إعادة الانتشار الموريتاني: من موريتانيا الإسبانية إلى شريط الكَركَرات
كشفت أحداث الكَركَرات الأخيرة يوم 13 نوفمبر 2020 عن منعرج أساسي في مسار نزاع الصحراء، يمكن ربطه بعملية إعادة انتشار للفاعلين.
ليس المقصود هنا المنظور العسكري لهذا الانتشار، بل يحاول هذا المقال أن يقف على إعادة الانتشار بمدلوليها السياسي والاجتماعي لأطراف النزاع.
ونتسائل كيف ساهمت الكَركَرات في إعادة انتشار الفاعلين في ملعب العملية السياسية لنزاع الصحراء؟
أليس الدور الموريتاني هو المستهدف وهو المعني أساسا بإعادة الانتشار هاته؟
خاصة اذا ما استحضرنا أن أدوار كل من المغرب والبوليساريو والجزائر والأمم المتحدة لم تتعدى خلال العقدين الآخرين كونها عمليات إحمائية، شبيهة بتلك التي تقوم بها الفرق الرياضية، من أجل تصوير اللاعبين المشاهير وجلب أكبر قدر من الاعلانات والمبيعات لأقمصتهم، دون أن تكون المباراة الحقيقة هي الهدف، وربما سعى الجميع إلى تأجيلها من أجل تحقيق مكاسب أكبر، مع كل جولة إحمائية جديدة.
في المقابل لاحظنا مؤخرا مجموعة من المحاولات التي استهدفت أساسا الطرف الموريتاني، من أجل أن يتخلى عن دوره الحيادي،
ولنفهم أكثر دعونا نبحث في تاريخ هذا الدور وكيف يتم اقحام موريتانيا للعب دور جديد، تارة بتأثير خارجي مباشر، وتارة بفعل تأثير ٍداخلي دون ظهور المتغير الخارجي الذي يحاول فرض ما أسميناه إعادة للانتشار.
*اتفاقية مدريد نوفمبر 1975.
قبل أن توقع موريتانيا الراحل ولد داداه على اتفاقية مدريد مع المملكة المغربية واسبانيا ، كانت هناك خطابات لربط موريتانيا بالصحراء من خلال تغذية خطاب الوحدة السياسية للقبائل والعشائر وهو ما تجسد في دعوته سنة 1958 لعقد مؤتمر الوحدة للشروع في بناء الأمة والدولة الموحدتين واستدعى لحضور هذا المؤتمر وفود من الصحراء الاسبانية بقيادة خطري ولد سعيد الجماني والتي تم تقديمها على أنها موريطانيا الاسبانية.
حملت هذه الخطابات أبعادا أخرى مع سنة 1975، لكن هذه المرة لم يكن هدف بناء أمة واحدة هو الدافع، بل إن الحفاظ على مكسب استقلال موريتانيا كان هو الدافع الرئيسي لإعادة انتاج خطاب الأمة الموريتانية، المعتمد على الامتداد القبلي والإثني والثقافي شمالا، كما كانت تهدف بالأساس إلى تكريس وتعزيز الاعتراف المغربي بالاستقلال الموريتاني والقطيعة مع المطالب المغربية فيها.
لتتقلص رقعة جغرافيا التأثير الموريتاني المفترض من موريطانية الاسبانية سنة 1958 الى تيرس الموريطانية ( واد الذهب ) سنة 1975.
إلى حدود هذا التاريخ يمكن أن نعتبر الدور الموريتاني مرتبطا بالمتغير الخارجي وبلعبة دولية التخطيط، والتنفيذ فيها للأقوى سياسيا، ولم تكن الحاجة ملحة إلى إنتاج أحداث من الداخل الموريتاني لتحديد دور هذه الأخيرة في المشهد الإقليمي.
