احتمالات الحرب في اوكرانيا ضئيلة… والعودة الى استراتيجية الردع بأدوات جديدة.. هي إنعكاسات الأزمة على إيران وتركيا/ سوسن إسماعيل العسّاف
17 فبراير 2022، 00:09 صباحًا
أعلان روسيا سحب بعض القوات من حدود اوكرانيا يعطي الإنطباع بانها لا تريد تصعيد الموقف، لكنه لا يجب أن يفهم بأن الرئيس بوتين قد تنازل عن هدفه الأساسي في منع أوكرانيا من الإنضمام للناتو. ورغم هذه الخطوة إلا أن الجعجعة الكلامية والتصعيد في التهديدات والاستعدادات الحربية المتبادلة بين الاتحاد الروسي من جهة والولايات المتحدة واوروبا من جهة اخرى حول أزمة أوكرانيا لا زالت تتفاعل. مع ذلك فإن اغلب الدلائل تشير ان الامور لن تذهب الى حرب شاملة(شبهت بحرب عالمية ثالثة)، في اواكرانيا او بسببها، حتى وإن اصرت الولايات المتحدة وبحركات استباقية-استنفارية، على أن الحرب وشيكة. والاسباب في ذلك كثيرة اهمها ان الحرب هي ليست خيارا روسيا مع كل التهديد الذي تراه لامنها القومي، وان الرئيس بوتين يدرك جيدا ان الولايات المتحدة وحلفائها يريدون توريطه في حرب إقليمية، وأنه قادر على تحقيق أهدافه دون اللجوء الى مجابهة شاملة. والسبب الثاني هو ان الولايات المتحدة والغرب واوكرانيا يعلمون جميعا انهم لن ينتصروا في هكذا مواجهة، لاسيما وأن القوة الروسية الموجودة على الارض، وسهولة تعزيزها بقوات اخرى يجعل من الصعب على الولايات المتحدة والغرب ان تجاريها او تضاهيها بالسرعة والوقت المطلوبين. نشرت روسيا 100.000 جندي ومعدات عسكرية هائلة والحقتها ب30.000 جندي في بيلاروسيا، قابله ارسال الولايات المتحدة 3000 جندي (ليس الى اوكرانيا ولكن الى الاطراف الابعد غير المهددة بولندا ورومانيا)، مع وضع 8500 جندي في حالة التأهب القصوى مع تقديم مساعدات عسكرية متنوعة الى اوكرانيا، (التي تبقى قواتها المسلحة اضعف من ان تصمد امام اية هجمة روسية)، والتهديد بوجود قوات عسكرية أمريكية متفرقة في اوروبا بحدود 70.000 جندي. أضف الى ذلك الصيحات الشعبية في اوروبا الغربية بعدم قبول حرب من اجل اوروبا الشرقية، كل ذلك يدلل على أن النتيجة ستكون عكسية على الولايات المتحدة وحلفائها. ولذلك تحاول الولايات المتحدة جر روسيا الى فعل عسكري كي تخلق من خلاله ازمة لها تضمن منه إثارة المجتمع الدولي ضد روسيا.
الاصح ان يُنظر الى هذه الازمة على انها واحدة من الازمات العالمية الخانقة التي توفر لاطرافها فرصة لاظهار قدراتهم على التحدي وفرض وجهة نظر طرف على الاخر، وعودة استراتيجية الردع الشامل عبر التلويح بالادوات التقليدية مع استخدام فعلي لأدوات دولية جديدة تعتمد في الاساس على كسر ارادة احد الاطراف المتخاصمة، عبر تحويل النزاع الى فرصة لكل طرف دولي له الحق في استغلالها لكي يحسن صورته، او لكي يُحرف الانتباه عن مشاكل تواجهه داخليا، أو ليحقق منافع مهمة. وخير مثال على ذلك التصعيد المفاجيء الذي قام به رئيس وزراء بريطانيا والانذار الملتهب الذي وجهه الى روسيا ودعا جميع الدول الاوروبية الى تقليص اعتمادها على النفط والغاز الروسي مع ضرورة الاستعداد لفرض عواقب اقتصادية شديدة جداً على روسيا، مع تأكيده أن بريطانيا لن”تتوانى في دعمها لأوروبا وحلف الاطلسي غير المشروط والثابت”. والكل يعلم ان ما فعله ويصرح به هو محاولة للهروب الى الامام بسبب تضييق الخناق عليه لاجباره على الاستقالة، وحرف الانظار عن التحقيقات التي تجريها الشرطة البريطانية حول عدم احترامه أو كسره للتقييدات التي اصدرها وحكومته اثناء أزمة كورونا 2020 بخصوص التباعد وعدم الاختلاط ومنع التزاور او اقامة الدعوات الاجتماعية. أما بالنسبة الى الولايات المتحدة وادارة الرئيس بايدن، وما يشعر به بعد الهزيمة المدوية في افغانستان، والفشل في احداث ثغرة في الجدار المحيط بروسيا (وهذا ما اثبتتهُ احداث كازاخستان الاخيرة)، ناهيك عن العجز عن مجاراة التطور العسكري الكبير الذي كشفته كل من روسيا والصين، ونجاح الأخيرة في مواجهة التحدي مع تايوان، (وتوضح ذلك في طرح بايدن اقتراح لاجراءات جديدة للحد من التسلح بشفافية جديدة ولاستقرار استراتيجي جديد بين الناتو وروسيا)، فإنه يحاول ان يندفع في تصريحاته لدعم اوكرانيا لمواجهة ما يحاول تصويره كهجوم وشيك من روسيا. في وقت تجد فيه أوروبا نفسها بأنها بحاجة ماسة الى امدادات الغاز الروسي والذي يجعلها مترددة في مواقفها (اثبتت الاحصاءات الاخيرة ارتفاع معدل تصدير النفط والغاز الروسي الى اوروبا بصورة ملحوظة وعكس ذلك سيؤثر على المواطن الاوروبي). وان كل المحاولات الامريكية لثني المانيا وايطاليا (مثلاً) عن الاستمرار في التعاون مع روسيا في هذا المجال قد فشلت، (ولو ان محاولات كسب المانيا من اجل ضمان موافقتها على فرض عقوبات على روسيا ما زالت مستمرة). ان اكثر ما يمكن للولايات المتحدة واوروبا فعله (اذا ما اتفقت جميعها وهذ امر صعب) هو فرض العقوبات. وأكدت رئيس مجلس النواب الامريكي (نانسي بيلوسي) هذا الامر عندما ذكرت بأن حلفاء الولايات المتحدة في الناتو توصلوا الى اتفاق بشأن شدة العقوبات وعلى اساس انهم يدعمونها بالكامل. وهنا يجب التذكير ان العقوبات التي فرضت على روسيا بعد اجتياحها لجزيرة القرم عام 2014، والتي لا تزال قائمة لحد الان، لم تردع او تفت في عضد روسيا التي تأقلمت معها، وان اي عقوبات جديدة سوف يكون لها نفس الاثر هذا اذا لم ينعكس اثر بعضها على دول اوروبا . وربما يكون من المفيد التذكير بان الرئيس بوتين ومنذ أن وصل الى الحكم في روسيا نجح في تحدي الولايات المتحدة والحصول على ما يريد في مواقع كثيرة وفي ظل تهديدات امريكية شديدة اللهجة (الشيشان، جورجيا، جزيرة القرم، سوريا وأخيرا في كازاخستان)، فهل سينحج في إضافة أوكرانيا الى ذلك؟ كل الدلائل لحد هذه اللحظة تشير الى ذلك.
من ناحية أخرى فأن تصاعد أزمة أوكرانيا اصبح متزامنا مع الحديث عن الفشل في التوصل الى اتفاق نووي جديد مع ايران، او اعادة الحياة للاتفاق القديم (2015)، والذي يمكن ان يمنح طهران فرصة ذهبية للخروج من ازمتها او جزءا كبيرا منها. ويمكن القول ان الأزمة الأخيرة يمكن أن توفر سيناريوهين لإيران على المدى القريب: الاول يتمثل في ان تتحرك ايران وروسيا والصين الى دعم التعاون فيما بينهم مما يحقق لايران فرصة كبيرة لدعم مكانتها العسكرية وقدراتها التسليحية والسياسية وبعض الاقتصادية. وقد تكون زيارة الرئيس الايراني الى روسيا في الشهر الماضي كأول زيارة لرئيس ايراني الى موسكو منذ خمس سنوات دليل على هذا التقارب. لاسيما وأن السعي الروسي مستمر لايجاد اتفاقية تجارة حرة بين ايران واوراسيا (ارمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، وقيرغيرستان، والاتحاد الروسي)، ويأمل أطرافه أن يكون واقع حال. هذا السيناريو قد يثير قلق دول الخليج العربي، (والذي سيرفع من سقف الشكوك لحجم التهديدات الأمنية التي تواجه السعودية والأمارات بالتحديد،) وربما يدفعها هي الأخرى الى التخفيف من توتر علاقاتها مع إيران والتقرب من روسيا، خاصة أذا شعرت هذه الدول بأن الولايات المتحدة تخطط لرفع عقوبات عن طهران. السيناريو الثاني يتمثل في ان تلجأ الولايات المتحدة، ولغرض كسب ايران واخراجها من حلف محتمل مع روسيا والصين، الى التخفيف من اعتراضاتها على مقترحات ايران وتوقيع اتفاق سريع معها وحسب شروطها (مع وضع شروط تحمي المصالح الامريكية)، لتخفيف ازمات الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا السيناريو هو الاخر سيعطي ايران الفرصة للتخلص من معاناتها الاقتصادية واثار العقوبات القاسية المفروضة عليها منذ عام 2018، وفي المحصلة النهائية سيدعم موقفها كقوة اقليمية يجب ان يحسب لها حساب. وما يدعم هذا السيناريو اعلان واشنطن بأنها سترفع العقوبات المفروضة على البرنامج النووي الايراني المدني-السلمي، من خلال الاعفاءات الامريكية عن العقوبات التي يمكن أن تفرض على الشركات العالمية ومنها الروسية والصينية والاوروبية لمشاريع التعاون النووي الدولية التي تقيمها مع ايران. ايران من جانبها علقت على العرض الامريكي المغري بأنه غير كافٍ وبأنه لعبة أمريكية جديدة، والاكثر من ذلك وحسب قول الامين العام للمجلس الاعلى للامن القومي الايراني، علي شمخاني، بأن “حق ايران القانوني في مواصلة أعمال البحث والتطوير والحفاظ على قدراتها وانجازاتها النووية السلمية جنباً الى جنب مع أمنها…لا يمكن تقييده بأي اتفاق”. الامر الذي يمكن ان يفهم منه حجم تصعيد المطالب الايرانية والتفاوض من منطق القوة وعدم التخلي عن الاوليات والاستراتيجيات لأبعد من امتلاك الطاقة النووية والحصول على لقب القوة النووية.
أما بالنسبة لتركيا فالأمر مختلف. تركيا التي تعرضت لإنتقادات أمريكية كثيرة بسبب محاولاتها شراء أسلحة روسية ولعب دور مستقل عن النفوذ الأمريكي، سارعت الى أعلان تأييدها للخطوات الأمريكية والناتو لدعم أوكرانيا ظنا منها بأن هذا الموقف سيحسن موقفها أمريكيا، وقد يحرك قضية عضويتها في الاتحاد الاوروبي المعلقة، إلا أن هذا الموقف قد يستعدي عليها روسيا المجاورة، وكذلك الصين، واذا ما إتخذت موقفا معاديا لأوكرانيا فانها ستجازف بمصالح إقتصادية كثيرة لها مع الولايات المتحدة والغرب الذي هو بالأساس غير راض عن سياسات الرئيس أوردوغان.
وأخيرا فان الردع الكلاسيكي قد نجح واقعياً بين اطراف الازمة، وان الردع الوقائي ضمن لروسيا عدم قبول اوكرانيا في حلف الناتو، وبالمقابل فإن الأزمة أظهرت نوع من التضامن في القارة العجوز، وخاصة في مسالة عدم تخلي الانظمة الغربية عن أوربا الشرقية. كما ان الازمة الاوكرانية ساهمت في تفعيل عودة العالم الى الانقسام من جديد الى كتلتين متضادتين روسيا والصين وحلفائهما من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما من جهة ثانية. السؤال الآن هو هل انتقل النظام الدولي سلمياً وعمليا الى القطبية الثنائية؟ وهل سيقود تغيير تكتيك الانسحاب الاستراتيجي لجزء من القوات الروسية الى تهدئة بطرق دبلوماسية؟ وهل سيتستمر روسيا في خطواتها لضمان امنها القومي عن طريق منغ التغلغل الامريكي – الغربي الى الجمهوريات المحيطة بها؟ كما ظهر في طلب مجلس الدوما الروسي من الرئيس بوتين يوم أمس، بالعمل على الإعتراف وبقوة بإستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الواقعتان في شرق أوكرانيا والمواليتين لموسكو، ام ان هذه المشاكل ستكون سببا في أزمات مقبلة؟