استراحة أدبية: من صفحة د. المحجوب ولد بيه
يعزف الأستاذ المقتدر اماكه ولد دِندِنّي في المقطع المُرفق شَوْر جَلي بَوّار، وهو من موروث أهل بيته، يتوارثونه كابرا عن كابر، منذ استخلصه جَدُّهم أحمد ولد ولد محمد ولد دِندنّي من غريمه بوبكر شيخ، في منافرة مشهورة في انيورو بحضور الأمير أعمر ولد أحمد الحبيب الناصري.
وقد أهدى الأستاذُ المقطعَ لمن “يُنَزّله”، وإني وإن لم أكن ممن ينزله ذَائِقَةً، فقد رُمت تنزيله ثقافة، وذلك بذكر بعض الأمور التي تساعد على ربط هذا الشور بتاريخ الحوض وما جَاوره.
فأما اسم الشور جلي بوار فهو مركب إضافي، من جَلي وبَوَّار، فأما جلي Jéli فإنها تقابل في كلام الشعوب الماندية من السوننكى وبمباره معنى إيقيو بالحسانية، وربما كانت من Jula وهو البائع بنفس اللغات، ولكن القول الأوّل أظهر عندي.
وأما بَوّارْ فلفظ يطلقه أهل الحوض على قبيلة عظيمة من قبائل فلان المنطقة، وهي قبيلة أُوَارْبَى، التي كانت تنتج المراعي في منطقة باغنة وجنوب الحوض. وقد كان بينهم وبين جيرانهم من أهل الحوض علاقات مودة ورَحِم.
ومن بوار بيت العلم والصلاح بيت الحاج إبراهيم بن كَيدادُ، أحدُ أعلام بلاد باغنة والحوض كلّه في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الهجري. تتلمذ عليه خلق كثير من الشعوب المختلفة، أبرزهم شيخنا محمد الأمين ولد الطالب عبد الوهاب الفلالي، فقد حلاَّه بـ”شيخنا” في مقدمة شرحه التلخيص المفيد على رسالة الإمام ابن أبي زيد، وصرَّح باعتماده على شرح الحاج إبراهيم سلّم الترقية على الرسالة وشرحه على خليل مغني الطلاب (وهذان الكتابان ما يزالا مخطوطين).
وكان الحاج إبراهيم يحظى بمكانة كبيرة لدى أولاد امبارك لا سيما لدى بيت الرئاسة العامة فيهم أهل بوسيف ولد أحمد، فكان مقرّبا لدى رئيسهم عثمان ولد هنون ولد بوسيف صاحب شور التريكه، الذي يقول فيه سيدي أحمد ولد آوليل:
سياست انجوع اعرب لمزيريفْ * للظهر لَكانْ الْ كيهيدي
لكمبُ او طَلِّ وامْ امْقيريفْ * منُّو لباسي ومنُّو الْ فَ ايْدِي
عثمان ولد هنّون ولد بوسيف * ولد أحمد الهنُّون لعْبيدي
وهذا من أجمل ما وقع فيه أسلوب الإطراد الممدوح في البلاغة، ومنه قول دريد بن الصمة:
أبأتُ بعبد الله خير لداته * ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قاربِ
قال عبد الملك بن مروان : لولا القافية لبلغ به آدم.
ومن بَوَار أيضا بيت الرئاسة فيهم أهْل بِقْنُو ولد بَقَيَّ، الذين منهم الحاج ولد بقنو المقاوم الشهير تلميذُ الشيخ محمد أحمد الفَرْدِي ولد الشيخ محمد الأمين ولد عبد الوهاب، وقد قاوم الحاجُ المستعمرَ مدة حتى انفضَّ الناس من حوله فهاجر إلى أمير الحوض اعلي ولد محمد محمود ولد لمحيميد فآواه وأجاره من عدوّه، وقد سُمي باسمه كثير من أهل الحوض تيمّنا وإعجابا، ولعل من ذلك اسم الفنانة الشهيرة “منت بقنو” منت النانه، أم خاتمة الأدباء الفنانين الشيخ سيدي أحمد البكاي “ولد عوّ” ولد حمّ ولد نِفْرُو.
وعند الفَنّان المقتدر الجامع لكل التيدناتن أحمد ولد بوبَّ جدُّو أن جلي بوّار هو نفسُه انجرو لدى أهل سُمْبُورو مع أنَّ انجرو الذي يضربه إيقّاون من مدرسة أهل ابّاشَهْ مخالف في ضربه لجلي الذي عند أهل دندنّي، وهو أقرب إلى انْجَرُو المشهور لدى شعراء الفلان وسائر شعوب المنطقة.
وليس جلي بَوّار هو الشور الوحيد المنسوب إلى هذه القبيلة، بل تنسب إليهم أيضا جرانة عيشاتَ، المعزوفة لعيشات منت بقنو البوّارية، وشور الجرانه مقرونٌ بأشوار قيرات المعروفة في اكحال انتماس، والذي ترجّح لديّ أن المعزوفات أربعةٌ:
الأولى منها وهي أقدمها قيرت داعَ التي تجانس ب”داعَ سُلْطانْ”، وهي منسوبة إلى داعَ ولد مَنْزُ ملك بمبارة سَيْقُو، وبعض الفنانين ينطقها داعَ ولد ماصه وذلك خطأ، فأهل ماصة ملوك بمبارة كارطه هم الأعداء اللدودون لأهل مَنْزُو ملوك بمبارة سيقو، ولذلك قال الشاعر في مدح السلطان اعلي العافية بُسروال ولد اعمر البهدلي المباركي:
ولد اعمر ما امعاه الواصَه * معطَ مولانا عارف اطريقو
مالك البيظان واهل ماصَهْ * ومالك ايفلانْ واهل سَيْقُو
وفي رواية:
مخوف أهل سيقو باهل ماصه * وامخوف اهل ماصه باهل سَيْقُو
ولعلّ نسبة شور قيره إلى داعَ ليس لأنها عزفت أول مرة له، بل الأرجح أنها كانت نشيد الملوك من قومِه، أهل جَارَ منذ جدهم وُلٌّو جارا، ولعل مما يؤكد ذلك أن بعض الفنانين يطلق على قيرت داعَ اسم كَتَفُ ويشوهدُه بجناس (كتفُ جَ كتفُ جَ) أو بقولهم (يا مولانا عين الرسول)، وباكْرِزْ لسدوم ولد انجرتو. والرسول المقصود هو الرسول ولد اعلي انبقه الذي تُوفي يوم تِكْدِمْتْ سنة 1221 هـ 1806م، أي قبل تولي داعَ للملك بسنوات.
وأما قيرة الثانية فهي قيرت أهل صبي، أو صبيبَ كما ينطقها الشيخ ولد ابّاشَهْ وهو أصحُ، وهي تنسب إلى قبيلة ٍSaybobé التي تعرف لدى سكان الحوض باسم بيت الرئاسة فيهم: أهل سمبورو.
وإلى جانب هذه القيرة الثانية تعزف جرانة عيشاته المنسوبة إلى قبيلة بوّار. وكلتا المعزوفتين من إنتاج (أو من استخلاص) الفنان محمد ولد البندري.
وأما القيرة الثالثة فهي قيرت أيْتْ مَلِّي وينطقها البعض “تتمالي”، والأول أصحُّ، وهي منسوبة إلى أيت مالي بمعنى أهل مالي بلسان صنهاجة، كما في أيت قُوهار (جوهر) وآيت لحسن وآيت اجمل، وهي نفسها “أيد” الموجودة في كثير من أسماء قبائل موريتانيا.
وذكر الفنان سيدي أحمد ولد أحمد زيدان أن أيت مَلّي هم السوانك في عرف أهل الحوض، بينما يرى الأستاذ الشنافي رحمه الله أنها تطلق على جاورات ملوك باغنة. ولا تناقض فإن جاورات وإن كانوا تَزَيَّوا بِزِيِّ بمباره فإن أصلهم ولسانهم سوننكي.
وقد زعم بعض الفنانين أن قيرت أيت مَلّي هي نفسها قيرت داعَ ولكن الذي يعطيه التحقيق خلاف ذلك.
ولعل قصة قيرات التي يرويها الفنانون تشير بشكل أسطوري وساذج إلى النزاع الذي وقعَ في سلطنة خطري ولد اعمر ولد اعلي بين بَوّار وأهل سمبورُ بسبب انتقال أهل بوار وانتجاعهم بلاد أهل سُمبور، فساند كلَّ فصيل من الفلانيين حليفُهُ من أولاد امبارك، فانضم إلى بوار حلفاؤهم من أولاد عيشّه، وإلى أهل سمبورو حلفاؤهم من أهل بهدل وإخوانهم من أولاد العاليه. بل لعلّ هذا النزاع لم يكن إلا جزءا من المشهد العام لفتنة فَرْعَيْ أهل هنون العبيدي التي آلت إلى زوال ملكهم.
فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا يتطرق إليه النقص ولا التغيير.