ثقافة وفنموضوعات رئيسية
من القص الى النص قصص لعبة الصبر لمحمد عبد حسن /محمد يونس
تأهيل النص قصصيا:
شكلت التطورات التي مرت بها بنية القص القصير تحولا فنيا كسر الكثير من السياقات الجامدة، وآخر مراحل الحداثة تحولت فيها القصة بالتدريج من الموضوعية إلى الفنية، وذلك التحول منح القص طاقة مضافة نصيا، وأصبحت القصة القصيرة ذلك المكعب الذي تسعى الكلمات فيه للمناورة الأكثر بلاغة من نفسها، حيث اجترأت القصة على نفسها فنيا ومالت إلى طاقة النص الكامنة لتنشّطها، فتغيرت بذلك أساليب الكتابة والتجريب صار لا يهادن السياقات العامة فنيا، واحتملت أنواع من القصص القصيرة أن تلغي إطارها مضمونيا رغم المحافظة عليه بنسب عالية في المظهر القصصي، والنمو النصي كان بنسب قليلة أيام الحداثة لكن في ظروف ما بعد الحداثة تغير الحال القصصي واخترق أطر كثيرة في جانب البناء، حيث حررت ميتافيزيقا ما بعد الحداثة المضامين القصصية من المنطق العام، لتكسبها ذلك التوهج الجمالي الفني المثير المدهش, حيث البعد الإشاري يمر بتحول انعراجي إلى البعد العلاماتي السيمائي أدبيا وليس اجتماعيا، وصار هناك مضمون شكلي نلمسه في القص الجديد، فأنت ترى أمامك نص تراكيب دلالية.
وقصص نصوص – لعبة الصبر – لمحمد عبد حسن حركت الساكن القصصي، ومهدت التمظهر مضمونيا بتصعيد جمالي خارج الخاطر العام للقيمة الجمالية, حتى أصبح القبح مضمونا جماليا، وأصبحت رياضيات القص في البناء النصي خارج منطقها التسلسلي، ففي قصة – الخروج إلى الداخل – نجد تحذيرات الجاحظ ومن بعده جان جانيت قد بلغت أقصى التحذيرات على إن العنونة او العتبة النصية هوة, وتلويح العتبة الى التميز النصي, والتحقيق للقصد السيمائي الذي سيتمظهر نصيا بالتدريج, فالقصة كسرت أفق الرياضيات أولا, وكانت بمضمون أشبه بدائرة, مهما سعت اللغة النشطة الى تحريره بالتعبيرات النفسية الحسية الوجدانية التي لا تبني إلا صورا للبلاغة المقلوبة بعد تفكيكها، حيث يصعد أحيانا نسغ اللغة بالقص ليلتبس نصيا، واللغة القصصية هنا انتقلت من الواقع القصصي أولا ومن ثم بلغت أفق الالتباس النصي, وثالثة توجهت لما وراء النص, وهذا ما أشارت لنا به العنونة الداخلية – ما قبل المشهد الاول – وهي ليست هضبة تمهيد للمعنى القصصي المستهل, بل هوة تستدرج المتصور بدلا من الحقيقي, والنص القص – الخروج الى الداخل – هو مجموعة تراكيب صوتية بتردد قولي معين, لكنها تتشتت بالتعبيرات الفاعلة في الحس الادبي .
بعد تكامل الشكل القصصي.. من الطبيعي أنْ ينتج التمظهر المضموني، في فكرة جانبية، تقابلا بين الحقيقي والمتصور, فالقص هو وجه الحقيقة الناصعة فيما النص هو المقابل الموضوعي بتصورات تتغير تعبر تأويل النص لنفسه, وفي قص نص – صباحات شاحبة – تغيرت الإيقاعات الفنية واتجهت إلى ما يسمى استعادات متعددة الزمن, فتكون هناك أيقونة معلقة على صدر النص كتذكار داخلي وليس خارجيا لكن مصدره الوعي الخارجي, فجملة – الشيخ يشبهك كثيرا. ولكنه أكثر عافية منك – أولا ما كان تكررها صدفة ولا بلا قصد فني أو إثاري, وتلك أحد الصيغ الفرنسية التي تفوق بها كلود سيمون حين استعاد جملة اثنتي عشرة مرة في إحدى رواياته, ومضمون النص طبعا يختلف بعد استعادة تلك الجملة, لأنها ستخرج من وحدة زمن لتدخل في أخرى, وسعت نهاية القصة لتأكيد فن المناورة حين جمدت قماشة العرض على بياضها. واقتربت كثيرا قصة – ذاكرة من زجاج – في سياقات الكتابة ومحاكاة المستوى الفكري من جهة أخرى. وفي قصة – طائر الرماد – حلق النص بسرد تجاوز استحالته بعدما كشف عن ما وراء التاريخ, وحلق النص داخل كيان مثاله, وكان كلما توغل تكشفت له آفاق النور بعد تجاوز ظلمته سعة المثال, وكانت الكوفة دلالة النص ابتداء في المستهل القصصي وفي الانتهاء والختام. وفي قصة – لعبة الصبر – أخرجنا المستهل ابتداء من الحقيقة الى التصور في جملة المستهل الأدبية – ما زال في العمر متسع للجنون – ومن ثم اتجه القص إلى أفق الشكل واتجه النص إلى أفق المضمون، وتناسبا في الصياغات الذاتية الشخصية والاجتماعية والنفسية والادبية .
التصنيف اللساني والسرد المستحيل:
تقف لغة القص في تصنيفها اللساني بين لغتي الشعر من جهة ومن جهة أخرى تقف عند لغة الرواية، فاللغة الشعرية تتيح للقص اكتسابها في حالات تصاعد نسغ اللغة أدبيا، وتأهيل دلالات متطورة تتجاوز الأفق العام للغة، ويمكن أن نقر بتوازي اللغة بنيويا بين الشعر والقص، وأما علاقة القص بالروي فهي علاقة ذات وجهي توافق بنسب مختلفة، والوجه الاول هو بنيوي من خلال المشترك السردي, والوجه الثاني هو الأكثر حساسية لغويا، حيث تشترك القصة والرواية في بعد الوصف, وفي جانبي التوافق الهابرماسي المثير للجدل، وبذلك يمكن أن نقر بالجدوى الهابرماسية في تطور بنية اللغة نصيا في الكتابة القصصية، ولسانيات النص القصصي في مجموعة – لعبة الصبر – لمحمد عبد حسن جمعت ثلاث لغات عبر المستوى النصي وبتعدد وظائف، وهذا ما يجعل لغة كل نص تحتاج لغته المتعددة الوجوه الى تحديد لساني، ففي نص القص – رائحة أخرى للورد – أكدت لنا بنيتها اللغوية وجود جمل في تراتبها كمقاطع شعر ليست هي إلا دلالات استدلال للمعنى القصصي, وإذا تمكن الفن القصصي من موازاة جانبي اللغة باشتراكهما في الحس الأدبي بنفس شعري وبنفس قصصي سيكون لذلك التوازي أثره الدلالي المشترك من جهة والمتفرد من جهة أخرى, فبيان نصية – رائحة أخرى للورد – لسانيا يؤشر وجود مستويين صوتيين للغة, وذلك يعكس طاقة الفن القصصي الساعي للمغايرة والتجديد يهدف إلى ترشيح بنية فنية من الجهة الداخلية وبنية قصصية من الجهة الخارجية .
من الطبيعي التميز الفني في البناء غير الافقي وتطوير المستوى الدلالي للغة من جهة مقابلة سيجعل النص قصصيا من جهة مظهر للسياقات القصصية لكن ليس بأفق سيرورة بلا نشاط نوعي, ومن جهة أخرى يقابله التطور الدلالي بناء ولغة, والجوهر مرن وحرك ومظهر ثابت إطاريا ومفاهيميا, وقصة – ظلال بلا أجساد ــ قادتنا إلى مصطلح جديد للسرد صار يتداول حديثا, حيث هناك جثة ميتة وروح حية تمثلها أثيريا, فدخلت تلك القصة في نمط السرد المستحيل, حيث المؤشرات الواقعية لذلك السرد لا تتفق مع الواقع وأول تلك الإشارات المباشرة – أدهشني أن ارتطام رأسي بالسقف لم يؤلمني – وكذلك الإشارة اللاحقة في مناداة الشخص على أمه لتفرك مكان الصدمة ولم تجبه، وهنا قد دخلت لغة السرد في تصنيف لساني جديد، فصفة السرد المستحيل غير متأصلة تاريخيا، لذا تحتاج تبويب لساني له أولا، كي تضمن من خلال خانتها الترجيح المحدد له، وقيمة مضمون تلك القصة في قيمة واستجداد نمط سردها المستحيل، والقصة لازمت مصدرها منذ العتبة حتى التذييل الأخير, وذلك يحسب للمؤلف محمد عبد حسن حيث وعيه يدرك أهمية منطقة التأثر والتأثير, وبجدارة قدم لنا مثاله النصي في السرد المستحيل والقصصي في الأطر العامة والمظهر القصصي الذي اختار له منطقا خاصا هذه المرة بعدما اتكأ على المنطق العام في قصص أخرى, والقصة بجودة حددت لنا نمط السرد المستحيل ووضحت لنا ذلك النموذج التطبيقي لما قصدناه نظريا من أنّ تأهيل السرد للاستحالة لابد أن يخترق الميت بوحدة زمنه زمننا العام ويرانا ولا نراه, وبراعة تلك القصة النصية إرادة فنية في نمط السرد المستحيل الذي صنف واقعه المثير والمدهش .
قصة – جار الله – سعت لتأهيل السرد المستحيل عبر ثيمات النص القصصي ومضامين القص النصي, وطبعا إذا اشتبكت مقومات الفن في كيان القصة بمقومات إطار القص تكون قد أهّلت إذا ما لا يمكن سرده، وإذا تعذر على السرد بلوغ تلك الاستحالة فإن في الوصف الخارجي أو الداخلي إمكانيات هائلة وفق منطق الزمن الحرك، وفعلا تقدمت تلك القصة تدريجيا نحو عتبة السرد المستحيل حتى بلغته بدعم من النشاط السيمائي للوصف، وقد انبثقت أيضا من داخل كيان القصة ايقونات لدعم ذلك السرد من مثل العرافة التي قالت له – رائحة الموت تفوح منك – فكانت أحد نذر الموت وتأهيل السرد المستحيل. وقصة – صانع التوابيت – منذ العتبة لوحت لنا بقدوم ما لا يمكن توقعه أو القناعة به, حيث الأقدار لا تهتم إذا كان الباب مقفلا, فهي تنساب من خلاله, وهذا ممكن. المهم أن ندرك بأن السرد المستحيل يملك مقدرة زمنية ليتمكن من المرور أيضا كما الموت من خلال الباب, وقد حضر التابوت ونامت المسامير وارتخى الجسد المسجى, فلا عذر بعد لزمن الحياة من التلاشي. وفي قصة – المعطف – هناك جدارة لتأهيل السرد المستحيل بصورة أوسع حين يكون للموت صورة مختلفة, وهنا لسانيا ندخل في منعرج جديد, فالموت يفترس مدينة صيغة استعارة لكن إذا تحولت إلى حقيقة فيختلف الأمر, وغلب الجانب المعنوي في القصة على المغزى الأرسطي, رغم وجود واقع أرسطي ينمو تدريجيا لكن الفن جعل بينه وبين تواصله فاصلة .
قصة – لصوص – المبنية عتبتها للمجهول قادتنا الى ما يجاوز السرد المستحيل حيث سوداوية المكان ديستوبيا هي أيضا تحول الوقائع إلى مجموعة مشاعر مهزومة ومتصورة تحتمل في ترجمتها الكثير من المعاني, وقد لعب المكان الدور الأساس في القصة منذ بدايتها المثيرة, والحياة داخل صندوق أسود هي حداد ببعد رمزي لا غربة في تشبيهه بالموت، وقصة – فنارات مظلمة – أكدت لنا من خلال رمزية العتبة التوافق إشهاريا مع آخر مضامين القصة السابقة المؤهل للسرد المستحيل, والذي تأهيله هذه المرة كان عبر نمط سرد يتوافق زمنيا مع الاختراق الزمني, فسرد الحياة فوق محيط الماء ليست إلا موتا بصيغة أخرى .
نهاية نقول لقد قدمت مجموعة القص النصي – لعبة الصبر- لمحمد عبد حسن الصادرة عن دار كيوان في سوريا لصالح اتحاد أدباء البصرة أحد الأمثلة النوعية في البيانات القصصية ذات الثيمات النفسية المتفاوتة الحدة, والمضامين النصية المتشابكة لسانيا بلغات كتابة أحيانا بمستوى واحد تندمج وفي أخرى تكون منفردة داخل تأطير إطار القص لها، وفي أنماط سرد مرة لغوية ومرة أخرى اصطلاحية من مثل نمط السرد المستحيل الذي صيغ ببراعة أسلوبية في قصة – ظلال بلا اجساد – خصوصا مع مستويات متفاوتة في قصص أخرى أبدت جدارة نصية .
رأي اليوم