صراع في واشنطن.. هل يتغير شكل الإنترنت كما نعرفه؟/ خالد عز العرب
تشهد الولايات المتحدة هذه الأيام نقاشا ساخنا حول دور وحجم شركات الإنترنت العملاقة، وذلك على وقع اقتحام أنصار دونالد ترامب مبنى الكونجرس وما تلاه من تجميد حسابات الرئيس الأمريكي على عدد من مواقع التواصل. ومن المتوقع أن تشهد الشهور المقبلة تحركات من الديمقراطيين والجمهوريين – لأسباب مختلفة – تسعى لتحجيم هذه الشركات، بما قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة في شكل الإنترنت كما بتنا نعرفها.
في أحد الأيام من عام 1995 كتب مشارك مجهول الهوية في منتدى إلكتروني أمريكي، يكيل الاتهامات لإحدى شركات البورصة في نيويورك (من يذكر التسعينيات سيتذكر كم كانت المنتديات الإلكترونية هي الصيحة الأكثر شعبية في ذلك العهد السحيق من طفولة الإنترنت).
كتب المشارك يقول إن شركة Stratton Oakmont ليست إلا مجموعة من سماسرة البورصة النصابين الذين لا هم لهم سوى الاحتيال على عملائهم، وأن الشركة ستتعرض للملاحقة القانونية قريبا.
(على الهامش: سيتضح فيما بعد أن المشارك كان على حق وأن شركة Stratton Oakmont كانت بالفعل تمارس الاحتيال على نطاق واسع وستتم إدانة مسؤوليها وحبسهم، وقد جسد المخرج مارتن سكورسيزي قصة الشركة في فيلمه الرائع The Wolf of Wall Street من بطولة ليوناردو ديكابريو.. لكن هذا فيما بعد.. نحن الآن ما زلنا في عام 1995 وشركة Stratton Oakmont ما زالت تعمل بنشاط ويهمها حماية سمعتها).
على الفور قررت شركة البورصة أن تقاضي المنتدى الإلكتروني على اعتبار أنه سمح بالتشهير بها، وبالفعل رأت المحكمة العليا في نيويورك أن المنتدى يعتبر بمثابة “الناشر”، مثله مثل أي جريدة أو قناة تليفزيونية، ويتحمل المسؤولية القانونية عما ينشره حتى وإن كان من إنتاج طرف ثالث (وهو في هذه الحالة المشارك المجهول).
المادة 230”.. حجر الزاوية لمواقع التواصل
أحدث هذا الحكم حالة من الذعر بين شركات الإنترنت الأمريكية، التي كان معظمها لا يزال ناشئا.. فمعنى أن تتحمل هذه الشركات المسؤولية القانونية عما ينشره المستخدمون على مواقعها، أنها ستضطر إما إلى مراجعة كل المشاركات مراجعة قانونية – وهو أمر لا طاقة لها به، أو أنها ستقلص بشدة المشاركات المنشورة على مواقعها، تجنبا للوقوع في المحظور، وهو ما سيجعل محتواها أقل جاذبية ويضع حدا لجو الانفتاح والحرية الذي كانت الإنترنت تبشر به.
وعلى المستوى السياسي أيضا أحدث الحكم ردود فعل واسعة، ربما بسبب الحساسية الأمريكية التقليدية من أي تقييد لحرية التعبير، وربما كذلك لأن الإنترنت كانت قد بدأت تبرز كقطاع اقتصادي نشط كفيل بتحقيق معدلات نمو وتوفير فرص عمل واعدة.
تحرك الكونجرس، وفي العام التالي (1996) أصدر قانونا يعتبره كثيرون حجر الزاوية في تحديد الشكل الذي اتخذته الإنترنت منذ ذلك الحين في الولايات المتحدة، وبالتبعية حول العالم بما أن كبرى شركات الإنترنت هي شركات أمريكية.
نصت “المادة 230” في القانون بشكل صريح على أن شركات الإنترنت لا يمكن أن تعامل معاملة “الناشر” فيما يخص المحتوى الذي ينشره المستخدمون على مواقعها، مما يعني إعفاءها من المسؤولية القانونية المدنية عن ذلك المحتوى (باستثناءات محددة تتعلق بأمور مثل حقوق الملكية الفكرية وتسهيل الدعارة، وقيود قانونية أضيفت فيما بعد تتعلق بجرائم مثل الإرهاب).
فتحت “المادة 230” الباب أمام توسع غير مسبوق فيما تقدمه الإنترنت من محتوى يصنعه ملايين المستخدمين الأفراد، وهو ما مثل بعد سنوات الأرضية التي بنيت عليها مواقع التواصل الاجتماعي، آمنة مطمئنة إلى تمتعها بحصانة من الملاحقة القانونية جراء ما ينشره هؤلاء المستخدمون.
لكن تدريجيا، ومع زيادة أعداد مستخدمي مواقع التواصل، بات واضحا أن ترك الحبل على الغارب تماما له مخاطره، إذ سمح بانتشار أنواع من المحتوى، مثل خطابات التحريض والكراهية، والتحرش والتنمر، والأخبار الكاذبة… إلخ.
ورأت أكبر تلك المواقع أن من مصلحتها القيام برقابة ذاتية، أولا: للحفاظ على سمعتها. وثانيا: لاستباق وتجنب أية محاولات حكومية لتقييدها بقوانين النشر.
خالد عز العرب– أستاذ مساعد بكلية الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية بالقاهرة