انقلاب 10 يوليو 1978
يعد هذا الانقلاب تشكلت أحداث الداخل الموريتاني، وبدأ معها التحول في وضع موريتانيا الاقليمي، خاصة ما تعلق منه بنزاع الصحراء، و الذي نتج عنه تقلص في تأثير موريتانيا المجالي من ” إقليم واد الذهب” إلى شريط “الكَركَرات لكَويرة” عقب اتفاق السلام الموقع بين موريتانيا وجبهة البوليساريو التي اعقبها اعتراف “بالجمهورية الصحراوية”.
لكن كيف تم هذا الاتفاق؟ وما تأثيره السياسي والاجتماعي على الدور الموريتاني؟ رغم شعار الدور الحيادي الذي ظل مرفوعا لفترة طويلة.
نعود هنا إلى تصريحات الفاعلين المحورين في تلك الفترة فنجد في تصريح سابق للبشير مصطفى السيد الذي مثل البوليساريو في توقيع اتفاق السلام بأن أهداف الجبهة من الاتفاقية واضحة وهي:
“هدف عسكري استراتيجي: تحويل جهد الحرب نحو هدف واحد هو المغرب،
هدف سياسي دبلوماسي: يزيد من رصيد جبهة البوليساريو والحكومة الصحراوية بانتصار جديد على الساحة السياسية والدبلوماسية، هدف حقوقي قانوني في اعتراف بحق الشعب الصحراوي في السيادة على أرضه”.
ولعلنا نشهد نفس المنهج في تحديد الأهداف التي تتم صياغتها بعد أحداث الكَركَرات مع اختلاف في مضامينها مراعاة للمرحلة.
أما بالنسبة للجانب الموريتاني في يرى الفاعلون السياسيون في تلك الحقبة أن “وجود موريتانيا كدولة حرة ومستقلة، يبقى مهددا إذا لم تخرج من تلك الحرب المرفوضة شعبيا”، كما ورد في تصريح للمقدم أحمدو ولد عبد الله، قائد أركان الجيش الوطني يوم 8 أغسطس.
ارتبطت هذه الاهداف بالتنازل عن رقعة جغرافية كانت خاضعة للسيطرة الموريتانية، صاحبتها إعادة انتشار عسكري وسياسي واجتماعي تمثلت في:
# ضم المغرب لأغلب المناطق التي كانت تسيطر عليها موريتانيا.
#تدخلات خارجية في موريتانيا منها المحاولة الانقلابية التي قادها المقدم احمد سالم ولد سيدي ضد ولد هيدالة لصالح المغرب والتي انتهت بإعدامه
# محاولة إعادة إحياء هدف الرئيس الفرنسي جيسكار في جعل جبهة البوليساريو شريك في الحكومة الموريتانية وهو ما برز أيضا في تصريح الملك الحسن الثاني حين اعتبر أن الجبهة هو موريتانيون بالأساس.
# وقد سخر المقدم احمد سالم ولد سيدي بعض الموريتانيين في مهمة للجبهة من أجل تنفيذ هذا المخطط.
فشل هذا بالمخطط بمقتل المقدم احمد سالم ولد سيدي، والغريب في الأمر أن هذا الأخير هو الموقع عن الطرف الموريتاني لاتفاق السلام مع الجبهة، رغم أنه لم يكن راضيا عن التخبط الذي شاب التحضير لهذه الاتفاقية.
اقتبس هنا مقتطفات سردية لمجموعة من الوقائع ستفيدنا في هذا التحليل من مقال بعنوان:
انقلاب 10 يوليو: من قبض ثمن اتفاقية السلام مع البوليساريو؟ من اعداد مجلة أقلام حرة الموريتاني
” تحدث الرئيس الموريتاني السابق محمد خونا ولد هيدالة عن هذا الاتفاق قائلا:
“قدمت لهم مقترحين: إما أن نعيد الجزء الذي لدينا للأمم المتحدة تقرر فيه ما شاءت.. وإما أن نستدعي الأمم المتحدة لتجري استفتاء لتقرير مصير في الجزء الواقع تحت سيطرتنا. وقد قبل بشير هذا بل قبلوه جميعا”.
