المرأة الفلسطينية والهم الوطني والاجتماعي/ د. باسم عثمان
لمحة تاريخية:
يحتفل العالم كل عام في الثامن من آذار بيوم المرأة العالمي، وهو تقليد سنوي بدأ قبل حوالي مائة عام، ويعود بدء الاحتفال بهذه المناسبة إلى عام 1910، تخليدا لذكرى الحادثة التي تعرضت خلالها نسوة خرجن في نيويورك في الثامن من اذار من عام 1857، في مسيرة احتجاج للمطالبة بتحديد ساعات العمل، وأصبح الاحتفال بهذا اليوم يحظى برعاية الأمم المتحدة منذ تأسيسها، حيث كان ميثاقها الذي وُقع في سان فرانسيسكو عام 1945، أول وثيقة دولية تعترف بالمساواة في الحقوق بين الجنسين كحق أساسي من حقوق الإنسان.
لقد سٌجل في الدول العربية في السنوات الأخيرة تزايد حضور المرأة في مختلف المجالات، كما تم رصد زيادة عدد النساء اللواتي يدخلن سوق العمل ويزاولن النشاطات السياسية, غير أن هذا الحضور رغم أهميته يظل غير كاف، خاصة وأنه يطغى عليه الطابع الرمزي ولا يرقى إلى مستوى التطلعات، كما أن العنف الأسري المتفشي داخل الكثير من الأسر العربية، لم يتم رصده بعد بالشكل الكافي، ولم يتم أيضا الغوص في مسبباته وسبل استئصاله بطريقة فاعلة ومنهجية.
إن العنف ضد النساء ليس شيئاً عابراً يتم التعامل معه بشيء من التبسيط، فالعنف ضد المرأة هو عنف ضد المجتمع بكل نواحيه، وينذر بهلاك المجتمع على المدى البعيد، لذلك كان من اللازم، توجيه كافة التخصصات والمنظورات البحثية المختلفة للوقوف على مواطن النواقص المؤدية لارتفاع نسبة ممارسة العنف ضد المرأة في أماكن عديدة من العالم، وضرورة ربط العنف ضد المرأة بمسألة انتهاك حقوق الإنسان….
فعلى مدار تاريخ التغريبة الفلسطينية وما تحمله من أوجاع والام وغربة متعددة الاشكال، كانت المرأة الفلسطينية في صدارة مقارعة الاحتلال الصهيوني الغاشم وقبله الاستعمار البائد، فكانت هي قائدة العمل الوطني في السماء كليلى خالد، وعلى الأرض كدلال المغربي وشادية أبو غزالة، وفي ازقة وحارات مخيمات اللجوء والشتات كنهاية محمد، وفي واحات الشعر والأدب والفن كفدوى طوقان ومي زيادة والقائمة تطول.
محطات مضيئة للمرأة الفلسطينية:
سطرت المرأة الفلسطينية ملاحم بطولية عبر محطات تاريخ النضال الوطني الفلسطيني الوطني والاجتماعي، ومنذ فجر التاريخ والمرأة الفلسطينية تناضل إلى جانب الرجل في مواجهة المحتل الغاصب، بما تمتلكه من قوة وفي كافة الميادين، حيث ان التاريخ يزخر بالعديد من البطولات والمحطات الوطنية والاجتماعية للمرأة الفلسطينية، ويكفيها فخرا أنها مربية الأجيال وصانعة المناضلين والثوار والأحرار .
كان للمرأة الفلسطينية، دور بارز في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، حيث وقفت المرأة تدافع عن أرضها ووطنها وتقدم العون للثوار، وفي نكبة فلسطين عام 1948م، برز دور المرأة الفلسطينية في العمل الاجتماعي والإغاثي، وحماية الأسرة الفلسطينية من التشتت والضياع، جراء مجازر النكبة وقطعان المستوطنين. وبعد النكبة واحتلال كامل أرض فلسطين عام 1967م، واصلت المرأة الفلسطينية نشاطاتها العسكرية والسياسية والاجتماعية، وتأسس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ولجان المرأة الفلسطينية في الفصائل الفلسطينية، والتي كان لها دور اجتماعي وفكري وسياسي بارز، حيث شاركت المرأة الفلسطينية في كافة المسيرات والمظاهرات خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وفي كل المقاومات الشعبية الفلسطينية وانتفاضاتها, مما دفع بتطور عملها المؤسساتي والتنظيمي والاجتماعي – التربوي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.
