اللغة هي عماد الهوية ومحاكاتكم لاحفاد الغوليين لا تقربكم منهم
اللغة هي عماد الهوية.. يقول المثل الفرنسي :”ترى السعفة الصغيرة كبيرة في عين جارك و لا ترى الوتد الكبير في عينك”.هذه المقولة البليغة أدرجتها اليوم في مقدمتي هذه و نحن في جو تطبعه نقاشات عن تكوين أشبالنا، و ذلك للحديث عن الهوية اللغوية مستحضرا بها امتعاضنا الطبيعي الذي ينتابنا كلما سمعنا بعضا من إخوتنا المسؤولين في الجوار العربي و هم يدخلون كلمة هنا أو هناك من لغة المستعمر في كلامهم الموجه إلى العامة من شعبهم…! و لكن و نحن نمتعض مما نعقده مسخا ثقافيا، و لنا الحق في ذلك، هل لا نظرنا إلى أنفسنا قليلا لنعرف مدى حاجتنا في علاج أنفسنا أولا ؟ ****
سافرت منذ أيام إلى وجهة خارج البلاد و شاءت الأقدار أن يشاركني في ذلك السفر، في مرحلة من مراحله، وفد نخبوي من بلادنا متجه لتمثيلنا في قمة دولية…هذا الوفد الذي عم شيب الوقار و أثر السنين على محياه، فيه عناصر (إن لم يكن كل عناصره نساء و رجالا) لفتوا انتباهي إليهم لكثرة استخدامهم للفرنسية فيما بينهم، رغم أن لهم لغة تجمعهم و رغم أنني لم أر أحدا بينهم يفرض عليهم وجوده، ذلك التنكر للذات ! حقيقة، لم تعجبني تلك الفرنسية. و أعتقد أنه لو كانت لدى أفراد وفدنا مرآة عاكسة لهم في تلك الآونة للاحظوا هم أيضا بأنفسهم غرابة تلك اللغة و هي تخرج من أفواههم و للاحظوا كذلك غرابتهم هم أثناء خروجها من أفواههم بغير ضرورة.
و أقل ما في غرابة أمرهم أنهم ابتعدوا عن “مرتنتهم” بالمعنى الوطني للكلمة دون أن يقتربوا قيد أنملة من أهل اللغة الأصليين أحفاد الغوليين… حالهم كحال تلك السيدة المعروفة، التي افتتنت بمشية الغراب. فلا مشية الغراب أنجزت و لا مشيتها استعادت… !هذا و وددت لو كان الفرنسيون يشعرون بمحاكاة نخبنا لهم و يقدرون لهم ذلك، مع أنني أكاد أجزم أنهم بعيدون من ذلك و أن محاكتنا لهم في حقيقة الأمر ليست إلا عرضا من أعراض كوننا مجرد غنيمة حربية تلهث وراء غانمها المستكبر و المستخف… و لكن حقيقة، هذه العدمية السريالية المهينة ترهبني و من الأفضل لي أن أفسر الأمر تفسيرا أكثر وعيا. كأن يكون سلوك وفدنا نوع من التعلق بركب العالم… نوع من التشبث بسفينة نوح هذا الزمان التي لا تحتضن إلا دول الثورة الصناعية الاستعمارية الكبرى. و هي الدول التي تحتكر حقيقة و بشكل مطلق كل شيء في عالمنا الدنيوي الحالي و لعل أهم ما يتميزون به عنا بالنسبة لي شخصيا، هو وضع كل سياساتهم في خدمة مواطنيهم . و لابد إذا للدول الصغيرة أن تجد لها مربطا في تلك السفينة و هذا المربط لابد أن يمر عبر إحدى تلك الدول الكبرى. و بحكم علاقتنا مع فرنسا فإنه من الطبيعي أن يكون مربطنا هو هي.و لكن أما كان بالإمكان أن نرتبط مع فرنسا بعلاقة متينة جدا دون المساس بلغتنا التي هي رمز هويتنا الأكبر…؟ ****
إن مراقبة هذا الوفد في سماوات أروبا ذلك المساء جعلتني حقيقة أتيه في تفكير عميق مر بي بمحطات كثيرة، سأبوح لكم منها اليوم بتوصية و اعترافان و عتاب.
أما التوصية فإنها تتعلق بسلوك الموفدين من بلادنا إلى الخارج. فإن عليهم أن يعلموا أن سلوكهم في الخارج ليس ملكا لهم وحدهم، إنما هو ملك لشعبهم. ذلك لأنه حقيقة يحسب على شعبهم بأكمله. و بما أنه كذلك فإنه لابد أن تكون تلك الوفود وفية لحاله و مخلصا في أدائها. فشعبنا ليس لقيطا، إنه ذا هوية متمايزة عن بقية العالم و ذا تاريخ مشرف في غرب إفريقيا و شمالها و حتى في جنوب أروبا و ذا عطاء علمي حافل في حضارتنا الإسلامية يشهد له القاصي و الداني…أما الاعترافان المباح بهما هنا، فهما متضادان.الإعتراف الأول هو أن هوية هذه الإدارة التي تتحدث الآن أمامي عبر هذا الوفد بكل حرية، مفروغ منها و هي “متفرنسة” بلا أدنى شك و جذور ذلك التفرنس ضاربة في الزمان و يتجاوز تاريخها سنوات الاستقلال و مؤتمر ألاك إلى تخوم القرن التاسع عشر و الشواهد على ذلك هي الدعائم التي تحمل هذه البلاد و التي تعود نشأتها إلى تلك التخوم. و هي نفس الهوية للحراكين الحقوقي و العرقي القائمين في بلادنا من أجل إشغالنا عن جادة طريق النماء الحقيقية.
و قد حسمت هوية هذه الإدارة إذا منذ بداية عهد ‘إملازن’. و لن يتغير أي شيء فيها ما دامت بوصلة هذه الإدارة تتجه نحو تغليب مصالح حماتها على مصالح شعبها. و ما دامت الدولة مترددة في الإرتماء في أحضان مؤسساتها بكل ثقة و في الإحتكام إلى تلك المؤسسات في مسارها.أما الاعتراف الثاني فهو أن شعبنا و أنا القادم منه في هذه الرحلة، من طينة أخرى. إنه عصي على تغيير هويته فهو منيع كمناعة طبقات الأرض العصية على عوامل التعرية…
و ها هو و لله الحمد، و بعد مرور أكثر من مائة سنة على تعرضه لأكثر من مخطط، مازال موجودا كما كان، لم يتغير من هويته أي شيء… مازالت الضمائر حية في بيوتاتنا و مازالت المبادئ جلية في منتدياتنا و في منصاتنا الثقافية المختلفة. مازالنا إذا موجودينا كما لو كنا في يومنا الأول من عهد ‘إملازن’. و ختام هذا النص و علي أن أختمه، هو البوح بالعتاب المعلن عنه أعلاه. عتابي موجه أولا و قبل كل شيء إلى أهلي من أعيان الأعماق… فلولا تشريعكم لكل شيء، لتعلم وفدنا الموقر المرافق هذا، منذ نشأته، كيف يقدم صورة مناسبة عنا في تلك الرحلة… كيف يقدم عنا صورة وجود. لا صورة عدم … و لكان الآن، يتحدث فيما بينه أمامنا بلغته معتزا و مفاخرا بها…