“وبعد عودتي إلى نواكشوط .. أرسلنا النائب الثاني لرئيس اللجنة العسكرية المقدم أحمد سالم ولد سيدي وقائد الأركان الوطنية المقدم أحمدو ولد عبد الله إلى الجزائر للتفاوض مع البوليساريو وفوضتهما قبول أي من المقترحين كما أوصيتهما بالتكتم على مهمتهما لأن فرنسا إن علمت بما يريدان فستسعى لعرقلته..
واستمرت مفاوضتهم ثمانية أيام وفي الأخير وقعوا اتفاقية الجزائر المشهورة التي تنص في بند سري على تسليم الصحراء للبوليساريو بعد 9 أشهر من تاريخ توقيعها.
وقبل نهاية سنة 1978، ظهر القائد الفعلي للجناح المدني للانقلاب سيد احمد ولد ابنيجاره في عدة عواصم يحمل ملف المفاوضات مع الصحراويين وقد طور مقترح القذافي القاضي بالوحدة بين الموريتانيين والصحراويين، إلى صيغة تمنح بعض الاعتبار لانشغالات مختلف الأطرف، حيث تشير إلى “الاستغلال المشترك لخيرات الصحراء بين الموريتانيين والصحراويين والمغاربة والجزائريين، منح الجزائر ممرا إلى المحيط الأطلسي، منح المغرب شريطا في شمال الصحراء الغربية، إقامة علاقات مميزة بين الدولة الموريتانية الصحراوية مع المغرب والجزائر”. (موريتانيا المعاصرة).
كما كان هناك الموقف الذي يتبناه الرائد جدو ولد السالك والقاضي بأن “الحل المناسب لمشكلة الصحراء في ذلك الوقت هو تشكيل حكومة وحدة وطنية بين موريتانيا والبوليساريو، علي غرار ما حدث في تلك الآونة بين المتمردين في شمال تشاد بقيادة حسين هبري والحكومة المركزية في اتشاد”، معتبرا أن “هذه الحكومة إذا ما شكلت تمتلك نصف الصحراء (تيرس الغربية أو ما يعرف باقليم وادى الذهب) وعليها أن تتفاوض مع المغرب من أجل حل سلمي”. طبقا لما نقله الصحفي محمد الحافظ ولد محم في شهادة له تحت عنوان: العاشر يوليو وخط جريدة “الشعب”.
وبعد وصول المقدم أحمد ولد بوسيف إلى السلطة في 6 ابريل 1979، بادر بالشراكة مع المقدم كادير إلى إعداد وثيقة سرية حول القضية الصحراوية خلصت إلى أن “السلام لن يكون بأي ثمن ولن يكون إلا شاملا”، غير أن المفارقة تمثلت في أنه في الوقت الذي كانت فيه القيادة الجديدة للبلاد (ولد بوسيف وكادير) تعيد النظر في موقفها من السلام مع الصحراويين، كان وزير خارجية موريتانيا أحمد ولد عبد الله يوقع في طرابلس يوم 19 ابريل على اتفاق مع البوليساريو هو الأغرب من نوعه حيث لا ينص فقط على تسليم “تيرس الغربية” إلى الصحراويين وإنما أيضا على طرد القوات الفرنسية من موريتانيا وعلى إغلاق أجوائها في وجه الطيران العسكري الفرنسيᵎ كما يتعهد بموجبه بتوقيع موريتانيا لاتفاقية سلام مع الصحراويين يوم 26 مايو 1979ᵎ”
انتهى الاقتباس.
سيناريو اعادة الانتشار للدور الموريتاني ما بعد 13 نوفمبر 2020.
