الرحالة السياسي موهوب…/ ذاكو وينهو ( المرتضى ولد محمد أشفاق)
…….تذكر أن أحد خواصه همس في أذنه مرة قائلا : يا موهوب خذها مني نصيحة خيرا لك من حمر النعم , وصرر التبر الأحمر : لتكون نجما لا معا في السياسية تعلم اللغة الديبلوماسية , فقال موهوب : تلك لغة متخصصة يجيدها السفراء والقائمون بالأعمال ومن شاكلهم فكيف لي أن أتعلمها ؟ يا موهوب اللغة الديبلوماسية هي أن تتحاشى الحقيقة , هي الكذب , حتى إذا سئلت عن اسمك فلف ودر , ومص شفتك السفلى , وقل “آ” برواية ورش وأشبعها مدا , وتعمد الغلط…ثم ابتسم وأنت تقول : اسمي مع السكرتير الخاص..
تذكر موهوب هذه النصيحة لكن بعد فوات الأوان ..لكنه في سره مطمئن سعيد…..انقطع لنفسه في مناجاة داخلية , استخلص منها في رحلاته التي انتمى فيها إلى أحزاب الدسم ، وطوائف الغنم ، أن الكرم السياسي في بلاده رائع ، وأن الوافد – جديدا أ و عائدا بعد هجرة أو غضب – تتحات ذنوبه السياسية حتى يكون كيوم ولدته أمه…..فلا الذاكرة الجمعية وإن احتفظت بتفاصيل سيرته غير المطهرة تحاسبه عليها…فلا يحتاج إلى شهادة تبريز , ولا كفارة صغرى….بل لا يحتاج إلى أن يعلن توبته …حسبه أن يكون خشبا يزيد النار اشتعالا ولو بدخان أسود كالقطران…وأن يغتسل في نهر الأدران , ويمر على عرايا التشويه ليجعل مسوح التقبيح على قيهله من جديد , تلك طقوس المؤمنين الأوفياء لعقيدة النجعة السياسية والرحيل المستمر …..ولا تهمه الحدود الوهمية بين الفريقين المتصارعين….هو سيمثل في كل فريق …وسيكون بطلا في كل حلبة صراع ..
أكسبه شروده مع هذه الأفكار شجاعة وهو يعود إلى من هجرهم أمس وأذاع في الناس إفلاس خطابهم , وقذارة أفكارهم , وانحطاط مراميهم …فأسمعوه من الثناء والتمجيد ، ما لم تسمعه أذن المعز والرشيد ، قال موهوب في خطبة نكاحه السياسي الجديد : أيها الناس الحمد لله الذي تداركني من عثرتي , وسدد خطاي بعد ضلتي …لم أنس أيامي بينكم كم كانت حلوة كأحضان الأمهات ..كم كانت جميلة كأحلام الأطفال ، كم كانت عميقة كشعر المعري ….لقد ساقتني شقوة رأيي , ونحس طالعي إلى قوم غالبت القيء لما تبدت لي جموعهم , فهم كما سأصف لكم :
عيونهم غائرة كضحايا الإسهال
ابتساماتهم شاحبة كرعاة الصيف
بطونهم منتفخة كالحوامل
أطماعهم كبيرة كجيف الجمال
أفكارهم صغيرة كأرجل النمل
لحاهم خجولة كعباءات البغايا
يريدون غنى الدهر في يوم
وربح القرن في ساعة
يلبسون كالمشردين , ويأكلون كالمساكين
الحمد لله أن نجاني منهم كما نجى عيجلوف من جند سليمان
دوى تصفيق الجماهير حتى ذعر بعض الحاضرين وذعر موهوب نفسه من لجبة الأكف….فنتر مرافقه دراعته قائلا : أنت غلطت هذا نص خطابك أمام أصحابك الشهر الماضي ..قال موهوب ما زلت في غبائك القديم ..هم أيضا يعلمون ذلك ….لكنهم يقبلون مكرهين …وينخدعون عارفين ……..ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا….إن أصررت على أن ترافقني فلا تسألني ولا تعلق على أحاديثي …فسأكشف لك في قابل الأيام من أمرها خبرا…..