بين خطي المقاومة والمواجهة، توزعت أدوار المرأة الفلسطينية، ففي ظل غياب الدولة تحولت الأسرة من خلال المرأة الفلسطينية إلى جبهة قوية للمقاومة، ضد الاختراق والاستلاب، وعلى خط المواجهة، كان الاعتقال والتعذيب والعمل المسلَّح أدوات أخرى للدفاع عن الوطن.
لقد عانت المرأة الفلسطينية التي تشكل نصف المجتمع الفلسطيني (49.5%) من اضطهاد مزدوج: قومي عنصري نتيجة الاحتلال الإسرائيلي؛ وجنسي اجتماعي موروث من المفهوم المجتمعي والتقاليد العربية, والذي يقوم على التمييز بين الجنسين؛ إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تكون لبنة فاعلة في الحركة الوطنية الفلسطينية؛ ما أهلها لتبوء مراكز قيادية في المجتمع الفلسطيني؛ فأسّست جمعياتها ومؤسساتها الخاصة منذ عشرينيات القرن الماضي, حيث شاركت المرأة الفلسطينية الرجل في مختلف مراحل النضال ضد الانتداب البريطاني، ثم الاحتلال الإسرائيلي؛ و أخذت المرأة الفلسطينية موقعها في صفوف المقاومة الفلسطينية؛ فارتقى العديد منهن شهيدات، كما في معركة البراق عام 1929, حيث سقط 9شهيدات, وهناك أمثلة عديدة من الفلسطينيات اللواتي سطرن أروع صفحات البطولة والفداء، في المقاومة والشهادة, ومنهن شهيدات انتفاضة الأقصى،( وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وآيات الأخرس، وعندليب طقاطقة….الخ)؛ وقد بلغ عدد الشهيدات الفلسطينيات في انتفاضة الأقصى 127 شهيدة, كما تعرضت النساء الفلسطينيات إلى القتل و الاعتقال والابعاد, وللعديد من الانتهاكات على ايدي جنود الاحتلال وقطعان مستوطنيه, وما زالت المرأة الفلسطينية تقف جنباً إلى جنب مع الرجل الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر في الاقتلاع والاستيطان والضم والتهويد.
لقد خاضت المرأة الفلسطينية غمار الحياة السياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما نظمت المرأة الفلسطينية أول تظاهرة احتجاج ضد الاستيطان في فلسطين، بعد أن أقيمت أول مستوطنة صهيونية في منطقة العفولة الفلسطينية، في عام 1893، ثم أعقبها تشكيل الجمعيات الخيرية التي شكلت الشرارة الأولى لانطلاقة المرأة الفلسطينية نحو اندماجها في قضايا مجتمعها؛ لتتبلور بعد ذلك نتيجة الظروف السياسية التي مرت بها البلاد، وفي عام 1929؛ عقد أول مؤتمر نسائي فلسطيني في القدس انبثقت عنه “اللجنة التنفيذية لجمعية السيدات العربيات”، ثم أنشئ في العام نفسه “الاتحاد النسائي العربي” في القدس وآخر في نابلس، وفي الفترة 1948ـ1967، نشطت العديد من المؤسسات النسائية الخيرية، كدور الأيتام ومراكز رعاية المسنين، وفي عام 1965 أُسس “الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية”، حيث شكل الانطلاقة الحقيقية لمشاركة المرأة الفلسطينية في الحياة السياسية بعد تشكيل “منظمة التحرير الفلسطينية” في 1964، وحظيت المرأة الفلسطينية بـ “كوته” في المجلس الوطني تراوحت بين 2% في 1964 إلى 7.5% في دورة المجلس الوطني التي عقدت في غزة عام1996.
