الغزل بالمكان / الشيخ معاذ سيدي عبد الله
غرض النسيب أو البكاء على الاطلال قديم قدم الشعر العربي، وهو ذو بنية نصية واحدة، فلا يكاد يختلف الشعراء في صور البكاء، وتعداد الأمكنة التي عرفها الشاعر وله بها ذكريات سعيدة.لكن اعتبار المكان امرأة – يتغزل الشاعر بمفاتنها وجمالها ويتخيل وصالها، بل يروي لقاءات حميمية حدثت بينهما – يكاد يكون ميزة شعرية حديثة..فقد اعتبر نزار قباني دمشق إحدى حبيباته الجميلات وخاطبها قائلا :
فرشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهُدُبا == فيا دمشقُ لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍ == على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأةٍ == أحببتُ بعدك إلا خلتها كذبا
أنا قبيلة عُشّاقٍ بكاملها == ومن دموعي سقيت البحر والسحبا
فكل صفصافةٍ حوّلتها امرأةً == وكل مئذنةٍ رصّعتها ذهبا
بيد أن أصدق مثال للغزل بالمكان هو رائعة شوقي ( زحلة). فرغم عدم معرفة الكثيرين بمقطعها الاول والذي تجاوزه الموسيقار عبد الوهاب، مفضلا عليه المقطع الغزلي الأثير، فإنها أبانت عن عبقرية شوقي الغزلية، وهو الشاعر الذي ذابت زهرة شبابه واصفرت ورقة كهولته في الشعر الوطني والمديح النبوي..
من يقرأ قصيدة زحلة لن يتوقع أبدا أن شوقي يخاطب هذه المدينة اللبنانية، التي اعتبرها حبيبة جميلة انتزعت منه التغزل وإظهار اللوعة والهيام…
يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني == ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ
مَثَّلتُ في الذِكرى هَواكِ وَفي الكَرى == وَالذِكرَياتُ صَدى السِنينِ الحاكي
وَلَقَد مَرَرتُ عَلى الرِياضِ بِرَبوَةٍ == غَنّاءَ كُنتُ حِيالَها أَلقاكِ
ضَحِكَت إِلَيَّ وُجوهُها وَعُيونُها == وَوَجَدتُ في أَنفاسِها رَيّاكِ
فَذَهبتُ في الأَيّامِ أَذكُرُ رَفرَفاً == بَينَ الجَداوِلِ وَالعُيونِ حَواكِ
أَذَكَرتِ هَروَلَةَ الصَبابَةِ وَالهَوى == لَمّا خَطَرتِ يُقَبِّلانِ خُطاكِ
لَم أَدرِ ماطيبُ العِناقِ عَلى الهَوى == حَتّى تَرَفَّقَ ساعِدي فَطواكِ
وَتَأَوَّدَت أَعطافُ بانِكِ في يَدي == وَاِحمَرَّ مِن خَفرَيهِما خَدّاكِ
وَدَخَلتُ في لَيلَينِ فَرعِكِ وَالدُجى == وَلَثَمتُ كَالصُبحِ المُنَوِّرِ فاكِ
وَوَجدتُ في كُنهِ الجَوانِحِ نَشوَةً == مِن طيبِ فيكِ وَمِن سُلافِ لَماكِ
وَتَعَطَّلَت لُغَةُ الكَلامِ وَخاطَبَت == عَينَيَّ في لُغَةِ الهَوى عَيناكِ
وَمَحَوتُ كُلَّ لُبانَةٍ مِن خاطِري == وَنَسيتُ كُلَّ تَعاتُبٍ وَتَشاكِ
لا أَمسَ مِن عُمرِ الزَمانِ وَلا غَدٌ == جُمِعَ الزَمانُ فَكانَ يَومَ رِضاكِ