أكذوبة ما بعد الحداثة في الثقافة العربية / نجيب مجذوب
15 مارس 2022، 00:32 صباحًا
من المضحك أن يصنِّف بعضُ الكتاب العرب اليوم أعمالَهم الأدبية ضمن ما يُعرَف بتيار ما بعد الحداثة، في الوقت الذي تعيش مناطق شاسعة من أوطانهم في عهد ما قبل الكهرباء وصنبور الماء، وتوجد شرائح اجتماعية واسعة في مجتمعاتهم تحت خطوط الفقر والعقل والحرية. لا شيء في الكتابة الأدبية أتعس وأتفه من وصف الواقع المحلي بأسلوب مستورد وخيال مستعار. بات الجهل عندنا يُقدَّم أدبيا باعتباره معرفة، والهذيان بوصفه إبداعا، والأغبياء بصفتهم نجوما.
إن المعركة حاليا في المجتمعات العربية أكبر وأخطر من أن يصرف الكاتب وقته وعمره في تدوين أضغاث أحلامه وشطحاته وتعويذاته كأنه يعيش في أحد البلدان الإسكندنافية حيث لا يتأخر القطار دقيقة واحدة عن موعده المحدد. لا، في البلدان العربية اليوم قد يتأخر القطار ساعات طويلة، وقد ينقلب بغتة في طريقه فلا يصل إلى محطته النهائية، وتظل أسباب خروجه عن السكة مجهولة، وقد يستمر البحث عن أجساد المفقودين أياما طوالا. لا تنقص المواضيع في بلاد يَعْرُب للكتابة عنها، فـ «المعاني ملقاة على قارعة الطريق» كما قال الجاحظ قديما. فقط ينقصنا من بإمكانه أن يلتقط الفكرة، ثم يعبر عنها بصدق وسلاسة وشجاعة.
ما بعد الحداثة في الثقافة العربية أكذوبة اختلقها كتاب تفصلهم سنوات ضوئية عن واقع مجتمعاتهم؛ مجرد أزعومة روجها أولئك الذين تأثروا بموضات أدبية أجنبية، ويؤمنون بوهم عبور الموجات الأدبية للثقافات والتاريخ والجغرافيا.
لا شك أن الثقافة العربية المعاصرة أبعد ما تكون عن نقطة بداية التصالح مع تاريخها، طالما واصلت اليوم الجامعات والمنابر والجوائز والإعلام الاحتفاء بكتّاب يتكلمون مع أنفسهم فقط، ويكتبون لأنفسهم لا غير، كما لو كانت أقلامهم مغموسة في محبرات مليئة بالماء لا تُخلف أثرا، ولا تُحدث تأثيرا، ولا تسبب وجعاً وألما، اللهم ما تثيره من زوبعات إعلامية سخيفة وضجات مفبركة وفُقّاعات موجهة. غالبا ما نتحدث عن متعة القراءة، لكن ماذا عن وجعها؟ نريد أن نقرأ كتابا يوجعنا، وليس كتابا يسلينا؛ نرغب بأن نقرأ ما يصدمنا ويزحزح البديهيات المتكلسة في عقولنا، وليس ما يزيف وعينا. نبحث عن كتاب يشدنا بقوة، لا عن كتاب ينفرنا ويصدنا في صفحته الأولى. بعض كتاب العربية أصبحوا ماركات مسجلة، في حين هم في الحقيقة مجرد منتوجات إعلامية مصنوعة وحالات ثقافية مشبوهة.
في الماضي كانت الثقافة العربية تسبق زمنها. كان الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والمعري وبديع الزمان الهمذاني أكثر حداثة ممن يتكلمون حاليا باسم الحداثة وما بعدها. أما اليوم فأصبحت متخلفة بكثير عن عقارب الساعة ودقاتها، ومنفصلة عن قضايا التاريخ ومآسي الجغرافيا. أضحت معظم إصدارات دور النشر العربية حاليا بمثابة معلبات قصديرية فارغة يضجرنا طنينها وتزكمنا رائحتها، ولا تشتمل على أي غداء وفائدة. قبل بضعة عقود كانت للثقافة العربية الحديثة معاركها، ولكل أديب أو مفكر أو شاعر معاركه الأدبية والسياسية والفكرية. أما اليوم فلا يريد الكاتب معركة لأنه بكل بساطة ليس لديه أي أفكار ليدافع عنها وليقارع من أجلها، وإنما يبحث ويخطط بكل الوسائل للفوز بجائزة البوكر للرواية أو جائزة الشيخ زايد للكتاب، بعدما كانت الجائزة من قبل هي التي تبحث عن الكاتب. من قبل كان الكاتب يفرض إسمه من خلال أفكاره، أما اليوم فبواسطة علاقاته.
تحتاج الثقافة العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى فرسان الاقتحام، ويعرِّف أهل اللغة الاقتحام بأنه «توسُّط شِدَّة مُخيفة». وأي شدة مخيفة أكثر مما تعيشه البلاد العربية اليوم؟ تحتاج ثقافتنا اليوم إلى حفاري قبور يدفنون القدامة والعطالة والبلاهة أولا، ليعلنوا عن ميلاد جيل جديد من الكتاب يبدعون أعمالا تكون بمثابة مدافع توجع رؤوسنا وتخترق حرجنا وجهلنا مفجرة ما تكلس في جماجمنا ومزحزحة رتابة تفكيرنا. تعبنا ومللنا من كُتّاب مِن كرتون، أصحاب الأقلام المغموسة في الماء، وليس في الحبر كما يُفترض.
حداثتنا العربية أجهضها الاستبداد وغدر بها البيترودولار بعد أن مسخها لعقود، وما بقي منها مجرد مظاهر مزيفة وصالونات خاصة. فما الحداثة في بيع منتوجات «زارا» و«نايك» في شوارع مكة المكرمة؟ ما الحداثة في استدعاء مغنية وراقصة مثل جينيفير لوبيز إلى شبه الجزيرة العربية لتحرك مؤخرتها المغرية أمام جمهور واسع من المكبوتين والمقموعين الذين يؤمنون أشد ما يكون الإيمان بأن المرأة مجرد متاع لا غير. عن أي حداثة نتحدث في ظل هيمنة نزعة بطريركية (أبوية) قديمة ومقيتة تقصي النصف الآخر من المجتمع؟
بات بعض «الحداثيين» العرب يكتبون التدوينات المطولة في مديح السلاطين والأمراء والمارشالات، وفي هجاء نظام الجمهورية وقيمها. بعضهم أصبح طائفيا أكثر من زعماء الطوائف، وملكيا أكثر من الملوك أنفسهم. والبعض الآخر لا يتردد في الكتابة والتصريح جهارا بأن الشعوب العربية ليست مؤهلة بعد للديمقراطية. لعمري إن هذا مأزق أخلاقي خطير، قبل أن يكون فضيحة سياسية كبرى، ومنعطفا ثقافيا صعبا.
أحزاب عربية ترفع شعار الحداثة، في حين تجدها منهمكة صباحا ومساء في لعق حذاء الحاكم المستبد مرددة جهارا نشيدها الوطني المقدس: «ذا لَحْم كتافْنا من خِيرك يا بيــه…»!
لم يعد الحديث عن حداثة عربية وما بعدها يستقيم في ظل مجتمعات قبلية وعشائرية تزدحم مدنها العشوائية وشوارعها الطبقية بمظاهر البداوة والتصحر والتخلف.
عن أي حداثة نتحدث إذا كانت الأغنام الجائعة والكلاب التائهة تتجول مع الناس على كورنيشات أهم عواصمنا العربية!
عن أي حداثة نتكلم إذا كانت السلطة العربية الحاكمة مازالت رعَويّة كما كانت منذ قرون، وتعتبر أصحاب الأرض رعايا وليسوا مواطنين.
أولى شروط ما قبل الحداثة الانتقال من القبيلة إلى الدولة، ونحن عدنا اليوم إلى مرحلة ما قبل القبيلة، بعد أن قتلنا الدولة الوطنية والمجتمع المدني وانتحرنا عند أسوار صنعاء وطرابلس والقاهرة ودمشق وحلب وبيروت والقائمة طويلة…-