قراءة في رواية “زجاج من دم ولحم” للروائي محسـن ضيهود / حميد الحريزي
28 فبراير 2022، 03:04 صباحًا
من المعلوم أن العنوان هو احد عتبات النص الرئيسية، وقد يكون هو المفتاح الرئيسي لفتح كل أبواب النص ، قد تجد له حضورا نصيا مباشرا في متن العمل الأدبي وقد يكون عبارة مرموز يتضن\منه المتن عبر صفحاتها بمجملها …
عنوان رواية ((زجاج من دم ولحم)) لايوجد بشكل نصي في المتن، ولكنه الاشارة المضمرة لابرز شخصيات الرواية الا وهي الشابة الحسناء (حرير محمد)، خريجة كلية الفلسفة في سوريا وحبيبة ((حازم – العراقي النجفي))الكتبي، هذه الانسانة التي نجدها ناعمة نعومة الحريرجميلة بجماله وقوية بقوته ، الشفافة بشفافية الزجاج ، الواضحة وضوح الكريستال الصافي ، والانسانة المفعمة بالحيوية والجمال والفكر الواعي الناضج المتنور، هذه الانسانة التي تكره الثغاء، وترفض أن تكون للرجال وعاء لذة ومتعة ولهو، التي تكره الكلمات التي حروفها بلا نقط . علينا أن تصور انسانة حية تنبض بالحياة واضحة كوضوح شريحة الزجاج، فهي بذلك كائن زجاجيا بدم ولحم.
الرواية متعددةالرواة بين راو عليم ، وراو كلي العلم ، مرة يروي بضمير الأنا ومرة أخرى يتحدث بضمير الغائب الهو …
الرواية تحمل بين ثناياها العديد من الرؤى والافكار الفلسفية الجريئة التي تخرق المادة الصلبة والجدار الاسمنتي المسلح بالاعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة ، تتطلع الى كسر العديد من التابوات والقيود التي تبدو مقبولة من الكثيرين ممن اعتادوا عبوديتهم ، حيث أصبحت هذه القيود بمثابة أساور تزين معاصمهم ، وقلائد تزين رقابهم كما يتوهمون ..
الروائي عبر شخصياته يلقي أكثر من حجر في اكثر من مستنقع أجتماعي آسن محاولا تحريك الساكن وتظهير المضمر والمستتر ، وكشف عورة الواقع المتخلف …
أحداث الرواية تدور حول حياة الشابة (حرير محمد) وهي اسم على مسمى حيث الرقة والنعومة والقوة والجمال في الخلق والخلُلقالمولودة في 11\6\1983 هنا يريد أن يؤكد الروائي واقعية الحدث وحقيقة وجود شخصياته من خلال تثبيت تواريخ ميلادهم وتاريخ وفياتهم .
حرير الجميلة الساحرة التي ((لها ثديان فيهما من الدفء مايكفي لأنهاء ـ صقيع سيبريا )) ص21، والمعرفة بأنه ماركسية أكثر من ماركس وبودليرية أكثر من بودلير وهذا تعريف يؤشر لحالة التطرف في السلوك للشخص الموصوف .
يعشقها الاستاذ محمود استاذ الكيمياء العضوية في كلية العلوم ، يظل يتابعها لعدة أشهر بالتخادم والتعاون مع صديقه الدكتور سعيد الاستاذ في كلية الاداب فرع الفلسفة حيث تدرس حرير .
يعلن لها حبه العميق ، ويقنعها بعد عدة لقاءات بأنه الزوج والشريك المثالي لها ، والذي منحته كل جسدها ماعدا غشاء البكارة الذي ادخرته ليوم الزفاف ، تم زواجهما بعد تخرجها من الكلية ، حيث عاشت معه حياة مشبعة بالحب والعشق والمتعة حد الاغماء ( كان لذيذا لدرجة أنني فقدت الوعي لأكثر من مرة وأنا بين يديه ، مكتشف عجيب للتضاريس المختبئة وتلك المعلن عنها )) ص57.
