بعد رحيله عن الأوطان واستقراره في الجزر البريطانية البعيدة في عرض المحيط الأطلسي، انصهر شفيق شيئا فشيئا في المجتمع البريطاني وأدرك طريقة تفكيره، واعتاد نمط حياته، وانجرف في سيل الحياة السريعة فيه.
وفي هذا المجتمع الجديد الذي فتح له أبواب الإقامة والسكن والعمل والحياة وعامله مثلما يعامل أبناءه، تعلّم أنّ هذا الغريب ليس سيئا كما كان ينظر إليه بعض أفراد مجتمعه.
وهذا الغريب الذي اخترع السيارة والقطار والطائرة فأوصل مناطق العالم بعضها ببعض، واخترع الاتصالات اللاسلكية فأوصل البشر في أنحاء المعمورة بعضهم ببعض، واكتشف الأدوية والتطعيمات لعلاج الأمراض والوقاية منها لفائدة البشر، ليس عدو الله ولا عدوّ أحد، ولا يعادي بالضرورة إلاَّ من كان متشددا معاديا للسلام والحرية والإنسانية، وخطرا على التقدم والازدهار والحضارة.
ها هي ألوان التجارب السابقة في مجتمعه القديم وألوان التجارب الجديدة في مجتمعه الجديد تمتزج لترسم له صورة جديدة مختلفة لطبيعة البشر، مثلما شاهدها في الواقع من خلال احتكاكه بشعوب الدنيا في مدينة يجتمع فيها كل أجناس الدنيا، وليس اعتمادا على ما سمعه وسلّم به مجتمعُه.
مجتمعه لم يُسَلّم بأشياء فحسب، بل أحاط هذه الأشياء بجدران واقية وخطوط حمراء لا يحق لأي كاتب أو مفكر في الدنيا أن يجتازها. ولا بأس إن تهجّم على مقومات أمم أخرى أو انتقد معتقدات الآخرين! وكيف لا يفعل ذلك وأولئك جميعا في ظلال مبين! فتعالت صيحة من أعماق نفسه:
“عجِبتُ من قومٍ..
إن نقدَ المفكرُ التاريخ قالوا أساء إلى سمعة أجداده،
وإن نقد الموروث قالوا تنكر لأصله.
وإن نقد الدين قالوا هذا عدو ربه،
وإن دافع عن الانفتاح قالوا خدم مصالح أعدائه،
وإن سكت عن كل ذلك، قالوا تخلّى عن أداء رسالته!”
لقد أدرك الآن أنّ الغريب في أوقات كثيرة خير من القريب في أفكاره ومواقفه وتصرفاته.
ولن يحتاج إلى السفر إلى الماضي البعيد بحثا عن نماذج. فالتجربة الرهيبة التي عاشها في أول يوم من السنة الجديدة مع صديقه جمال في عقر بيته ما زالت عالقة بذاكرته، تبث القلق والفزع في ذاته.
كما لو أنّ تعرّضه للتهديد بالسكين لم يكن كافيا، فقد تعرّض لصدمة أخرى في الشهر التالي. كان في العمل عندما اتصلت به أنجلينا لتبلغه بوصول فاتورة هاتف بمبلغ 375 جنيها! مع أنه، منذ امتلاكه خط الهاتف هذا، لم يسبق له أبدا أن دفع فاتورة تفوق ثلاثين جنيها! ولما اتصل بشركة الاتصالات البريطانية (بي تي) مستفسرا آملا أن يكون ذلك مجرد خطأ حتى يُصحح ويعفى من دفع ذلك المبلغ الرهيب، قيل له لسوء حظه إنّه لم يكن خطأ. كان ذلك نتيجة اتصالات طويلة بخطوط جنسية ساخنة باهظة التكلفة في الساعات الأولى من الفاتح يناير قام بها صديقه ومواطنه جمال في منزله دون علمه!
في لحظة خيبة الأمل والحسرة والألم، لم يجد بداَ من التفكير في ذلك الرجل الغريب الذي التقى به يوما في رحلة جزر كناري، ريتشارد. فكر في ذلك الرجل الغريب، وفكر في هذا الرجل القريب، فوجد أنّ كلاهما كان يشترك في الشرب والسكر. وبينما أحسن الرجل الغريب معاملته، وأهداه زوجته لأجل المتعة والسعادة، ها هو هذا الرجل القريب، المحتقر لزوجته، يهدده ويرهبه في عقر داره، وبعد ذلك، ودون إذن، يجري اتصالات هاتفية مكلفة لأجل ممارسة الجنس في عالم افتراضي، على حساب هاتفه، غير مكترث بالأضرار المادية التي يلحقها بصديق ائتمنه وفتح له بيته!!
فما العيب في غريب إن كان حسن الطبع؟! وما جدوى قريب إن كان سيء الخلق؟!.. ربّ غريب صادق، خير من ألف قريب منافق!
هكذا مع مرور الزمن، تغيرت نظرة شفيق إلى الغريب وإلى المجتمعات الأجنبية، لا سيما بريطانيا التي يحيا فيها.
صار اسم بريطانيا لا يقرن بالعلوم والمعارف والصناعة والتكنولوجيا والحرية والحضارة والرقي فحسب، بل أيضا بالزمن الذي يحيا فيه: “الحاضر”، هذا الواقع الجديد وحياته، وصار وطنه الأصلي الجزائر الذي تركه خلفه، مع مرور الزمن، يُقرن في ذهنه بماضيه القديم وذكريات… (يتبع)