لقد نسيت أن أخبرك ….نسيت وليتني ما تذكرت ….
في طريق عودتي يا محمدو اعترضني فارس غريب …له قرنان يرتفعان حلزونيا فوق أذنيه….وقد ضفرهما ودهنهما ورطبهما بمسك غليظ سميك …تقطر على رقبته حبات عرق أزرق وتختفي بسرعة ..اقشعر جلدي وأحسست بشعري ينتفش وحركة غير محددة المكان تهزني هزا …..قال لي وقد أدرك أني أنكر منه كثيرا : لا عليك أنا نزيل مقبرة في تلك الأكمة التي أمامك…..استاذنت حارسها فأبى ..فغافلته وانسللت مسترخصا ما سأنال من ضرب المقامع…..وعض الثعابين , أنا هو أنت يا موهوب….اهتزت الأرض تحت قدمي وتلاحقت دقات قلبي حتى حسبته انسل وطار …ربت على منكبي قائلا : لا عليك يا أنا ..ألا تذكر ؟ أنت مت منذ دهور في رحلتك تتقلب بين الطوائف والأحزاب…وأسلمت نفسك راغبا إلى مقاصل القوم فشنقوك وصلبوك وعلقوك حتى سال الصديد الأسود من أظافر قدميك وتجمهرت الخنافس والنمل الأحمر يروون ويدخرون….انتفخت كالبالون الطائر وتساقطت أعضاؤك منتنة تملأ جوف الوادي فلم يبق فيه ذربان, وتحلقت حولك الذئاب تأكل مشمرة على أنوفها….دفنوك هنا ….وانظر يديك وقد مجلتا حتى سال القيح من أخاديد راحتيك ولما دفنوك حكموا عليك بالتصفيق رغم المجل ….تحسس تجاويف فمك فأنت أدرد ، ولسانك مدور كأفعى يسمك شدقيك ، ألم تك خطيبا تقيء العوراء ؟؟ واليوم في قبرك ألزموك أن تظل تمص لهاة عجوز مغراء من آل شارون , مثقوبة المنخر , بخراء , جخنّة , دقيقة الساقين….نخامتها كالمح ، سرتها تدمى باستمرار ، وتقطر في محارة مشدودة بشعرة من لحيتك ، حتى إذا آلمك المص ولغت في ما تحلب في المحارة فيكون كالضماد وتعود العافية الى لسانك… وانظر إلى تلة الجنادل تلك , ذاك أحد رموسك وهناك حولوك إلى شيخ وقور وأجلسوك في بؤبؤ عوراء عيناء مغلولة أطرافك من خلاف ، لك ثدي واحد يتدلى إلى كعبك ترضعه ديدان رقطاء وثعابين صغيرة لا تروى ، كلما امتلأت بطونها وضاقت بما حوت تسلقت على شعر لحيتك وبالت في أنفك….هل ترى ذلك العجوز الأحدب الجالس جنب ذلك الجدث….إنه شيخ من الجن خاله الشيطان يريد أن يستقضيك عن رشاوى دفعها لك ولم تف بالوعد كما هو …لقد كنت أكرم من المطلوب وذلك جالب للضرر على الذين امتهنوا عد الحصى واستعذبوه….هل ترى ذلك الشاهد الرمادي الباهت ذاك واحد من أجداثك لكنهم حنوا عليك , بل أكرموك توقيرا لأمارات النبل البادية في صلعك من الخلف , وشعر صدرك فأنت من عرق نقي لم تشبك كعاعة من نسب…..هناك حولوك إلى كائن وديع في روضة ندية ..أنت هناك قملة كسيحة ترعى عانة قرد عنين….
يا محمدو!! كل هذا وأنا جالس يقظان …نهضت مسرعا , واستعذت بالله من الشيطان الرجيم , وقرأت سورة يس وصليت الصبح لأول مرة في المسجد وكدت أصلي الضحى ….لكنني تذكرت أنها “تكره” لمن لا يواظب عليها …
هؤلاء هم نحن ، فما ذا تأمل أن يفعل موهوب وأشباح كابوسه ترافقه أنى حل؟؟ هل نزعت الغشاوة عن عيني واضمحل وهم الحياة….؟؟؟