عودة تأملية للتاريخ عبر لمحة سريعة مما تعرضت له مدينة دمشق وسورية من أيام حكم العثمانيين إلى الاحتلال الفرنسي وتدخل القنصلية الإنكليزية في شؤون دمشق، وصولا إلى الإرهاب الذي بدأ في 2011 على سورية تحت اسم ثورة وطلب الحرية وتغيير النظام وعلم البلاد مما جعل العنف الدموي يتمدد 10 سنوات قدم الشعب السوري فيها الغالي والرخيص، حيث تم تهجير الملايين منه واستشهاد الآلاف من الجيش والمدنيين الأبراياء، وما زالت سورية تعاني من هذا الحصار المفروض عليها بسبب تلك الأحداث الأليمة التي جرت.
اليوم تذكرت التفجير الكبير الذي حصل في (ساحة التحرير)، هذا الحي أغلب سكانه من الأخوة المسيحيين. عندما وصلني الخبر إلى أبوظبي أن البيوت تحمطت في المنطقة نتيجة عمل إرهابي من خلال تفجير سيارة في الشارع الأمامي للبيت الذي نسكنه، وهو قبو على شكل (ملجأ) فيه حديقة كبيرة وشجر نارنج ويوسف وكوملي، إضافة إلى الورد الجوري والياسمين والزنبق والقرنفل وغيرها. وصلت وقتها دمشق الحزينة على ما يجري فيها من عنف من خلال عصابات داعش وأخوانها، وجدت الحارة في صمت مطبق وجميع المنازل في ذلك الشارع، وما أبعد منه لحد شارع حلب وجناين الورد البيوت رجعت على العضم، أي على الحجر لا شبابيك ولا أبواب، وكانت الناس في حالة الصدمة التي لم يفيقوا بعد منها. وجدت البيت كما هي بيوت الجيران الآخرين دون أبواب ولا بلور على الشبابيك، حتى أرضية البيت تشققت من شدة الانفجار الذي لم يستبق حتى على الشجر فتكسرت أغصانه.
كان منظرا لا يمكن للخيال أن يتصوره. منطقة القصاع كانت تشبه ساحة حرب. وهذا الإرهاب الذي لا أعلم كيف يكتب عنه التاريخ ليس جديدا على دمشق التي تعرضت لكثير من النكبات ونهضت مثل العنقاء، هكذا تخبرنا الكاتبة ديمة الشكر في رواية “أين اسمي” الصادرة عن دار الآداب في لبنان، وتأخذنا الكاتبة بسرد روائي مشوق ولغة جميلة وبحدود 284 صفحة مع بطلة الرواية “قمور” التي تعود بالقارئ إلى القرن التاسع عشر، وتكتب الحكاية بعد أن تعلمت اللغة الإنكليزية وعملت خادمة في منزل القنصل البريطاني وزوجته إيزابيل بعد أن جعلها تتعلم النسخ والتدوين، وتنقل سير أهل باب توما بعد المذبحة التي حدثت عام 1860، وقد أنقذ بقية أهل باب توما الأمير عبد القادر الجزائري. وفي أول الكتاب تقتبس الشكر عن ريتشارد فرانسيس بورتون قوله:
“دمشق لا روما هي الجديرة بلقب المدينة الأبدية”.
تحدثنا الكاتبة عن البحرة في البيت الدمشقي والسلحفاة الصغيرة التي كانت جنب البحرة، وعن أمها التي كانت تغسل الدار، لكنها لم تعد ترى السلحفاة ولا أمها. وتتذكر فقط ثوبها الأزرق السماوي الذي يشبه قعر البحرة وحوافها الداخلية. تتذكر الكاتبة كيف كانت أمها مرمية وراء حوض شجرة الليمون، وتسرد بقية الحكاية كيف دخل العم سمير بها وأخوتها تحت التخت خوفا من أن يذبحهم الإرهابيون في ذلك الوقت، والذي أنقذ بقية الأهالي في حارات باب توما والقيمرية القائد المجاهد عبد القادر الجزائري، الذي تصفة بعيون طفلة بنت سنوات بأنه لم يكن راكبا حصانه الأبيض كما يصفونه، بل كان يمشي وحوله الناس. كان بين الشعب وقتها وأوقف المجزرة.
وتتابع الكاتبة سردها للقصة المشوقة، رغم فظاعتها، حيث كان اهتمام ريتشارد وبالتفصيل عن نوع الحرير الذي كانت ترتديه الأم وقت مقتلها، قال لها: “أنت بنت الفتّال” وتعرفين بالحرير، وتذكر الكاتبة أن “فضول ريتشارد صوب الحرير الدمشقي جزء من طبعه”، كان يكلفها بأن تكتب جميع التفاصيل والقصص التي تمر في الحي، تصفه زوجته إيزابيل في ص 17 “قلبه قلب طفل، وفضوله أقوى من فضول قط… هو ليس ماردا أو جنيا بل “قنصل الود” ومؤلف الليالي العربية العظيم”. وتضيف عن ريتشارد قوله: “يبدو أن الناس حين يأتون إلى دمشق يصابون بمرض أسميه: “الأرض المقدسة في الدماغ”. حتى الغريب العابر في هذه الأرض يبدو عرضة لذهاب العقل.
تطوف الشكر بالقارئ في الأحياء الدمشقية وتصف روائع التراث، تحدثنا عن ثوب أمها درجة لونه خيوطه وملمسه، عن رائحة الورد الجوري وأوراق العريش وبقية أشجار الدار، تصف النسيج الدمشقي من بروكار وحرير وتافتا ودانتيل، حتى الكتان الأزرق ثوب الشهر المريمي، كما تستفيض في الحديث عن الإرهاب وقتها تقول في الصفحة 106: في التاسع من تموز وفي تمام الثانية بعد الظهر، دخل أكثر من ثلاثين رجلا وشابا، متسلحين بالبلطات والخناجر والسكاكين والسيوف، إلى بيت في باب توما وذبحوا عائلة كاملة، الأب والأم والرضيعة والصبي والبنت والجد والجدة… ثم نهبوا كل محتويات البيت وأشعلوا النار فيه. وكانت الناجية هكذا مرت دمشق وسورية في عدة مراحل لكنها تنهض كما نهضت في السنوات الأخيرة.