دكتور محمود الذي يصفه والدها بأنه((رجل حقيقي وقدر جميل قدمته لك الحياة)) ص57 هكذا خاطبها والدها توصيفا ومديحا لمحمود.
هذا المحمود الذكر الذكر وليس الرجل استطاع أن يكون ممثلا من الدرجة الممتازة ، الذي تمكن أن يغشي أبصار(حرير) ووالدها مخبئا بين أضلاعه ذكرا بروح وسلوكية ذئب كاسر ،ومجرم محترف ، وذكر بدوي جاهل متخلف …
حيث تقول حرير ((تلقيت منه لطمة بكفه على وجهي بعد ما قلت له نعم حبوب منع حمل )) ص58 . اجابة حول سؤاله حول شريط منع الحمل الذي خبأته عنه حرير لانها لاتريد الانجاب في الوقت الحاضر ، ولتكشف مدا تعلقه بها خارج مهمتها كمفقس تفريخ وتوليد ووعاء لذة فققط …
هذا اللامحمود الذي تحول من استاذ جامعي متنور متحرر الى نائب للاله وفقيه يلقي على زوجته دروسا في الحلال والحرام ، تحول الى ذئب مفترس لا لشيء لان زوجته لاتريد ان تنجب اطفالا فيظن أن ذلك طعنا في ذكوريته وفحولته ولا نقول في رجولته، فعمل كل ما بوسعه للانتقام منها لأنها منعته من جسدها ، وأو صدت عنه باب اللذة، ووضعت المصدات لمنعه من الوصول الى بيت اللذة ، فعمد الى احراق كل اوراقها وملفات نصوصها الشعرية، وأذ يجلب العاهرات وبائعات الهوى الى سرير الزوجية نكاية بها ، متهما اياه بالبرودة الجنسية ، لتكون موضوع ضحك وتندر من قبل عاهراته في سرير الزوجية …
انتهى الأمر بينهما الى الطلاق والأنفصال النهائي بعد أن تنازلت حرير عن بعض حقوقها التي بذمته شرعا وقانونا ، وتزوج من بعد ذلك بابنة خالتها التي لم تندم على فعلتها بالزواج منه ولومها لحرير الا بعد أن كشفت زيفه وأدى بها الى الطلاق أيضا …
حيث قبلت كل منهما بالطلاق على الرغم من ثقل هذا التوصيف على المرأة الشرقية في مجتمع لايلوم الا المرأة …
لم يكتف محمود بالطلاق بل أنه فبرك لها تهمة خطيرة كمعارضة للنظام الحاكم في سوريا كونها من أتباع المعرض ((برهان غليون )) حيث تعرضت الى الاستجوا والاذلال والتهديد بالاغتصاب من قبل قوى الامن السوري المعروف باساليبه القمعية الوحشية ضد معارضي النظام ، ونفوذ بعض الضباط المتوحشين والشاذين على بعض الاجهزة حتى خارج توجهات النظام البعثي الحاكم …
تتكون وتترسخ علاقة حب بين (حازم عظيم) وبين حرير محمد عبر الانترنيت ـ فيذوب كل منهما في حب الاخر عن بعد ، حتى أن كل منهما تشبع برائحة الاخر قبل ان يلتقيا ، فأخذت رائحة الحبيب تشع من جسميهما ويستشعرها الاخر ، تدوم العلاقة سنوات عدة، ولكن تمر على كل منهما فترة انقطاع فترة صمت مقلق لكليهما دون ان يعرف مككل منهما سبب هذا الصمت ، فيقرر حازم السفر الى سوريا لمعرفة أحوال حرير وسبب انقطاعها وصمتها الغريب، وكذ الامر بالنسبة لحرير تقرر السفر الى العراق والى النجف تحديدا والى سوق الحويش حيث مكتبة حازم …
ولكنها تصاب بخيبة أمل كبيرة حينما لاتجده ولاتعثر له على أثر حيث تخبرها الناس بأنه اغلق دكانته من زمن ولم يعد يظهر في سوق الحويش …
السؤال هنا هل كانت حرير لا تعرف أحدا من أصدقاء حازم المقربين الذين كانوا أقرب الناس اليه ،يعلمون كل شيء حول علاقته بحرير ، ألم يذكر لها من هم أصدقلئه، كما ذكرها هو لهم ؟؟
ليكونوا دليها وتحصل منه الجواب كون حازم قد سافر الى دمشق للبحث عنها ؟؟
هنا لم يشأ الروائي أنْ تسير أحداث الرواية نحو الانفراج ولقاء كل منهما بالاخر فيغيب هذا الاحتمال ويغلق أبواب السؤال !!
مما يدفع حرير لتتخذ قرار الانتحار((لم تجد حرير من تستلطفه ، لذا ماتت منتحرة)) ص80 لتنتقل الى عالم الصمت الأبدي بعد ماتلقته من صدمات وخيبات أمل لاتحتمل ، فتختار الموت غرقا في نهر الكوفة ومن على جسره تحديدا بعد أن علمت بوهمية بحر النجف …
ومن دلالئل تفسخ المجتمع وفقدان القيم عند الأغلبية هي محاولة أحدهم من سرقة حقيبة حرير التي تركتها على الجسر قبل قفزها الى النهر ؟!
ويذكر لنا الكاتب مشهدا أوحدثا غير مؤكد حول حضور والدها- المتوفي منذ سنوات- مع شقيقها بعد أن علموا بخبر موتها ، فيقوم الأب بتكفينها بكفن وردي فهي وردة ولابد للوردة ان تعود للارض التي أنبتتها بعد موتها ، ويزجر ولده الذي يحضر له خرقة بيضاء كعلامة على العفة والشرف المتعارف عليها في التقاليد السائدة فشرف المرأة كائن اسطوري يختبيء بين فخذيها لايثبت وجوده الا بعد ان تسيل لدماء لتلطخ الخرقة البيضاء ليلة الزفاف والدخلة ، فيبدو أن جيل الاباء اكثر تحضرا وتفهما للشرف من جيل الابناء الغارق في لجة التعاليم الدينية والقبلية العشائرية …
خلال رحلة حرير من دمشق الى النجف ، تنثر حرير اشعاعا من المواقف والآراء حول طبيعة المجتمع ، مثلا الشاعر قائد قافلة المتدينين القادمين من السيدة زينب الى النجف ، فبدلا من قيادة القافية كان قائدا للقافلة !!
الصلوات وطلب الحمة والغفران من اله يسكن الاعالي فتمتد له الاكف المفتوحة ، وكأنهم يجسون الخالق شخص يجلس في الاعالي متربعا على كرسي في أعالي السماء !!
لقاء الباحثة الأجنبية (جيلا تيسير) التي ترى أن النجف ليست مدينة ولاتمتلك مقومات المدينة وأن بنية المجتمع العراقي مبنية على القبيلة والدين) ص24 وليس لها من سمات الحداثة والمدنية من شيء ، عدا بعض الأفراد وهم الاقلية القليلة. فالنجف ((انها ليست مدينة ، وانما هي نفي كوني تم تدشينه للعيش لا السكن … انها مدينة اللون الواحد )) ص14 ولا وجود للمتناقضات فيها مثل الجامع والمسجد والسينما والمرقص ووو، مدينة بهذا التوصيف تكون الحياة فيها رتيبة وميتة ، وهي ((ترى ان الطريقة المثلى للعيش ببيت ، هي أن يتخلص من مفهوم الحضيرة ))ص26.
تكتشف شارع الحويش المتعالي الذي ترتقي اليه عبر (10) درجات فهو المتعالي بمكتابته وكتبه وقد استحسنت ذلك فالكتاب يجب أن يكون في منزلة عالية ، ولكنها تذمرت من وجود بعض المزهوين بالقالبهم الاكاديمية والمتعالين على الناس الفقراء وعموم الناس ـ وبذلك تؤشر حالة الانفصام والعيش في ابراجه المثقف مترفعا على الناس واضعا الفواصل بينهم ، كما يفصل نفسه الخطيب عن جمهوره متعاليا على كرسي مرتفع ليهيمن عليهم بخهطابه عبر صوته الوحيد والاوحد الذي لايمكن مناقشته أو الرد عليه ـ فهو يحصن نفسه في مرتفعه المتعالي كما يتحصن الاله في سمائه السابعة …
الكتاب لايجد من يشتريه كما فيبلدان العالم فالقراءة والقراء محدودين تماما ، وهناك من يقتنيه ويشتريه لغرض امتلاكه وليس لغرض قرائته ((يشتري الكتاب لامتلاكه ليس لقرائته))ص29.كشكل من أشكال التمظهر بالثقافة والابهة لا أكثر …
كما لمست أن الحقيقة اختفت في الواقع الاجتماعي السائد بعد هيمنة رجال الدين عليها ((عندما اعتقد رجال الدين امتلاكهم الحقيقة أختفت الحقيقية ـ،لقد تحولت الحقيقة الى زي، والحقيقة لاتسكن في الازياء …))ص29.
– (حازم عظيم) فهو لا حازم ولا عظيم، لأنه ترك حسم أمر علاقته مع حرير لسنوات طوال حتى حصل ماحصل لها ، وهو خان حبيبته عند أول فرصة سنحة له في دمشق مع بائعة الهوى ايرين بوساطة القواد غيث ، كما خان زوجته زهراء في العراق ، ارتضى لنفسه استبدال حرير المنتحرة حبا له ،بالزواج من الغانية ((هيفي)) التي استطاع نوري ماركس ان ينتشلها من وسطها الفاسد ومن زمرة المتاجرة بالاعضاء البشرية، حيث كان حازم ا صيدها الثمين كما قالت ايرن بعد أن ضاجعها فكانت تجربة اختبار لقوته وسلامة اعضائه ، ولكن غيث رفض اصطياده لأنه دخل غرفة نوري ماركس الشيوعية التي يخشاها.
– الغريب في الامر ان هيفي ونوري ماركس وغيرهم لم يكن يعلم خبر موت حرير الا بعد ان اتى حازم يسال عنها على الرغم من كونها من شلتهم وقريبة جدا عليهم في الثقافة والشعر والادب ؟؟!
– كان لجماعة حازم مواقف مختلفة من انتفاضة اكتوبر الشبابية فمنهم من يراها املا في الخلاص من الوضع القائم ومنهم من يرؤى انها ناقصة وعي ومنهج تفكير ، ومنهم من يرى انها بادرة وعي جديد يمكن ان يتطور وينضج مستقبلا …
– تكون غرفة نوري ماركس الشيوعية هي ملاذ حازم ، يعرف ان حرير متوفية ذهب مع جمعهم لزيارة قبرها وذرف الدموع عند ضريحها ، ثم عاد ليتوج عريسا لهيفي وكانها عملية استبدال لحرير ولزوجته زهراء التي طلبت منه الطلاق لانها لاتستطيع ان تعيش مع ضرة لها مهما كانت … قرار بقائه في سوريا وزواجه من هيفي يبدو غير مقنع للمتلقي فليس هناك مايمنعه من العودة الى بلده وزوجته واطفاله في العراق بعد علم ان حبيبته حرير ماتت انتحارا بسبب فقدانه … ولكنه يبدو قد وجد البديل وحياة السلام والحب والوئام في غرفة نوري ماركس الشيوعية باعتبارها وطن الخلاص من الوسط المعاش في النجف ومن حياته التقليدية الرتيبة هناك …
– مما يؤشر لدى القاريء ان هناك وجودية متطرفة وعبثية فردية طاغية على سلوك حازم عظيم فتفقده حزمه وعظمته .
– الرواية اتت بحبكة متداخلة منها ما هو حقيقي ومنها ما هو متخيل ، تتطلب قراءة متأنية للتوصل ما يريده الروائي المرسل عبر شخوصه الروائية المختلفة ، كان الروائي مكتنزا بمفردة تحمل سمات فلسفية عميقة ، تختزن ثورة من الرفض والتمرد على واقع قائم سواء في العراق او في سوريا .
– تنقل بنا الروائي بين امكنة مختلفة في النجف والكوفة وفي دمشق وحاراتها ومطاعمها ومكتباتها وحتى مقابرها …