يتضح جليا أن الدور الموريتاني مرتبط أساسيا بالمراحل المفصلية للنزاع، لذلك ومن خلال ما سبق من وقائع يمكننا أن نجد نقاط مشترك بين ماضي هذا الدور وحاضره يمكننا تحديدها فيما يلي:
# انتشار حملة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي في المرحلة التي سبقت أزمة الكركرات والتي استهدفت العلاقة بين الموريتانيين والصحراويين بناءا على المواقف السياسية من النزاع، من بين أطرافها من كانوا يعملون لصالح مخطط المقدم احمد سالم ولد سيدي المدعوم فرنسيا.
# ظهور انقسام داخل الشارع السياسي الموريتاني حول أين توجد المصالح الموريتانية هل مع المغرب او مع الجزائر،في إشارة الى ضرورة القطيعة مع نهج الحياد السلبي وربط علاقات مع الطرف الأقوى الذي يحقق مصالح موريتانيا.
# دخول المنطقة في صراع بين المغرب والجزائر حول من يكون بوابة افريقيا، وافتتاح معبر بين الجزائر وموريتانيا وبداية الاضطرابات بمعبر الكركرات، و تدشين ميناء امهيريز القريب من نواذيبو.
# تغييرات على مستوى صناعة القرار في كل من الجزائر وموريتانيا وظهور خلافات على مستوى أصدقاء الأمس في الصف العسكري الموريتاني، مما يعود للأذهان صراع الرفاق ما بعد انقلاب 1978 بموريتانيا.
# احداث 13 نوفمبر تعد تحديا كبيرا للدور الموريتاني في أخر حيز جغرافي يربطها بالنزاع.
# ارتفاع مستوى التصعيد اعاد النزاع من جديد للواجهة ويدفع بموريتانيا إلى دور محوري كشريك فحل سياسي لن يقتصر على حل مشكل الكركرات، بل سيذهب الى سيناريوهات لمخطط سلام جديد، والذي لن تلعب فيها موريتانيا دور الملاحظ المحايد ، بل سنشهد إحياء لمشاريع قديمة تماما كما حدث في نهاية السبعينات تربط حل الصحراء او اجزاء منها بإشراك الجانب الموريتاني.
توجد الكثير من المعطيات التي تؤكد أن الاحداث المتسارعة، وإن كانت تخطف الأنظار على مستوى البيانات العسكري إلى الرباط وتندوف ، لكنها ستتجه جميعها صوب انواكشوط لكسب الرهان السياسي.
والذي سيكون عنوانه إعادة انتشار للفاعلين السياسين في نزاع الصحراء وفي مقدمتهم الجمهورية الاسلامية الموريتانية.
ربما تكون من بين معالم إعادة الانتشار هاته:
+ حضور أقوى للطرف الموريتاني في المعادلة السياسية المستقبلية، خاصة ما تعلق منها بمسؤولية التاريخية عن منطقة واد الذهب التي تضم كل من الكركرات و الكويرة، لما لهما من بعد استراتيجي بالنسبة لموريتانيا.
+تغييرات على مستوى الوسيط الذي سيحظى بثقة الاطراف لمواكبة أي اتفاقات جديدة، فقد نرى حضورا أقوى للاتحاد الافريقي و المنظمات الإقليمية و القوى الدولية الفاعلة في الملف بشكل مباشر.
+ حضور قوي للولايات المتحدة وروسيا وانهاء للاحتكار الفرنسي لمنطقة غرب افريقيا ، مما سيجعل هذه المنطقة تدخل مرحلة التجاذبات الدولية كما هو الحال في منطقة الشرق الاوسط.
+ امكانية ربط ملف الصحراء بباقي الملفات في المنطقة ، وجعل مواقف القوى الاقليمية والدولية رهينة المساومة والمقايضة على مواقف المغرب والجزائر من قضايا ذات أولوية بالنسبة للفاعلين الدوليين.
بداد محمد سالم
كاتب وباحث متخصص في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط.