من السيبة…/ ذاكو وينهو( المرتضى محمد اشفاق)
لن أقبل أبدا كبت قناعتي أن هذا الدين – و الدين عند الله الإسلام – هو دين الخلاص، و التحرر، و التحليق بالمسلم إلى مدارج الكرامة الآدمية بعيدا عن تسلط أخيه و امتهانه و استعباده، كل ممارسة فيها احتقار و إذلال وغمط لحق هي مناقضة لروح الدين …
وجد الإسلام أمامه واقعا مؤلما ، فيه ضلال، و ظلم، و منكرات، وعالجها برفق، و هدوء، وروية، وتربوية، وسلاسة، وجد الرق لكنه بادر إلى تشجيع القضاء عليه، فاشترى أغنياء الصحابة العبيد وأعتقوهم، و رسم الإسلام خطة دقيقة لتجفيف ينابيع تلك الظاهرة الخطيرة، ففتح أبواب الكفارات كلما أخطأ المسلم أصلح الخطأ بتحرير رقبة، وجاء في بعض ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ..من ولد إسماعيل تنبيها إلى الفرق بين النسب الثابت والصفة المتغيرة والظالمة أحيانا..
أصبح الأرقاء السابقون من خيار الصحابة، و تزوج سيدنا زيد وقد اشترته أمنا خديجة ثم وهبته لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبناه بدل أن يستعبده -وكم علا ذكره حين صار اسمه كلمة من القرآن الكريم- تزوج إذن سيدتنا زينب بنت جحش بنت عمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم لكي لا يكون على المسلمين حرج في أزواج أدعيائهم ، وفيه إبطال للفوارق الاجتماعية الظالمة،،
أكرم الله عليه أمنا زينب بأن أخلفه عليها بسيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم…
الإسلام ليس طقوسا وطلاسم، ليس لحى تطول ومسبحة، الإسلام ليس ممارسات موسمية مرتبطة بآجال وأمكنة،
الإسلام قوة ونظافة وعافية،لا كما نقول نحن:المسلم لا يخلو من جائحة،،،المؤمن مقمل،،،كحة المومنين،،،وغير هذا من باطل القول وفاجر الوصف،كيف يكون المسلم وطنا خاصا للمرض وهو يغتسل ويتوضأ ويتحرى النظافة والطهارة في كل شيء وكيف يكون مقملا؟وكيف يكون وكرا للسل حتى عرف به؟؟
الإسلام هو نور الله في الأرض، وصراطه المستقيم المشيد من العدل والمساواة و التسامح والمحبة، الإسلام هو القوة الحاضرة فينا حين نفعل، وحين نقول،،،،
هو انتقال من شعار إلى شعور متواصل برقابة تحجزنا عن الزيغ والانحراف، ومتى استشعرنا ضعفا في تلك الرقابة فكبر على الفضيلة أربعا..
من أروع ما قرأت في وصف الحياة و الطباع في حقبة :(الصَّيده هَاهْ إِلَاصَلَّيْتِ بمْرابطك مَشِّيهْلِ انْصَلِّ بيهْ) قصيدة الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا رحمه الله التي مطلعها:
مزج الدموع بمسبلات دماء
متلهفا متنفس الصعداء
حمل هذا الشاعر الصوفي العالم الذي تربى في حضرة علمية وتربوية فريدة نزعة ثورية تحررية غريبة في تلك الحقبة،وغريبة في المكون الاجتماعي العام الذي ينتمي إليه..تجسدت فنيا في إثارته المشهورة لأزمة الإبداع، وتوقه إلى التحرر ورفضه أن يبقى الشاعر عالة فنية على سلفه الشعري، أليس هذا موقفا نقديا يرى أن الشعر إبداع وخلق جديد، وليس إعادة وتقليدا ؟أليس إدراكا لقيمة الشعر جنسا أدبيا قبل أن يكون وعاء لفنون أخرى واجترارا لمعان أنهكها طول الاستعمال؟!(إن يتبع الشعراء أعاد حديثهم
بعد الفشو وضل إن لم يتبع).
وأي أزمة كهذه التي تجعل أمام الشاعر خيارين:أن يكون ظاهرة تكرار وإعادة ببغاوية لكلام الأوائل، أو أن يبتدع لنفسه طريقا جديدا فيضل، والضلال هنا حكم مُسلَّط وليس حقيقة..
في القصيدة الأولى صور الشيخ سيد محمد ما شاع في أرض السيبة من ذل الرجال وخنوعهم وموت الانتصار للكرامة، وأبطل تعليل ذلك كله بامتثال أمر ديني مزعوم فحواه أن من حمل السلاح ترك الصلاح، صوَّر تمظهرهم بالدين ووقارهم الزائف وشجاعتهم الجبانة، كما قال المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
يقول الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا:
وترى جماعةَ مسلمين بمسجد
شم الأنوف أعزة الآباء
وُقُرا كأن الطير فوق رؤسهم
هماتهم في النجم والجوزاء
وإذا تقول لبعضهم لِمْ؟ كاد أن
يرميك بالنسرين والعواء
-سيجرد الشاعر هذه الصورة من لثامها الكاذب لاحقا..-
فند الشيخ سيد محمد هذه المزاعم كلها بشهود، وشواهد، ومشاهد من التاريخ الإسلامي في العصر المحمدي والراشدي وما تلا ذلك من تمدد الدولة الإسلامية في عصور عزها المعروفة، كل هذا المجد كان حديثا كتبه الرجال بمفردات حروفها:الشجاعة والسلاح والخيل…يقول:
يا راكب الوجناء في البيداء
تُطوى له البيداء بالوجناء
بلغ من لاقيت ممن يدعي
إن لم يضنَّ عليك بالإصغاء
أن اتباع المصطفى وصحابه
ومن اقتدى بهمُ من القدماء
في وضع أسلحة بها عزوا على
من سامهم خسفا من الجهلاء
مني التحية والسلام وأنه
تالله أكذب من على الغبراء
يمين من لا يخشى الحنث..
ما صان أحمد والصحابة دينهم
إلا بعز الله ذي الآلاء
وبواتر وموارن مسنونة
وسوابغ وسوابق وإباء
ومدججين كريمةٍ أحسابُهم
شُمِّ الأنوف أعزة شجعاء
مجموعة أخرى صورها الشاعر تصويرا رهيبا ودقيقا، سماهم في نص آخر لصوصا:
حماة الدين إن الدين صارا
أسيرا للصوص وللنصارى
كلمة لصوص توحي أنهم لا ينتمون إلى فئة واحدة ولا إلى سلوك اجتماعي مشترك ولا حاضنة قبلية معلومة، وإنما شذاذ آفاق مرقوا على قبائلهم ودينهم وهم وحدهم رهناء ما كسبوا،،،
هم جماعات إرهابية بلغة اليوم تمارس الصعلكة بنهم الحقير في نهب الأموال و تخويف الأبرياء، وصف أشكالهم القبيحة المنفرة وصفا كاريكاتوريا بليغا وشجاعا،يقول:
حتى إذا نظروا إلى متقلص
أهدامه ذي وفرة شعثاء
قاموا إليه مبادرين كأنما
قاموا لبعض أجلة الأمراء
ووصف سلاحهم الذي يفر منه الأذلاء وتستباح به حرمة الجبناء وصفا دقيقا مثيرا للسخرية والتقزز يقول:
وإذا أشار إليهمُ بمعلب
متضمخ بالرَّيْن و الأصداء
أعمى الزناد شعابه قد شققت
علق العناكب جوفه ببناء
طفقوا يثيرون العجاج كأنما
أغريت قسورة بسرب ظباء
فبالإضافة إلى هذا القبح، والوسخ،هو أيضا متعطل عن العمل لا عهد له بالنار،كيف وقد بنت فيه العنكبوت لنستحضر بالإحالة صفة الضعف والوهن الواردة في القرآن عن بيت العنكبوت..
ولم ينس أن يوضح في كلا الحديثين أنه لا يعني فئة و إنما يعني سلوكا، أما الأولى فبنفسه فهو من الفئة التي تكثر في بعضها تلك الممارسات لذلك كان صوته الوصفي ممزوجا بأنات ألم وتوبيخ معا، أما الفئة الثانية فبقوله أجلة الأمراء تنبيها إلى أن سلوك السطو ليس سلوك المجموعات العربية في أرض السيبة، فتلك تتميز بالعدل والأنفة ورفض التلصص والتسلط على الضعفاء..بعيدا عن طرداء الفضيلة المارقين على أخلاق قبائلهم وتعاليم دينهم …
أحببت مرات أن أحلل بعض فقرات هذا النص الجميل لكنني تذكرت أن لنا أن نقول لهذا الشاعر العظيم الذي شكى أزمة إبداع في عصره ذلك إننا نشكو له اليوم في عصرنا هذا أزمة أخرى ليست أقل واردا من تلك:عنيت:أزمة القراءة..
وبعد قد يقول قارئ هذه طبخة متنوعة العناصر،فأقول نعم وهل غداؤنا وغداء أهل بوتلميت اليوم إلا حبات أرز عبرت إلينا البحر من تايلاند، و جزر وطماطم تحدت معبر الكركارات قادمة من المغرب،وخضار تسلق عبارة روصو واصلا من السنغال، وزيت جاء من تركيا ،ولحم من الحوضين، وملح من سباخ الشاطئ ،وماء من جوف الأرض استخرجته آلة أوروبية ببترول جزائري، لن نتكلم عن الغاز من أين جاء ولا عن العبوة من صنعها، ولا عن الثقاب والقدر من أي بلاد الله كانا…كل هذا لوجبة في صحن صغير نتناولها ولا نفكر في جنسيات مكوناتها ولا في طول رحلتها الرهيبة ومخاطرها…
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون..