كتبت يوم سقوط معسكر وارسو ونهاية ما اصطلح عليه بالحرب الباردة: “اللهم نجنا من الحروب الساخنة”.. والحقيقة، أن الفضل في هذه النبوءة يعود إلى العالم الحكيم ألبرت آينشتاين، فقد كنت يومها أقرأ مراسلاته، واكتشفت فيها الحكيم البعيد النظر عن المواقف الآنية والصغيرة. وكيف تحدث قبل اتفاقيات جنيف، عن ضرورة حظر الحروب، وليس تحديث وقوننة نظرتنا إليها وتعاملنا معها. لأن الحروب العسكرية، ستكون الآفة الأخيرة المندسة من بقايا التوحش في الأزمنة المعاصرة. ومن يومها كان قدري، كمناضل للسلام والحقوق الإنسانية أن أتوجه لمعظم مناطق النزاع المسلح منذ بداية التسعينيات في بعثات، وإن تركت تجربتي معرفة يقينية عندي، بالبعد التدميري الأكيد لأية حرب، فقد تركت مرارة أكبر في ذاكرة طفل صعد يوما على شجرة في ساحة السرايا في درعا ليرى جمال عبد الناصر يلقي خطابا في درعا والجموع تصرخ: “عبد الناصر عزنا لانتخينا… يوم الربع حملنا السلاح”…
كنت في العاشرة من عمري أحفظ أبيات حكيم الشعراء العرب قبل الإسلام زهير بن أبي سلمى:
دون أية معرفة بالماركسية، تعرفت بالصدفة في 1963 على لينين الروسي عبر مصطلح استوقفني كثيرا: “الانهزامية الثورية”. ورغم أن المؤلفات الكاملة للينين، التي اشتريتها من موسكو بعد عشر سنوات مقابل “كروز” دخان مالبورو حملته معي من دمشق لبيعه، وأخذت الكثير من الليالي في شبابي، بقي هذا المصطلح هو الذكرى الأقوى لقراءاتي للزعيم البلشفي، مع جملة أخرى ازدريتها ونقدتها مبكرا تقول: “الحرب الأهلية هي أرقى أشكال الصراع الطبقي”.
لن أنسى جملة مناضلة حقوقية كرواتية في بداية الحرب اليوغسلافية عندما قالت: “الشيء المؤكد، هو أن يوغسلافيا قد انتهت”. من هنا وعندما بدأ الحديث الهستيري عن “الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا”، وتقدير عدد الساعات التي يحتاجها الجندي الروسي لدخول كييف، شعرت بأن السياسيين والإعلاميين قد نسوا أهم قاعدة أكيدة من ما قبل ميلاد المسيح: “نعرف متى تبدأ الحرب فقط، أما نهايتها… فقضية أخرى”.
في خلفيات الأزمة الأوكرانية
مع كل الاحترام للبحاثة الروس الذين كتبوا خطاب الرئيس بوتين حول تاريخ أوكرانيا، ليس السيد لينين أو خروتشوف، من صنعا الأمة الأوكرانية. فصناعة الأمم، لا تأتي بقرارات خارجية ومن فوق. لقد كانت الحركات القومية في الاتحاد السوفييتي. موجودة في مختلف القوميات، ومشكلة القوميات لم يحلها ستالين أو غيره، بل بقيت عنصر التعبئة الأول لمقاومة النظام الشمولي السوفييتي. وقد تداخل العداء للنظام الشمولي مع العداء للروس، باعتبارهم العمود الفقري لهذا النظام. ومنذ التدخل السوفييتي في أفغانستان، برز واضحا أن العناصر الأقوى لمواجهة النظام السوفييتي، تكمن في التعبئة الدينية والقومية، وليس الليبرالية أو الديمقراطية. الأمريكيون أدركوا ذلك في حرب فييتنام، لكنهم لم يخرجوا بالدروس المنسجمة بعد هزيمتهم. وعندما سقط معسكر وارسو، باشروا الاستثمار في الوضع العالمي الجديد، باعتباره انتصارا للهيمنة الأمريكية بثوب ليبرالي. وفي أقل من عشر سنوات، دخلوا أفغانستان والعراق لتحريرهما “من الدكتاتورية والتطرف والإرهاب”. أعطتنا الحياة فرصة مشاهدة القوات الأمريكية تغادر أفغانستان وتسليمها لطالبان، الذين أزاحتهم عن كابول قبل عشرين عاما.
بنيت استراتيجيات مراكز البحث والدولة الأمريكية العميقة على ضرورة :
إعادة رسم الخارطة الأوربية تحت جناح حلف الناتو
بناء شرق أوسط مختلف وحليف
إحتواء الوضع الأوكراني في سقف حلف شمالي الأطلسي
وضع استراتيجيات تعامل مع التنين الصيني
في 3 أبريل/نيسان 2008، تم وضع اللمسات الأخيرة للنقطتين الأولى والثالثة، في “إعلان قمة بوخارست” لرؤساء الدول والحكومات العضو في حلف شمالي الأطلسي، وجاء في الفقرة 23 من هذا الإعلان:
“يرحب الناتو بالتطلعات الأوروبية ـ الأطلسية لأوكرانيا وجورجيا اللتين ترغبان في الإنضمام إلى الحلف. اليوم قررنا أن تصبح هذه الدول أعضاء في الناتو. لقد قدم كلاهما مساهمات قيمة في عمليات التحالف. نرحب بالإصلاحات الديمقراطية في أوكرانيا وجورجيا، ونتطلع إلى انتخابات برلمانية حرة ونزيهة في جورجيا في مايو. تمثل خطة عمل البحر المتوسط، بالنسبة لهاتين الدولتين، الخطوة التالية على الطريق التي ستقودهما مباشرة إلى العضوية. نعلن اليوم أننا نؤيد تطبيق هذه البلدان على خطة عمل الحلف. سندخل الآن فترة من التعاون المكثف مع كليهما على مستوى سياسي رفيع لحل القضايا العالقة فيما يتعلق بترشيحهما لخطة عمل البحر المتوسط. لقد طلبنا من وزراء الخارجية، في اجتماعهم في كانون الأول (ديسمبر) 2008، إجراء تقييم أولي للتقدم المحرز. يتمتع وزراء الخارجية بصلاحية اتخاذ قرار بشأن ترشيح أوكرانيا وجورجيا لخطة عمل الحلف”(ترجمة المحرر).
في 8 أغسطس/آب 2008، شنت القوات الجيورجية هجوما على أوسيتيا الجنوبية الرافضة لسياسة الرئيس ساكاشفيلي تجاه الإقليم، وبعدها بيوم واحد، كان الهجوم الروسي على جيورجيا، الذي لم يتوقف إلا بخسارة جيورجيا لأبخاسيا وأوسيتيا شمالا. أما قضية أوكرانيا فلم تطرح وقتها، لوجود سلطات مقربة من موسكو. لكن بعد “ثورة الميدان الملونة” قبل ثماني سنوات، عادت بقوة، وكان التماس الأول في دفع إقليمين فيهما أغلبية ناطقة بالروسية إلى الإنفصال، ومصادرة شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا.
عدد من الدبلوماسيين الغربيين، اقترحوا مبكرا، التصرف بشكل عقلاني ودم بارد مع الملف الأوكراني، ومنهم هنري كيسنجر وبريجنسكي واوبير فيدرين… تقوم هذه الاقتراحات على فنلدة أوكرانيا (الأنموذج الفنلندي خلال الحرب الباردة)، يضيف فيدرين عليهما اللجوء إلى الأنموذج الفدرالي للدولة لمراعاة حقوق الأقليات. إلا أن اقتراحهم لم يجر التوقف عنده من أي طرف. على العكس من ذلك، قدمت الإدارة الأمريكية في عام 2021 مساعدات عسكرية لأوكرانيا وفق البنتاغون تبلغ قيمتها مليار دولار.
عدد هام من السياسيين الأوكرانيين، الذين يعانون من منظومة فساد، فشلت كل الحكومات في معالجتها في ثلاثين عاما، يظنون أن دخول الاتحاد الأوربي سيساعد على تطوير إدارة الدولة وفرض القوانين الأوربية على أوكرانيا.. الشعبويون ينطلقون من أن مظلة الاتحاد الأوربي الاقتصادية ومظلة الناتو العسكرية هي الوسيلة الأمثل لبناء دولة قوية، لأن كلا المؤسستين “بحاجة لنا”. الرئيس الروسي يعتبر انضمام أوكرانيا للمؤسستين خطرا مباشرا على الأمن القومي الروسي…
لدى كل الأطراف من الحجج والذرائع ما يدعم مواقفها. لكن هل هو العشق المفرط “للأهل والأخوة” ما يحرك القادة الغربيين؟
بوريس جونسون كان مهددا باستقالة حكومته قبل الأزمة بأيام… شعبية بايدن في أسوأ أيامها، انتخابات فرنسية رئاسية على الأبواب، العلاقات الفرنسية البريطانية في أسوأ أحوالها بعد قضية “الاسطول الاسترالي”.. إلخ. أوكرانيا هي القضية الوحيدة القادرة على إعادة اللحمة بين مكونات حلف شمال الأطلسي.
وهنا يأتي السؤال: هل سقط الرئيس الروسي في فخ الحرب على أوكرانيا؟ أم أن لديه بالفعل أوهاما بنصر عسكري في عدوانه؟
بالتأكيد، لا يمكن المقارنة بحال بين الحرب الجيورجية (2008) والحرب الأوكرانية (2022-…)، ولكن هذه الحرب المسماة “حرب بوتين”، كما يقول الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، “ليس حلف الناتو والإدارة الأمريكية فيها أبرياء”…
ستضرب القيادة الروسية البنيات التحتية لأوكرانيا والاقتصاد الروسي بضربة واحدة، وسيتشرد ملايين وليس مئات الآلاف كما يظن البعض، وننتقل من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة، ويعود الغباء الأوربي، الذي أغمض العين عن دخول آلاف المقاتلين الجهاديين الأوربيين لسوريا، ويرفض عودتهم إليه اليوم، للدعوة لدخول عشرات الآلاف من المقاتلين الأوربيين لأوكرانيا، استغلت ألمانيا الفرصة لزيادة موازنتها العسكرية بشكل لا سابق له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أما “البراءة” الكندية فأصدرت أوامرها بتسهيل إجراءات الهجرة الأوكرانية إلى كندا…
إنها الحرب يا صديقي…
وهل عرف البشر يوما حربا نظيفة!!
ليس في هذه الحرب غالب ومغلوب، بل مغلوب ومغلوب، ولن تحل المدافع وطبول الحرب الطويلة أي من المشكلات المطروحة على طاولة المنطق والحكمة… الدم الذي سيراق أولا دم أوكراني وروسي، وإعداد قوائم بجرائم الحرب لن يخفف عدد القتلى…
شيء وحيد لا يمكن تغييره، هو الجوار الأوكراني الروسي. فيمكن لمواطني البلدين الطلاق من زوجاتهم بقرار إداري بسيط، لكن لا تسونامي ولا الحروب تستطيع تغيير جغرافيا الجوار. بتعبير آخر، الثمن الحقيقي في حروب الجيران، يدفعها شعوب البلدين أولا وأخيرا. ومهما صفق الآخرون أو ذرفوا من الدموع، فلا يستحقون أكثر من صفة “المتفرج المشبوه”. هذا ما ينساه كل من شارك في تأجيج الحرب العراقية-الإيرانية، كما ينسون أنها كلفت مليون ونصف ضحية من الشعبين.
من الضروري شجب الاعتداء العسكري الروسي على أوكرانيا، ولكن أيضا، إعطاء السلام فرصة. نحن بحاجة إلى عقلاء مؤمنين بأن الحل العسكري للقضية الأوكرانية وهم، وأن احتلال أوكرانيا أو تنظيم المقاومة الشعبية فيها انتساب واسع لعملية الوهم المنتجة للدمار والضحايا.
ليس الحديث في الحل السياسي ضامنا وحيدا للسلام والأمن في الأوراس كلاما طوباويا، وعدم تركيز كل الجهود بهذا الاتجاه، يحمل كل مخاطر عودة أوربة، ساحة لحرب عالمية جديدة.
لسنا بحاجة أبدا، لأن يقال بعد سنوات، لقد كنتم على حق، فهذه الجملة لم تمنع وقوع المحرقة السورية قبل الأوكرانية.