الإستِعاضَة التِّقْنِيَّة .. القِسْطَاسُ وَ الإتْقَانُ/ عبد المجيد مُومِيرُوسْ
إن مراجعة النموذج التنموي المغربي تستوجب تمكين المجتمع المغربي من الحق في قيم حياتيَّة تَرصُّ البُنْيَانَ الثَّقافي الوطني، تُتبِّثُ الأمَلَ ، و تُحَفِّز على التَّزَوُّدِ بمفاهيم العمَل الجديدة و اكتساب المَهَاراتِ المُستَجَدَّة ، كَي تساعِد على الارتقاءِ بالوطَن و السّيرِ به نحو الصُّعود. وذلك بِكَسبِ رِهانِ استِكمالِ بناءِ مغربِ المسَاواةِ للجَميعِ، عبر تًوْطيدِ الثّقةِ و المكتسباتِ و التَّسْريع الاقتِصادِي و النَّجاعَة المؤَسَّسِيّة دُونَ الانغلاق على الذات. بالتالي تُشَكل الوثبة التّثْقِفيّة مَدخلا أساسيا لإنجاح المرحلة الجديدة التي لن تكتملَ إلاَّ بِوَثْبَة جَيْلٍ ثَقَافي جديدٍ مُبْتَكَرٍ و مُبْدِعٍ، جَيْلٍ مَغربي يُنَاضلُ من أجلِ تَقَدُّمِ الوَطَن ، و لِمَصلحَة تحسِينِ مُحيطِ عَيشِ الموَاطناتِ و الموَاطِنينَ.
كَمَا لا مجالَ لِحُسْنِ تَداولِ مَفاهِيم التّنميَّة و الديمُقراطيّة و الحُرية عَدَا رَحابَةَ الفَضاءِ المشْتَركِ المؤَسَّسِ بدَوْرِه على أَوْتَاد الجوابِ الثقافي العَميق المُنْبَعِثِ من رمادِ المجتمع السّحيقِ، وَ المُرتَكِز على مبدأ التَّعَدُّدِيَّة المتَسَاوِيَّة في تَنميَّة الوَعْيِ و الذَّوْقِ و تَقوِيَّة حِسِّ التَّمَدُّن و التَّربيَّة على المواطَنَة. فَهوَ ذاتُ الجوابِ التَّشَارُكِي الذي يضمنُ القُدرَة علَى إلتِئَامِ جميعِ مُكَوِّناتِ المجْتَمَع المغرِبي لِرَفْعِ تحَدِّيَات مرحَلةِ التِّقْنية العَالية، و الإنطلاقِ بأملٍ مع العملِ لتَجديدِ النمُوذج التَّنمَوِي المغربي و التَّقليصِ منَ الفَوارِقِ الإجْتماعِيَّةِ و المجَاليَّةِ.
مِثْلَما يضمنُ لنَا – دونَ خوفٍ أو تَردّدٍ – إِحلالَ القِيَم البَنَّاءة و المنَاهِج العِلميَّة الرَّائِدَة التي تجْعَل منَ الرَّقْمَنَة التَّعليميَّة وَرْشًا عُمُوميّا مُنتِجًا لأجيالٍ ثَقَافية جديدةٍ ، وفقَ إستِعَاضَةٍ إِصلاَحِيَّةٍ مَحَلِّيَّةٍ ثاقِبَةٍ تَعمَلُ علَى تَطوِيرِ دِينَامِيَّةِ المجتمَع المحَلي و مُؤَسَّساتِه القَريبَة و تَفاعُلِ العَلاَقاتِ الثَّقافِيّة و الاجْتِماعِيّة و الاقْتِصادِيّة المحليَّة معَ زَمَنِ الرَّقْمَنَة السَّائِلَة و تِقْنِيَّاتِ الذّكاء الاصْطِناعي. إذْ يَستَحِيلُ الإنتماءُ المُوَاكِبُ لِسُنَنِ التاريخِ البَشَري، و الإنخِراطُ المُشَارِكُ في رَسمِ الفُسَيفِساء الحضاري العالمي عَدَا بتَقديمِ الإضَافَة النَوْعِيّة للمَنتُوجِ المَحلِي و إعادَةِ تَحْديثِ شَخْصِيَّتِهِ الأَصِيلَة.
و لَعَلّ كوارِثَ التَّنافُرِ وَ التَّضَادِّ وَ التَّدَابُزِ القِيَمِي و السّياسي الاجتماعِي و التَربَوِي داخلَ الوَاقِع الإفتراضي المغربي. بالإضافَة إلى فَواجِع الإِنْزِلاقاتِ الاحتِجاجيّةِ، و فَظاعَاتِ التَّفاوتاتِ الطَّبَقِيّة الصّارِخة، و شُيُوعٍ مَظاهر الرِّيعِ الفَظِيعِ. و دونَ التَّغافُلِ عن مَصَائِبِ العَقْلِيَّاتِ الجامِدَة و التَّصَرُّفاتِ البَاليّة المُحْبِطَة، و خَسائِر إهْدَارِ الوَقْتِ و الجُهْدِ و المالِ. جَمِيعُهَا مَشاهِدٌ تَخْتَصِرُ التَّعبيرَ عن النَّواقِصِ الجَسيمَة ، كَيْ تُوَضِّحَ بِجَلاءٍ تَقَادُمَ الجوابِ الثّقافي الحَالي الذِي يَعيشُ علَى حَصيلَةِ الفَشلِ في بناءِ حداثةٍ مَغربيّةٍ سَليمةٍ تُخلِّصُ المجتمَع المغربي من تَفشِّي أَمراضِ التَّوَهُّمِ وَ العَجْزِ و التَّواكُلِ و الاسْتِيلابِ المُريعِ. حيثُ غَلَبَت مُؤَثِّراتُ الدُّونِيَّة الثقافيَّة و طَغَتْ مظاهِرُ التَّبدِير الاستِهْلاكي الساذَج ، و سَيْطَر التَّعَصُّب الأعمى على مَفاتيح الرّحمَة، و انتَشَر الخطابُ العَدَمي المُحْبِط المُؤَدِّي إلى سَعير تَسْفيهِ و إفْشَالِ الإصلاحِ المُنْقِذِ للهندسَة المؤَسَّساتيَّة الدُّستورِية.