المرأة الفلسطينية ودور المؤسسات الرسمية:
لا يمكن رؤية واقع المرأة الفلسطينية ومدى مشاركتها في الحياة السياسية والعامة، وفي مواقع صنع القرار ، إلا من خلال الغوص عميقاً في الظروف المجتمعية التي تحيط بها؛ ما يحتم ضرورة إلقاء الضوء على واقعها المجتمعي، باعتباره عاملاً مهما في تحديد ورسم ملامح هويتها, لكون المجتمع الفلسطيني لا يختلف كثيراً عن المجتمعات العربية الأخرى, من حيث الموروث الثقافي والبنية الاجتماعية والاقتصادية؛ إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الخصوصية؛ إذ لا يمكن مقارنة مجتمع يعيش حالة من الاستقرار (ولو بالمعنى النسبي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، مع مجتمع محتل و مقاوم بان واحد, يسعى للخلاص من الاحتلال ونيل الحرية؛ فسلك العديد من السبل في شتى ميادين الحياة، وفي شتى ميادين النضال، فصقلته إنسانًا متميزًا بعقله وتفكيره وأساليبه؛ إذ إن سمو الهدف أملى عليه هذا التميز؛ فانصرف عن العديد من اهتمامات الشعوب والمجتمعات، واقتصر توجهه على تحقيق هدف مقدس؛ كي يضمن مستقبلًا آمنًا وحياة كريمة دائمة لأبنائه.
مع مرور الوقت؛ أصبحت المرأة الفلسطينية أفضل حالاً من المرأة في كثير من البلدان العربية؛ حيث اقتحمت مجال التعليم لدرجة أنها أصبحت تشكل نصف أعداد الطلبة في مختلف المراحل الدراسية؛ واقتحمت مجال العمل لتشكل نسبة لا بأس بها من القوى العاملة في المجتمع الفلسطيني، في الوقت الذي تبوأت فيه بعض المناصب القيادية العليا، سياسيا ومهنيا.
ان الاهتمام بالمرأة الفلسطينية وتعليمها وتأطيرها في لجانها المختصة و الاحسان في معاملتها, يعتبر ضرورة ثورية حتمية, لإحداث نقلة اجتماعية نوعية في عمل المرأة وطنيا واجتماعيا وتربويا، تقف فيها المرأة والرجل على قدم المساواة في مواجهة الموروث الاجتماعي المتخلف, حيث ان التقدم الاجتماعي يقاس بالموقف الاجتماعي من تحرر المرأة, ومدى مشاركتها في مختلف اعمال الحياة, للانتصار على المفاهيم التقليدية الموروثة, ولينطلق الرجل والمرأة نحو مستقبل اكثر ثراء واكثر انسانية.
لقد ساهمت المرأة الفلسطينية وعلى مدار التاريخ, بالنضال الوطني التحرري والاجتماعي , اما من خلال مؤسسات وهيئات مدنية واجتماعية, او من خلال قوى سياسية وحزبية مختلفة, كان من اهم نتائجها, تشكيل الأطر واللجان النسوية كامتدادات جماهيرية لها, لما يحتله الجمهور النسوي من أهمية كبرى في معركة الاستقلال ضد الاحتلال, وتمكنت هذه الاطر النسوية من تأطير النساء الفلسطينيات للانخراط في النضال الوطني الفلسطيني في كل مهماته بشكل او باخر, والتي تجلت في ابهى صورها في المشاركة المتقدمة في الانتفاضات الفلسطينية, وما تبعها من محطات نضالية لمنعطفات خطيرة مرت بها الحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني.
ان أي تراجع او تقدم في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية عبر محطاتها النضالية, ينعكس سلبا او إيجابا على واقع الاطر النسوية وتفعيلاتها, من حيث الدور والأداء, وخاصة عندما تتداخل العلاقة بين ما هو وطني ومتطلباته, و ما هو اجتماعي واولوياته, خاصة في ظل تعقيدات الواقع السياسي والمعيشي والاقتصادي للمجتمع الفلسطيني, هذا من جانب, وتقاعس او تراجع الاحزاب و القوى السياسية عن اداء دورها الاجتماعي المنوط بها, وتحديد ماهية ادوات ووسائل النهوض الاجتماعي للمرأة الفلسطينية ,لضمان تحقيق الاهداف التي تناضل من اجلها لجان المرأة وجمهورها النسوي, من جانب اخر, ذلك ما ادى, الى ضعف عمل و دور هذه الاطارات الجماهيرية النسوية, من خلال تعقيدات التداخل في برنامجها الوطني – الاجتماعي, وتغليب جانب على جانب اخر, وفق هيمنة الوصاية الحزبية عليها من احزابها السياسية.
هذا, ما فتح المجال لغالبية المرأة الفلسطينية للتوجه الى العمل في مؤسسات المجتمع المدني ومأسسة عملها ومشاريعها الاجتماعية, للحصول على التمويل الخارجي له, تعويضا عن الدعم المالي و البرنامجي لأحزابها السياسية.
لقد بات من الاهمية القصوى, فتح نقاشات واسعة حول دور هذه الاطر و تصويب علاقتها مع حزبها, وعلاج التداخل بين ما هو حزبي و ما هو جماهيري, وان يتم التعامل معها داخل هيئات الحزب ومؤسساته, على اساس الكفاءة و ليس التصنيف الجنسي.
في ذات الوقت نؤكد أن النساء الفلسطينيات يواجهن ظروفاً بالغة الصعوبة والقسوة، فمن ناحية، تتواصل جرائم الاحتلال وتتسع مساحة هذه الجرائم لتطال المزيد من النساء, ومن ناحية أخرى، تتزايد معاناة النساء الفلسطينيات الناجمة عن انتشار ظاهرة العنف في المجتمع الفلسطيني.
هذا يدعونا إلى ضرورة المطالبة أولا, بتوفير الحماية للسكان المدنيين تحت الاحتلال بمن فيهم النساء, والعمل بكل السبل والامكانيات المتاحة من اجل ممارسة الضغط على سلطات الاحتلال ودفعها لاحترام والالتزام بمبادئ القانون الإنساني الدولي, وفي الوقت نفسه , دعوة منظمة التحرير الفلسطينية و الحكومة الفلسطينية, لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لوضع حد لمظاهر العنف المحلي, وملاحقة مرتكبي الجرائم بحق النساء ومحاسبتهم، والوفاء بجميع الالتزامات الدولية الناجمة عن انضمام فلسطين, إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة .
نؤكد أن الحماية الحقيقية للمرأة الفلسطينية في مجتمعها المحلي، تتحقق عندما تجري عملية مواءمة حقوقها في التشريعات الوطنية بشكل كامل مع الاتفاقيات الدولية، التي وقعت عليها دولة فلسطين، والتزام القيادة السياسية الفلسطينية بها, ولا بد من تمكينها من برنامجها الوطني والاجتماعي، وتوفير كافة الأدوات والبنى وكل اشكال الدعم لها، حتى تستمر بأداء دورها كأم ومربية ومناضلة، مستندة على قدراتها اللامتناهية في العطاء والتضحية، ومتحررة من اية وصاية اجتماعية او حزبية.
ان الصراخ والنحيب والشكوى والمناشدات، تلك هي الصور التي تكرَّست على المرأة الفلسطينية في وسائل الإعلام والفضائيات، في حين يؤكد الواقع الفعلي، أن المرأة الفلسطينية، لعبت أدواراً أساسية في أي استراتيجية للمقاومة، من التنشئة السياسية والهم الوطني، إلى التكافل الاجتماعي ومقاومة الحصار، أما آخر تجليات المقاومة، فقد وقعتها وفاء إدريس بدمائها لتكون أول فلسطينية تضحي بنفسها من أجل الوطن والقضية.
بقلم: د. باسم عثمان
الكاتب والباحث السياسي