أدي آدب يكتب:” هندسة القصيدة”
– أدي ولد آدب
قصيدة البيت في الشعر العربي، استلهمت البيت اسما ومسمى، مبنى ومعنى، حيث الأخير ساكن، والأول مسكون، وعبر علاقة الجدل بينهما، جنحت بنية هذه القصيدة إلى هندسة التناظر، وهندسة التفاعل، فمثلت الأولى الثابت، ومثلت الأخرى المتحول، الشكل، والمضمون… ففي الوقت الذي استقرت فيه بنية الشطرين.. المتناظرين، في البيت الشِّعْري، ربما استلهاما من البيت الشَّعْرِي، الذي يقسم إلى نصف للحريم، ونصف للعموم.. حاول الذوق، والنقد العربي التقليدي أن يحفظ لكل شطر استقلاليته، عن الآخر، وللبيت – بشطريه- استقلاله عن بقية الأبيات الأخرى، معنى ومبنى، مثلما تستقل الخيمة عن الخيمة، ويترابط الجميع تجاورا وتناظرا، فكأن هناك تشبيها ضمنيا للقصيدة (مجمع الأبيات الشِّعْرِيةِ)، بالمخيم والحلة (مجمع البيوت الشَّعْرِية).. وقد جسدت مصطلحات العروض الخليلي، هذا التشبيه الضمني بين البيتين،؛ حيث سميت عناصر البيت الصغرى(حركات وسكنات) بالأسباب (الحبال) والأوتاد، أدوات بناء الخيمة، كما سميت التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول: «عروضا»، لأنها تنتصب بين الشطرين، محطة واستراحة بالنسبة للملقي، لأن جهاز النطق والتنفس مشترك، كما أنها تمثل محطة تقسيط للملفوظ الشعري، تيسيرا لاستيعابه عند المتلقي، حتى يتملى بجماله، على مهل، وهي هنا كالركيزة المعترضة وسط الخيمة، بين نصفيها، أما تفعيلة «الضرب» الأخيرة من كل بيت، فإنها تشكل نقطة الارتكاز الإيقاعي الموحد لتعدد الأبيات…
كل هذه الحيثيات قد تكون من معززات هندسة التناظر الشكلية، باعتبارها تمثل بنيات قارة تأخذ مواقعها الثابتة في التوزع البصري لمعالم خريطة القصيدة التقليدية، لكن هندسة التفاعل هي الأخرى، لم تستسلم، ولم تضع أوزار حربها ضد الجمود البنيوي، باعتبارها تجليا للبنية الحية الدينامية للشعر، وقد فرضت صفة التفاعل الجوهرية في التجربة الشعرية الإبداعية مصطلحاتها النابعة من صميم خصوصيتها وهويتها، ابتداءً بمصطلح الشعر نفسه المقتبس اسمه من الشعور المَوَّار، وتثنيةً بمصلح التفعيلة المشتق من الانفعال الغلاب، وتثليثا بمصطلح «البحر» الذي يحيل على تفاعلات الطقس في جدله الطبيعي بين المد والجز، حين يبدو البحر رهوا في بعض الأحيان، ويثور ويهيج في أحايين أخرى، شأنه في ذلك شأن الطقس النفسي للكائن الحي عموما، وللإنسان خصوصا، وللشاعر بصورة أخص، لأنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره..
زد على ذلك أن مصطلح «التصريع» في مطالع ومقاطع القصائد، بقدر ما يساهم في تكريس هندسة التناظر- فصلا- بين الشطرين، يعتبر- من جهة أخرى– ملمحا لهندسة التفاعل؛ باعتباره وصلا إيقاعيا، تملأ ذبذباته الفراغ الفاصل بين تفعيلتي «العروض»، و«الضرب»، ويجمع بين نهايتي الشطرين، كما يجمع مزلاج الباب بين مصراعيه المنفصلين في حالة إغلاق أبواب البيوت التي كانت مفتوحة..
كما أن مصطلح «التدوير»، هو مكافحة قوية ضد سلطة فلسفة الفصل في هندسة التناظر الأفقي.. لصالح فلسفة الوصل، عبر هندسة التفاعل، داخل القصيدة العربية التقليدية، حيث ينتقل بها إلى مدار «الدائرة العروضية» القائمة على البنية الإيقاعية الكلية، إذ ليس للدائرة -أصلا- بداية ولا نهاية، حتى تخضع للتجزيء، فهي تمرد وتحد لنظام الشطرين، حيث ينساح المبنى والمعنى متجاوزا حدود النهاية والبداية بين الشطرين المتناظرين، وفقا لمد موجة المعنى، التي ينبغي أن تتحكم في بنية المبنى، وليس العكس…إذ ليس الطقس النفسي- لا سيما في لحظة الانفعال الشعوري، والتعبير الشعري- ملازما دائما لحالة الجزر والجمود والسكون التي يقتضيها التحكم في الهندسة التناظرية..
وعلى هذا الأساس كان مصطلح «التضمين» – أيضا تمردا على نهاية وحدة البيت الأفقية المزعومة، والمدعومة من طرف هندسة التناظر، حيث مثَّل «التضمين» تغليبا للبنية العمودية للمعنى والمبنى التي يمكن أن تستمر سيولتها ودفقها الإيقاعي والدلالي على مساحة أكثر من البيت، وربما البيتين… إذ ينبغي أن نعترف أنَّ للبحر الشعوري، والشعري مده، كما له جزره. وضمن هذه الرؤية يمكن إدراج مصطلحي الوحدة العضوية والوحدة الموضوعية في النقد العربي المعاصر، ضمن هذا السياق.. ويبقى باب المقاربة مفتوحا للمزيد.. من التوغل، ومغر بالمضي قدما في هذا المسار تعميقا، وتوسيعا، وتأصيلا، وتأويلا.
الوطن