مِثْلَمَا فَشلَ الجواب الثقافي المُتَجَاوَزُ في بناءِ حداثةٍ بَنَّاءة تجعل الإنسان المغربي قَادِرًا على المشارَكة في زمَن الثورة التكنولوجيا العالية، من موقع مَحلّي فاعل مُعتَز بِشَخْصِيَّتِهِ الثقافيّةِ المُنفتِحة، نَاهِضٍ بِالتلاقُحِ الحضاري و تَبادُل التأثير بما يؤشر على البصمة الثقافية المغربية، التي تُعَزِّزُ فَرَضِيَّاتِ الاختيار الحُرِّ المُبادِر كأساس للتَّغيِير الإجتمَاعي المُناسب ، و تُجَدِّدُ قِيَمَ العَمَلِ والمسؤولية، والاستِحقاقِ و تكافُؤ الفُرَص، بما يتَنَاسَبُ مَعَ سياقِ الطفرة الإنسانية الجديدة .
إن تَبْريزَ النموذج التَّثْقِيفِي المغربي يَرتبِطُ ارتباطًا غير مُنْفَصِلٍ عن وَاجبات إنجاحِ وَرْشِ الجِهوية المُتَقدِّمَة، و الذي يَتَطلَّبُ تأهِيلاً ثقافيًّا رَقْمِيَّا للموارد البشرية ( مُنتَخَبين و إداريين ..)، حتّى تَتمكَّن من ممارسة الإختِصاصَات الموكولة إليْها بما يَفرِضُه مبدأ التَّفْريع كَتِقْنِيّة دستوريّة لتنظيم عملِ مؤسَّسات الجماعات الترابية. فَلن يستقيمَ صِراطُ الديمقراطيّة المحليّة و تقريب الخدمات الإدارية عدَا بتَرسيخِ ثقافة الرَّقْمَنَة قصد تَثْبِيتِ اللاَّمَرْكَزِيَّة و اللاَّ تَركيز و تغيير العَقلِيّاتِ، و الاعتماد أساسًا على احتضان السّاكنة المحليّة لثقافة المَأسَسَة و التَّعاون الجماعي و رعاية الحقوق الأساسية المُشتركة، و إشراكِ النسيج الثقافي الاجتماعي في تنزيلِ الهندسة الجديدة لتَنظيمِ سُلطة الدولة على مجالها الترابي بما يلائِمُ خصوصياته الثقافية المتعددة و بما يتَعَايَشُ مع ثورة التكنولوجيا العالية.
لذا نعود من أجل التأكيد على أنَّه واهِمٌ من يعتقد أن خَلْفِيَّتَهُ الثقافية و مَرْجِعيَّتَهُ الفكرية هي الضامن الوحيد و الأَوْحَد لِابداع الحلول المناسبة للمشاكل التنموية و الاجتماعية و تطوير المنظومة التَّحديثِيَّة و إصلاح أعطاب الجهات الترابية.
هذه الأخيرةُ تستَوجِب وثبةَ الثقافات المحلية المغربية نحو العُمقِ الإبداعي البارِع و المدَى الرقْمي الواسع . و ذلك من خلال اعتماد نَهْجٍ تَثْقِيفي مُتعَدد الأبعادِ و حاملٍ لأَثرِ التكنولوجيا العالية بِصَبيبِهَا الذي يَسْري بين عروقِ فئات المجتمع بتنوع تَمَايُزَاتِهَا المَحلية. نهجٌ تَثْقِيفِي لا يربط فقط النتائج بالمُقدِّمات ، بل يعمل على جعل قلوب الثقافات المحلية مُتَضامِنة ، و عقولِها مُؤَهَّلَة لحِقبَة التَّعَلُّمِ الآلِي، و سَوَاعِدِهَا قادِرَة على حَمْلِ حُلُمِ الوطن المغربي المُوَحَّدِ وَ اللّحَاقِ بالركب الحضَاري المُتَقدِّم.
1- لماذا الجواب الثقافي الجديد ؟
ننطلق من مَفْهُومِ الإستِعَاضَة التِّقْنِيّة بما هي تعبير حُرٌّ عن تطوير مُستَمر لآلياتِ التفكير داخل بُنَى الثقافات المحلية. حيثُ يدفَعُنا للتَّنْبيه إلى أنّ الإسقاطَ السياسوي غير المُعقلَنِ لصراع أَيْديُولُوجياتِ : “الحَداثَة المَفْرُوضَة” و “التَّدَيُّنِ الحَاكِمِي”، لم يعمل باستِحضَارِ المصلَحة الثّقافيَّة الوَطَنِيَّة العُلْيَا . ممَّا أدّى إلى ضُمُور العديد من التَّخَصُّصَاتِ المَعْرِفية و الرَّوافِد الفكريّة. و تَسَبَّبَت جَاهِلِيَّة الصراعِ في إقصاءِ العُقُول الوَطنيَّة المَنْسِيَّة التي تتَوفر فيها معاييرُ الفِطْنَة و التَّمَرُّس و الخِبْرة وَ التَّجَرُّدِ، مع القُدرَة على التّناغُمِ مع نَبْضِ المجْتمع و انتِظَاراتهِ المستَعجَلة.
هذا الإسقاطُ الأجوفُ يجسِّدُ أَبْرَزَ الأسبابِ الجوْهَريّة في شَلَلِ الإصلاحِ الدّيمقراطي التنموي بالمغرب. حيثُ فاضَ إناءُ تَطَاحُنِ النُّخْبَة المُسَيْطِرَة وَ كانت تَداعياتُهُ هَدَّامَةً بانْتِشارِ سُلوكٍ مجتمعي تَبريري تَوَاكُلي غارِقٍ في التَّماطل و التَّخاذُل عن التَّعَلُّم النَّافِع، سُلوكٍ مجتمعي عاجزٍ على تَعبيدِ طَريقِ التَّطويرِ الذَّاتي للشَّخصيَّة المغربيّة ، و تَأهيلِ رَأْسِمالِها اللاَّمادي قصدَ احتِضانِ مَشروعِ الصُّعودِ المنْشُودِ . و ذلك عبر إجتِنَابِ عيوب الرَّبْطِ الميكَانيكي لإنجازِ الإصلاحِ بِمَرجِعيَّةٍ أَيْديُولوجيَّةٍ وَحيدةٍ مُحدَّدة و مُنْغلِقة زَمَكَانِيًّا. لأنَّ جَدوى القيَم التَّنْوِيرِيَّة تُدْرَسُ منْ مَحَلِّيَتِها إلى كَوْنِيَتِهَا، في إرتباطّ بحاضِر الإنسانِ في إِنْفِرَادِهِ و في ضرورة الآخر بِوُجُودِهِ ، و ذلك تَكْريسًا لمبدأ الإختلاف القائم على الإيمان بالمُغايَرَة و إحترَامِ التَّنَوُّعِ.
لأجل هذا ؛ يؤسس مفهوم الإستِعَاضَة التّقْنِيَّة لِفتْحِ وَرش الوَثبَة التَّثْقِفيّة الجديدة بهدف إضافَة لَبِنَة إصلاح مُتَجددة في ظل الاستمرارية. نعم ؛ وثبةٌ تَثْقِيفِيَّة تنطلقُ من نبذِ عَادَاتِ الإنهزاميَّة و العُنف و التّطرفِ و التَّكفيرِ و الانْغلاقِ. كَيْ تَصِلَ إلى تَحصيل المَعرِفة و حُسن التَّمَرُّس ،وَ إِبداعِ أَفْكارٍ وَ صِيَغ مُتَطَوِّرة، و توفير نماذِج عمليَّة مُجدَّدَة تُتِيحُ المُشاركة الجادة في استكمالِ تَجويدِ مَشروعِ الإصلاحِ الثّقافي الدّيمقراطي التَّنمَوي على الصّعيدِ المحلِّي ، الجِهوي و الوَطَني.
فالجوابُ الثقافي المحلِّي يُشكِّل المَدخلَ السليمَ لإبداعٍ و تَنْفيذِ النموذج التنموي الجديد السّاعي بهدفِ إحقاقِ التَّأْهيلِ المحلّي بنَفَسٍ دِيمقراطي تَشارُكِي. وَ لَعلّ هَذا الذي يَستَلزِمُ تَوْظيفَ التَّراكمُ العَقلاني المغربي بما يتمَاشَى مع طبيعةِ الزَّمن التاريخي الرَّاهنِ. و الذي يُسائِلُنا عن مُهِمّات الحَفْرِ في أعماقِ تُراثِ ” الأصالَة المَغْرِبِيَّة ” و إستِخْراجِ كُنُوزِهِ المعرفيّة المطمَرَة لتَحريرِ الحِسِّ الإِبداعي بما يُنَمّي تماسُكَ ثقافة المجتمع المغربي ذاتِ الرَّوَافِد المتعَدِّدَة ( العربيَّة ، الأمازيغيَّة ، العبريّة ، الأندلسيّة ، الإفريقيّة ، الحسانيّة )، و بما يؤدي إلى صيانة تَنَوُّعاتِها المَجاليَّة و اللُّغوية المُشَكِّلَة لهُوِّيَّتِها. و يُطالِبُنا كذلكَ بإنجازِ المُعَايَشَة الرَّقْمِيّة فوقَ سَماءِ مفهُومِ “المعاصَرة”، بهدَف تطويرِ الشّخصيّة المغربية القائمة بذاتِها ، و بما يتَطلبُه النموذج الثقافي الوطني من عقلياتٍ رحيمَة ترفضُ أشكالَ الإِستِئْصَالِ وَ العُنْفِ و التَّطرف و الإقصاءِ و الإرهابِ وَ السِّلْبيّة وَ العَدَمِيّة ، وَ تَرفُضُ كذلكَ أساليبَ الوِصايَة و الحجْرِ المنْغَلقِ و الإستيلابِ المنْبَهِر بِطَفراتِ الآخَر. نعَم؛ عقلياتٌ وطنيةٌ و مواطنةٌ تعملُ بتَحصيلِ المعرفَة التِّكْنُولُوجِيَّة اللاّزِمَة و التمَدُّن الرَّاقي. كمَا تُناضِلُ منْ أجلِ التَّغيير الإِجتِمَاعي الإيجابي السِّلْمي بِتطْوير المقاربة المحليّة الجادَّة ذاتِ النَّفَسِ الدِّيمقراطي التَّشارُكي المُنْتِج والمُتلاقِح مع الآخر و مستجداته العلميّة و التِقنيّة و التواصليّة.
و لعلَّ محاولَة تقديم الأجوبة حول سؤال المسْتَقْبل تَنْطَلقُ من حاضر التأكيد على أن الكُتلة الغالِبة من الأجيال المغربية الصاعدة تعتنق مذهب ” اللاَّمُبالاَة بالسِّياسة” ، وتعاني من حرِّ الغياب أو التَّغْيِيب عن ذوق ” نماء الثقافة”. إنها الكتلة الناشئة لزمن « الثورة الصناعية الرابعة»، و هم شباب يعاصر فوضى وفرة المعلومة و ينخرط إرادياً أو لا إرادياً فيما اصطلح عليه بـ” المواطن العالمي”، ولو افتراضياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
هذه الفِئَة العُمريَّة التي ارتفَعت نقرات مطالِبها الآنية في ظل وضع اجتماعي و اقتصادي جد قاسٍ ، هي شبابٌ أغلَبُهُ منفتح في السلوك و المعاملة و إستعمال تقنيات التواصل الحديثة. إنه نتاجٌ إنساني وجب أن تَتَطور إدراكاتُهُ الثقافية بما يُسَايِر التّغَيُّرات المُجْتَمَعِيَّة الكبرى. و ذلك من خلال الإلتزام بالمفيد من التشبع العقلاني بقيم المعرفة و الاعتدال و الانفتاح ، و التَّحَلّي بالإرادَة الجامِحة في المزيد من التّعلم الأًلِي النافع ، و الارتقاءِ بتِقْنِيَّة الإستِعاضَة لتَرْمِيمِ البَالِي المُتَهَالِكِ و تَنْقِيحِهِ من نَعَرَاتِ الإقصاء و التّمْييز و الغُلُوّ و التَّكفيرِ و الانْغلاقِ . وكذلك عبر النّضال السلمي السليم من داخل المؤسسات قصد التمتع بحقوق المواطنة و العدالة الدستورية.
وحيث أن التأويل الأيديولوجي الحَجَري الخُرافِي قادَ الإنسانية بسقوط حُر في حَانةِ جُمود العقل. و ظهر من تجاربه الأليمة أنهُ تأويل غير قائم على المعرفة و حسن التَّعَلُّمِ و التَّقَدُّمِ ، و أَنَّهُ تأوِيلٌ لم يأخذ بالأسباب و لم يَستَجْلب الإنسان بمَكارمِ المُوَاطَنَة المتوازنة. فإن الجواب الثقافي الجديد يَسْتَبْطِنُ الزَّاهِرَ من أَلوانِ المُستَقْبَلِ، كَيْ يَستَدْعِيَ الشبابَ المغربي و يَشْحَذَ الهِمَمَ من أجل الانخراط الشجاع و المثمر في تغيير وَضعٍ لم يَعُد مَقبولاً استمراره. نعم .. آن الأوان للتّثْقِيفِ الذكي حتَّى تتَحوَّلَ الثقافات المحلية المغربية نحو القدرة على احتضان العقول الممكنة لمواجهة تحديات و إكراهات الكامنة في زمن industrie4.0 ، و آثاره القادمة على الإقتصاد و التنمية المطلوبة ، خصوصا في ظل النقص و الخصاص الحاصل في تمكين الفئات المستضعفة من حقوقها في علوم التكنولوجية الحديثة .
و عليه شَذْرَة الجوابِ : مفهوم الإِسْتِعاضَة التِّقْنِيَّة التي تَزُفُّ خبر الوثبة التَّثْقِيفيَّة الرامية إلى بلوغ مرحلة التَّكَيُّفِ وَ التَّأَقْلُمِ معَ حِقْبَة التَّجْميع التِّكنولُوجي للْعَوَالِمِ الرَّقْمِيّة و البْيُولوجية و الماديَّة. و هي الإستِعاضَة تِقْنِيَّةُ تَحَوُّلٍ تنطلق من لُوغَارِيتْمَاتِ المسألة الثقافية أولاً، من حيثُ أنَّها وَثْبَةٌ فكرية إصلاحيَّة لها ما يكفي من عزيمة الانتصار للمستقبل. هَكَذَا بتَنْقِيّة الذات من أَدْرَانِ الانغلاقِ و العيش في ماضي الصراع الكلاسيكي المُتجاوز. مع الدفع بالسياق العام نحو عبق التعايش و التلاقح و التعاون و العمل العلمي و الالتزام المُؤَسّساتي المُشتَرك قصد استكمالِ بناءِ تعاقُد الحاضِر من أجل المستقبل الذي يُبَشِّرُنَا بِحِقْبَة الرُّوبوتْ و تِيمَة الإِنْسانِ الآلي التي سَتُسْقِطُ عَرْشَ الكَثِير من السَّرديَّات الكُبْرَى المُتَقَادِمَة.
2- الإستِعاضَة التِقْنِيَّة بَيْنَ الفِكْرَةِ و المَعنَى :
أَسْتَفْتِحُ تَقْعيدَ مفهوم الإِسْتِعَاضَة التِّقْنِيَّة بمِثالِ الفِكْرَةِ التي نُلْصِقُ بِهَا مَعنى خاصاً، و هي أيضاً تُريدُ شَارِحَهَا فِي سِياقِ مُفْرَدَاتِهَا الخاصَّة، و منه فَلا بُد منْ الإحتِفَاظِ بِبَناتِها لَهَا. إِذْ أَنَّ كُلَّ إِسْتِخْفَافٍ بخَوارِيزْمِيَّات ” بَنَاتِ الفِكْرَة ” يُجَسِّدُ في العُمق اغتيالاً لمَعنَى الفِكرةِ-الأمِّ، رَغْم جميع محاولات التَّفَنُّنِ في تَجميلِ القَوَامِيسِ و نَقْل التَّرجمَة . و كَذَلِكَ كلّ تَحريفٍ لهَا هو حكم على الفِكْرَة-الأُم بالذُّبول رغم كُلِّ طُقُوسِ الاحْتِفَال اللَّحْظِي بِتَأْوِيلاَتٍ تَسُرّ المُتَخَاذِلِينَ فقَط. وَ في غَمْرَةِ البَحثِ عن مَعنى الإحساس بالسِّلْمِ وَ السَّلاَمِ وَ الإِعتِدال وَ الأَمانِ وَ الحُريّة وَ الكَرامَة و العَدل و الإِحسانِ ، تتشَكَّلُ رَوابِطُ التَّعايُشِ المَتينِ بين الثقافات المحلية ، و تتَجَلَّى بَواعِثُ تَلاقُحِها مع قِيَمِ الحضارة الإنسانية النبيلة ، و يلوحُ في أفقِ انفِتاحِها الثَّقافي التِّكْنولوجي فَتْحُ أَوْراشُ التَّعَلُّمِ الآلي وَ تحصيلُ الشباب للمَعرفة الرّقْمِيّة اللازمة.
لذا فالمَعنى ” إِحْلاَلٌ رَقْمِي”، و ما بَيْنِه و بين بناتِ الفِكْرَةِ صَوْتُ الأَنْتِلِجَنْسِيَّا الطَبِيعِي، و هي تُلامِسُ قِراءةَ المَعنَى من خَارجِ الصندوقِ وَ لَيْسَ من دَاخِلِه. وَ عَليه يُحتَمَلُ تَفَتُّح فكرة الإستِعَاضَة التِّقْنِيّة بِقَدرِ طَفَرَاتِ عَقْلِ بَنَاتِهَا . وَ منْهُ تَصيرُ المُهمة التثْقِيفِيَّة مُضاعَفَة:
* إستيعابُ فِكْرَةِ الإسْتِعَاضَة و بَناتِها بِعَقْلِ المَعنَى.
* إحلالُ التِّقْنِيَّة في سياق الوَعْي بِحركيّة العقل و التاريخ.
و من تَمَّ تُعَرَّفُ الإستِعاضَة التِّقْنِيَّة بالتَّحوُّل الثَّتْقِيفي نحو تَنْقِيَّة الذَّاتِ المَحَلِّيَّة مِمَّا عَلقَ بها منْ ثِقلٍ تارِيخَاني مُفْرِطٍ في عَرقَلَةِ وَثبَة المُجتَمعاتِ الطّامِحة إلى الصعود الحضاري. و بهذا التَّحول المنشود نتَجاوَز أَلْغَامَ النِّزاعِ المُفْتَعل الذي يَرومُ تَحريضَ الماضي على الحاضِر أوِ العَكسُ كذلك صحيحٌ. وَ بِذاتِ الإستِعَاضَة نَفْتَحُ وَرْشَ وَثْبَة مَعرِفِيَّةٍ للشباب المغربي، إذْ هِي إستِبدالٌ لِأنماطٍ بِصِيغ مُتَطورة تضمن تفعيل واجباتِ و حقوق المواطنة الدستورية، كمَا تَفْسَحُ في المَجال قصدَ استِكْمالِ تَلْقِيمَ شَجَرة الإصلاحِ بِإشراقاتٍ ساطِعَة تنير عقل التّأْهيلِ المَعرفي وَ الثَّقافي لِمَنْظُومَةٍ جامِدة مُتجَمدة أمام ثورة ” رَقْمَنَة الإنْسانيّة “.
هَكَذَا .. إِذَنْ .. هِي الإِسْتِعَاضَةُ التِّقْنِيَّة تَعبيرٌ جَديدٌ عن فِكْرَةِ الهُويَّة وَ مَعْنَى المُثَاقَفَة الحَضارية عند الأجيالِ المغربية الصاعِدة في زمنِ التَّحَوُّلِ التِّقْنِي الكَبِير. وَ أَوَّلُهَا دِينامِيّة العَوالِمِ المُترابِطَة، وَ ثَانِيهَا حَرَكِيَّة الذكاء الإصطناعي، و ثَالِثُهَا تفاعل العلاقات الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية مع طَفْرَةِ ” أنترنيت لكل الأشياء”.
وَ لِأَنَّها الإستعاضَة فِكرةٌ نابِعَة من رَحِمِ الثَّقافات المَحلية المَغربيّة، فَبَنَاتُهَا إمتداداتٌ خَوارِيزْمِيَّةٌ نحوَ مُجتمَع المُنْجَزاتِ و ليسَ مجتمع المُزايَدات. إذ هِي التي تَحتَضِنُ قُدرَتَنا على الانطلاقِ من جديدٍ لِكَسْب التَّحديات المُستَقْبَلِيّة، و تجاوُز الانتكاساتِ الراهنة دونَ تخاذل أو تَردُّدٍ. وَ هِيَ – كذلك- الإستِعاضَة التِّقْنِية بَاقَة قيَمٍ إنسانِيَّة نشتَرك فيها كاختيار فِكري آخر يتَطلَّع إلى إعلاءِ رَايَةِ مغرب الحُرية و الكَرامَة و العَدالة الاجتِماعيّة و المجاليّة ، مغربِ الثَّقافات المَحليّة المُتلاقِحَة معَ النُّبوغِ الحَضارِي العالَمي.
إنَّهَا وِعاءُ المُثَاقَفَة الجَديدَة الذي نَستَطيعُ فِيه وَ به إنجازَ وثبةٍ معرفية خاضعة لعملية اكتِشاف مُستَمرَّة من داخلِ و خارجِ صُنْدوق المُجتَمَع. فهذا المَفهوم الثَّقافي الآخَر ليسَ بالمشروع الفِكْري الكاملِ الإنجازِ و المُسَجَّل باسم أَيْديُولوجيّة مُحَدَّدَةٍ بِعَيْنِهَا. إِنَّمَا هي الإستِعَاضَة التِّقْنِية ذاكَ الرَّسْمُ المِبْيَانِي لتَجَانُسِ الذَّاتِ المُستَنِيرَة مَع مِيكَانِيزْماتِ حِقْبَة الرَّقْمَنَة، و ضَرُوراتِ تَحرير الإرادَة من مُعيقاتِ الصّعودِ الحَضاري المَنشودِ.
كمَا تُجَسِّدُ الإِسْتِعَاضَة آلِية مَعرفيّة تَسمَحُ بِتَمْكينِ الأَجيالِ المَغربيّةِ الصّاعدَة منَ مَلَكَاتِ الغَوْصِ العَميقِ فِي ثَقافَة النَّانو العالمِيّة. فلاَ يَجُوزُ أنْ نسْتَمر فِي التَّجديفِ بين تلاَطُماتِ أمواجِها العاتِيّة دُونَ أنْ نُسَجِّل حضورَنَا بين أجزائها المُشَكِّلَة لهَا و المُشَكَّلَةِ فيها. فالغايَةُ منَ الإستعاضَةِ تَبَدُّلُ العَقْلِيّاتِ وَ فَكُّ قيودِ الجُمودِ الفكري و المَعرفي الذي كرّسَهُ البعض باسْمِ دُوغْمائِيّة الثّقافَة البَالِيَّة السَّائِرَة نحوَ التقَادُمِ، أو تحت غطاءِ الخُرافة المُؤَدْلَجَة كما يُخْفِيهِ البعضُ الآخَرُ . و قد جَعلا منها أَمْراضًا مُجْتَمَعِيَّة مانِعَةٍ لارتِقاءِ الذَّوْقِ الجَمْعِي للأجيالِ المغربية الصاعدة، رَافِعَةً مِعولَ هدمِ و إحباطِ الطاقاتِ باجبارِها على العيْشِ في كَنفِ صِراعاتِ المَاضِي أو بجرِّها إلى خطاباتِ التَّضليلِ و العَدَميّة و الانْغلاقِ وَ التَّسفيهِ. و هيَ العوَائِقُ التي ينبَغِي عليْنا تَجاوُزُها بعَزيمَة الواثِقِ من مُعَاينَة انتصارِ المُستقبل. لأنَّ سيرة الثقافة الماضيّة تفضحُ فظاعًة عَجْزِ المُثَقَّف البَالي عن مُواجَهة بَرمَجِيَّات المُثَقَّف الآلي. بل إن التَّسَتَّر عن العَجْزِ المَعلومِ قد يَمْنع الشباب المغربي من إفراز الاختيارات الجديدة، وَ من تجاوُز صدمة حِقْبَة التِّكنولُوجيا العالية. كَمَا يَصُدُّ عن تَحفيز بواعث الأمل في نجاح وثبة المُثَاقَفة الحضارية.
و منهُ نَمضي بالتأكيدِ الفصيحِ على أَنَّ الإستِعَاضَة التِّقْنِيَّة هي دَالَّة مُشْتَقَّةُ من حِوَارِيَّةِ الغاضِبِ وَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِ عندَ إِحْدَاثِيَّتَيْنِ مُخْتَلفَتَيْنِ، إِذْ تَستَحْضِرُ قَلَقَهَا الوُجُودِي باطمِئْنانٍ ، وَ بِفِطْرةٍ نَقديَّة لِدَوَافِعِ الغَضَبِ وَ القَلَقِ. فَماهِيَّة الغاياتِ هي الإستِعاضَة باستِثْمارِ الغَضَبِ، الإستِعاضَة بعَقْلِ المُغامَرة عَن طَيْشِ التَّهَوُّرِ. هَكَذَا هُو مَخَاضُ وِلاَدَةِ مَفْهومُ الإِستِعَاضَة التِّقْنِيّة من رَحِم الثَّقافاتِ المَحَلِّية، وَ إنَّمَا يَستَوي مَعنَاهُ الأخلاقي بالارتِكازِ علَى جَوابِ ” مَا بعدَ النّقدِ الذاتِي !”. وَ بِالجَزْمِ أستَرسِلُ في تَبْسِيطِ المَفهومِ بما يجعلُ مُرِيدَ الثقافة العالمة البالية مُلزمًا بتَحيِينِ أَدوارهِ و وَظائِفِهِ من أجل البحث عن تَفْكيكِ مَرَاحِلِ الإستِعَاضَة، و ضمان إفراز تفاعُلاَتِهَا النّقديّة بعيداً عن نواقِص التَّعالي وَ عن مساوئ الأَضاليل و المرجعيات التّحريفيّة التي من شأنِها إعادَة إنْتاجِ نفسِ السُّلوك العَقيم الفاقِد للعُمْق التّثقِيفي و للجَرد الفلسفي-الرقمي.
3- الإستعاضة التقنية من زمن الإنسان الآلي:
إِنَّ نَعْتَ ” التِّقْنِيَّة ” خَبَرٌ لا يعني فقط ادعاء الانتماء للزَّخَم التكنولوجي الرقمي الحاصل، بل هو الإنْصاتِ المُسْتَدِيمِ لمُحْتَمَلِه و احتِمالاتِه، والتَّبْئير على قوّة ركائِزنَا، وجَعلها المُحَرك الإِرادي لكلّ ارتقاءٍ أَو صُعود. و كذلك الإستعاضة مُبْتَدَأ لا يُختزَلُ -فقط- في تيمَة التحول نحو المُسايرة و المُواكَبَة وَ تًقفّي بَرْمَجِيّاتُ الشعوبِ المُتَقدٍّمة. بلْ أنَّه يرومُ تَفكِيك لُوغَاريتْمات المُنعَطفاتِ الكُبْرى الكامِنة في أعماق تاريخِ الثقافاتٍ المَحَلية المَغربية، وَ تَحديد نقاط ضُعفٍها، وَ التّسطيرٍ تحت مكامِن قُوَّتِها، بمًا يخلق الإِنسِجَامَ في القبول لدَى عَقْلِ مُتَلَقِّيهَا. إذْ سيحتَفظُ لهُ بِبَصْماتِهِ العَريقَة، وَ يجعلُ منه آليةً مُستَعِدة دوماً لخَوْضِ غِمار التَّطوُّر العَظيم. و ذلِكَ قَبْل أن يداهِمهُ الذكاءُ الاصطناعي بالسّؤالِ عن حَقِّ ” القَرينِ الآلي” في تَقرِير مَصير الحضارَة الإنسانِيّة، و قبلَ أن يَصدِمَهُ «اللاَّيًقين» في تَقديمِ الجَوابِ المُبَرْمَجِ!!!.
وَ لنْ نَضمَنَ نَجاحَ وَثبةِ المُثَاقَفَة المُتَضامِنة عَدَا ببناء استِعَاضَةٍ يَقِظَةٍ، لا تَركَنُ لجَوابِ البَديهَة وَ لاَ تَكتَفي بإعادة تَدويرِ اليَقِينِيَّاتِ. و إنما هِي مُتَوَالِيَّة نَقديَّة تُراكِمُ التّخْمِيناتِ وَ تُكَدِّسُ الإِحتِمَالاتِ ، وَ تَضْطَلِعُ بِأَرَقِ الأَسْئِلَة الكُبرى دونَ التَّفريطِ في إنتِعَاشَةِ الحُلول الصُّغرى ذاتِ الأفُقِ المَحدودِ. لأنّ الأثَر المَلمُوسَ من الإستعاضَة التقنية هو التّخلِّي عن أثقالِ ثَقَافة جامِدة بالِيَّةٍ، و التَّحَلِّي بزينَةٍ أُخْرى مُتَطَوِّرَةّ فالزمن ثورةُ تِكْنولوجْيَا آليَّةٍ عَاليَّةٍ. و لن نَكْتًفي بالتَّبْسيط المُوصِلِ إلى قفَص أحكام القيمَة المُصْطَنَعَةِ. بل سَنَسعَى بِالتَّحليلِ المُعَبّر وَ المُنْبَنيّ على معطَيات الفِطْرَةِ الإِنْسيَّة و الطّفْرَة الرَّقمِية وَ مُفاجآت الطبيعة . وَ لَعَلَّهَا نفسُ الوَظِيفَة التاريخية التي كان ينْبَغي أن تَنْبَري لَهَا نُخَبُ الثّقافَة البَالِيّةِ، عبرَ تَحديثِ تَطْبِيقَاتِها الفكرية و مُمارَسَاتِها ، و تَحيِينِ مُحتَوى سَرديَّاتِهَا من أجل شَرحِ كُنْهِ الغاياتِ التي تريدُ إِحقَاقَهَا من داخِل النَسَقِ و ليسَ من خارِجِه.
وَ إنَّهَا روح ” الإستعاضَة المُتَعَالِيَّةُ ” التي تَجْعَل من ذَراتِ رومانسِيَّةٍ حالِمَةٍ عَوَالِمَ فَسيحةً، و تُتِيحُ لنَا موسوعَ القُدرَة على إعادَة تَكْريرِهَا. فَعَمَلِيَّةُ تَلْقيمِ شَجَرَة الثَّقافاتِ المَحَليَّة تَفْسيرٌ سليمٌ لِمَعنَى الاستمراريَّة النَّقْدِيّة في مُساءَلَةِ تَمَثُّلات الإنْتِمَاءِ الثَّقافي الرَّشيدِ، و في مُلاَمَسَةِ زَمنِ النُّورِ القَريبِ بَعيدًا عن رُهابِ المَغَارَة.
فَكَما الصّبحُ المُتَنَفِّسُ بإشْراقَاتِ الشَّمسِ المُنيرَة لِلْمَمْشَى، و الضّاوِيَّةِ بالأَمَلِ مع التَّحفيز على كَرامَة العمَلِ. كذلك مَوَاقِع النُّجومِ الآفِلَةِ الكامِنَة بين الجَوابِ الثقافي البَالي، تُميطُ اللثامَ عن أطلالِ نخبَة مُتَهَالِكَةٍ، باتَتْ مُجرَّدَةً من أَلْقَابِ مَظْلُومِيَّتِها، تَائِهَة في دَوَّامَة اغْتِرَابها الرقمي باسْتِغْرابٍ مُفْرِطٍ. وبين ثَنايَا نُعوتِها ” العالِمة” رَقَدَتْ تستبطِنُ عَجزَها، وَ تتَأَبَّطُ شَرَّ الفَشَلِ في مُعَايَشَة زَمَنِ “الثَّقَافَة الآليَّة”، مَصدُومَة مَشْدُوهَةً أمامَ مُستَجَدَّات الحاضِر و العَجائِب التي سَتَلِيه. وَ قد تَبَنَّى المُثَقَفُ البالي ” ديمُقراطيّة الجَمَاعَة” ، مُتَحَدِّثًا بنُصوص العتاقَة و مُتَوارِيًّا وراء فصاحَة التقليد و النَّقلِ لِيُخْفِيَ قُصُورَهُ الذَّاتي عن فتح بابِ الاجتهادِ الكَبير. ثم يَتَعَانَقُ المُثَقَّفُ البَالي و الدَّاعيَّة معاً عند حَانَة ” الشَّرِّ المُستَطِير ” . ثُمّ بعدَهَا يَفْتَحانِ المُحيطَ العَامَّ علَى المَجْهول السيَّاسي في مَسرحيَّةٍ وَصمُهَا المُشينُ : تَقْلِيدَانِيَّةٌ.
وَ بينَ ما إستَحَاثَّ من قَعرِ الثقافات المَحلية، و بين التعمُّقِ في تَنقيَّةِ الذاتِ، تَتراءى مَلَكَات الذكاءِ الطَّبيعي الكافِية لِسَبْرِ أَغْوَارِ الإستعَاضَة المَكْنُونَة دون مطالبة المُحيطَ العام بالحَصانَة؟!. بَل هي الاستعاضة بِصَبْرِ «المَنْجَمِي» ، قبلَ أنْ نَرتَقِي إلى مَقامِ «المُعَلَّم»؟. لِذَا ؛ فالاستعَاضَة التقنيّة في عُمقِها التَّثقِفي تُحَرِّضُ على الإستِمساكِ بِجَدوى التَّعَلُّمِ الآلي ، لأنَّهَا وَاثِقَة من قابِليّة التَّكَيُّفِ البشري معَ التَّطَور الرقْمي دون الانشداد إلى دُوغمائيَّة ثقافة باليّة أو مرجعيَّةٍ وَاهِيَّة، التي لم تسفر عَدا عن إنكماشَة مُعيقة إِكْتَفَت باجترار النهج الإستهلاكي العقيم حين توالَت صدمات الحداثة و ما بعدها، و ما بعدَ بَعْدِها.
و لا تعني المساءلة النقدية تجريحَ الذّات ،بل تُفيد أن الإستعاضة بمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِتنزيل قابِليَّتَها للتَّطَوُّرِ. كما أنَّ عِبَادَة أَقَانيم الحَقيقة المُطلقة في تَصديقِ سَرديَّات الثقافة البالية، و الثقة الساذجة في سَرَاب مُستَقبلها ، لن تُسقطَا العقلَ عدَا في تراجِيديا المادة الرّمادِيّة التِي تُطلق إشاراتٍ كلَّ لَحظة بِلَوْنٍ مزاجي. و قد تتعدد الألوان البراقة غير أنَّ العَقل يأبى إلَّا أن يظل ” ثُقْبًا مظلِما” يحجب الأفق البعيد، و يصيب البصيرة بِقُنُوط الثقافة الجامدة.
وَ عَلَيه تعمَل الإستِعاضَة التِّقْنِيَّة باستراتِيجيَّة تَلقيمِ الثَّقافاتِ المَحليّة عبرَ التأَمُّل العَميقِ فِي «فَوْضَى» الحَركَة الدوليَّة للتَّغيير. و التي تفْضي بنَا نحو تجديدِ التَّنْبِيه إلى أن الحُرية و الكرَامة و الرغبة في الرخاء و الرفاه ، و العَدالة الإنسانيَّة و المُساوَاة و التَّنمية الشامِلة، هي مطالبٌ مَفتُوحَةٌ للأجيالِ المَغربية الصَّاعِدة التِي مِنَ اللاَّزِم أن تتَشَبَّعَ بما يكفي من مناعَة المُثَاقَفَة الرَّقميّة. و ذلكَ كَيْ يَكسِبَ الوطنُ رِهَانَ الصعودِ المَنشُود ، و حَتَّى لاَ تُصادِرَ عَقْلِيَّاتُ الخُرافَة المُؤَدلَجَة وَ الثَّقافَة البَالِيَّة، حَقَ هَذه الأجيالِ في الاختيارِ و حقَّهَا في الإِبدَاعِ.. وَ أَيْضًا كَيْ لا يصيرَ مَصيرُهَا المُستَقْبَلٍي مُقيَّدا بما يُخْفِيهِ البعضُ الآخَرُ من إحتِكَار لتَطبيقاتِ أنترنيت-الأشياءِ وَ خاضِعًا لِبرمَجة الذَّكاءِ الاصطِناعِي فِي عَصرِ احتكار البيَاناتِ الضَّخْمَة Big Data.
و هكذا جازَ الخَتْمُ بذَمِّ التّرهُّل الثقافي الذي تَعرفه ميكانيزمات العقل المغربي ، و الذي وجَب أن تنتفي مُبَرِّرات شُيُوعِهِ تبعاً لفُرَصِ الإستِعاضة التقنيَّة المُتَوفرة بالقِسْطَاسِ وَ الإِتْقَانِ. وكذلك لأن المُستَفيدِينَ من هذا التَّرَهُّلِ هم سَدنَة الثقافة البالية و عُباد الخرافة المؤدلجَة الذين يُشَكِّلونَ حِلْفَ العقليات المانِعة للصُّعود الحَضاري الرفيع ، ممَّا يشكل تهديداً خطيراً لِمستقبل التجربة الديمقراطية التنموية المغربية.
عبد المجيد مُومِيرُوسْ
شَاعِر و كاتِب مَغْرِبي