداعميه وبالتالي منقذاً لطرابلس.
الثاني، الدعم التسليحي واللوجستي لحكومة الوفاق بحيث تتعزز قدراتها الدفاعية في وجه الهجوم الحالي لحفتر.
الثالث، دعم حكومة السراج بأسلحة نوعية قادرة على تغيير موازين القوى ميدانياً.
الرابع، إرسال عدد قليل من “الخبراء” الأتراك لتقديم المشورة الميدانية وتوجيه قوات حكومة السراج.
الخامس: إرسال قوات خاصة بأعداد قليلة.
السادس، إرسال قوات بأعداد قليلة أو كثيرة داخل طرابلس.
السابع، المواجهة المباشرة مع قوات حفتر – خارج طرابلس – و/أو القوات/الأطراف الداعمة له، وبالتالي الانخراط/التورط بصراع واسع ومكلف وممتد زمنياً.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن تركيا حاضرة في الملف الليبي ميدانياً حتى قبل الاتفاق الأخير، في ظل عدد من التقارير التي رصدت استخدام أسلحة تركية وفي مقدمتها الطائرات المسيّرة بدون طيار وكذلك ادعاء رئيس برلمان طبرق وجود ضباط أتراك يشكلون غرفة عمليات لتسييرها ودعم حكومة السراج.
تدرك تركيا أن التدخل العسكري الكبير والمباشر دونه عقبات وتحديات كثيرة، فالتدخل في ليبيا يختلف عنه في سوريا حيث الحدود المشتركة والعمق وبالتالي إمكانية الحماية الجوية التامة للجنود المشاركين إضافة للتفاهمات مع الأطراف المتواجدة على الأرض. وفي الملف الليبي لا يقف الداخل التركي متحداً خلف العملية كما حصل في العمليات داخل سوريا بل يرفض حزب الشعب الجمهوري المعارض مثلاً توريط الجيش التركي في معركة إقليمية ويرى أن حفتر أكثر قبولاً بالنسبة له من الطرف الآخر “الأصولي”، وتحذّر رئيسة الحزب الجيد من إقحام جيش بلادها في صراع أهلي في دولة أخرى. ولعل كثرة الأطراف المتدخلة في الملف الليبي بشكل مباشر أو غير مباشر سياسياً وعسكرياً، من مصر للإمارات لليونان لروسيا، مما ترصده أنقرة وتحسب حساباته بدرجات متفاوتة.
ولذلك، تبذل أنقرة كل ما تستطيعه لنسج شبكة أمان سياسية – قانونية – عسكرية لأي خطوة محتملة أو وشيكة لها، بدءاً من إبرام الاتفاقات، ومروراً بإقرارها برلمانياً ومحاولة تسجيلها دولياً، وليس انتهاءً بالتواصل مع مختلف الأطراف ذات الصلة وفي مقدمتها روسيا وتونس والجزائر، فضلاً بالتأكيد عن رصد الواقع الميداني والمواقف الدولية وعدم التسرع بأي خطوة غير محسوبة حتى اللحظة.
في الخلاصة، تتبدى المصلحة التركية بصمود طرابلس ودعم حكومة الوفاق للإبقاء على الاتفاق ومكاسبها الاستراتيجية منه بخصوص الغاز تحديداً. لكنها لا تبدو في عجلة كبيرة من أمرها، ولا مقبلة بالضرورة على خيار إرسال عدد كبير من قواتها للأراضي الليبية.
أولاً، ثمة مسار قانوني متعلق بإصدار البرلمان لمذكرة تفويض لإرسال قوات إلى ليبيا على غرار “مذكرة سوريا والعراق”، وهو أمر متوقع بعد عودة البرلمان من عطلته مع أول العام الجديد أي خلال أيام. وهو تطور سيكون ضرورياً من جهة وكافياً من جهة أخرى في حال قررت الرئاسة القيام بأي خطوة في ليبيا بغض النظر عن سقفها ومستواها.
وثانياً، وهو الأهم، ستكون التطورات الميدانية هي المحدد الأبرز للخطوة التركية المقبلة. إذ من المنطقي توقع تدرّج أنقرة في خطواتها المستقبلية حسب المستجدات وخصوصاً بما يتعلق بوضع طرابلس العاصمة. ذلك أن الأولوية التركية ستكون الحد الأدنى من التدخل/التورط الذي يضمن ثبات حكومة الوفاق وصمود طرابلس. لكن احتمالية سقوط العاصمة بيد حفتر – الذي أعتقد أنه خط تركي أحمر حقيقي – قد يدفعها للمغامرة بإرسال قوات كبيرة إليها، فذلك يتعلق بالنسبة لها بمعارك استراتيجية لها علاقة بالأمن القومي وأمن الطاقة ومحاور المنطقة قبل أي شيء آخر.
ومع كل ما سبق، والمروحة الكبيرة من الخيارات المتاحة والتي لكل منها محدداته ومتطلباته وكذلك تكلفته، ستكون تركيا أكثر من سعيدة بأن يدفع الواقع المستجد والتلويح بتدخلها إلى حالة من الحوار تنتج عنه تفاهمات تثبت الوضع القائم وتغنيها عن كل ما سبق، ولعل زيارة بوتين لتركيا في الأسبوع الأول من العام المقبل ستكون أحد أهم المؤشرات على مدى إمكانية حصول أمر كهذا.
د. سعيد الحاج-خبير في الشؤون التركية والمقال لرأي اليوم