كتاب عربموضوعات رئيسية
الجزائر: مسيرة الستين عاما/ دكتور محيي الدين عميمور
حجم الإقبال الكبير على مراسلة “رأي اليوم” يفرض عليها، فيما فهمت، الاكتفاء بتخصيص يوم واحد لنشر ما تتلقاه من مراسلات، لتُعطى الفرصة لأحاديث أخرى تنتظر دورها للنشر.
وهكذا يمكن أن تمر بعض الكتابات بدون أن يتمكن القارئ المتعجل من التوقف عندها، ناهيك عن قراءة التعليقات عليها، وهو ما يجعلني أعود اليوم إلى بعض التعليقات التي تناولتُ بها حديث كاتب جزائري كريم، اختلفت معه ومع بعض ما جاء من تعليقات عليه.
ولا بد ، للأمانة، من أن أعبّر عن اعتزازي بنوعية الحوار الذي احتضنته “رأي اليوم”، فبغض النظر عن اختلاف الرؤى وتناقضها أحيانا، بل غالبا، أسجل المستوى المرتفع الذي حرص على احترامه كل المعلقين، ولن يكون من باب الانتهازية، فيما أرجو، أن أحاول الاستفادة منه لأؤكد مضمون تعليقي الرئيسي الذي رفضت فيه “انحراف” النقد الموضوعي لمسيرة أمة خلال نحو ستين عاما إلى “إدانة” مرحلة الاستقلال الوطني الجزائري بأكملها، وهو ما يفسر هذه الوقفة الاجترارية أو يبررها أو يعتذر عنها.
فالحوار التزم باحترام الرأي الآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه، وهو دليل على أن الشعب، ومثقفوه في الطليعة، ما زال وفيا للمبادئ التي كانت قاعدة ثورته الوطنية ومنطلق حركيته التحررية ونشاطاته التنموية.
وعندما أسترجع ما قرأته أكثر من مرة أعترف أن التعميم، أيا كان مجاله، هو من الأخطاء التي أثرت على موضوعية الاستنتاجات النهائية، فالقول ، مثلا، بأن (حرية الصحافة غير موجودة لا في الدول المتقدمة ولا في المتخلفة ولا في الامبريالية الليبيرالية ولا في الشمولية الاستبدادية.)… هذا القول قد لا يكون خطأ في مضمونه اليوم، لكنه، فيما أرى، خطأ في اعتباره واقعا عاما مطلقا يشمل كل الأقطار والمراحل الزمنية.
فالصحافة لم تكن دائما بتلك الصفة المذمومة، ويكفي أن أذكر بدور الصحافة في إسقاط الرئيس نيكسون (واشنطون بوست) وفي عرقلة انتخاب جيسكارد ديستان لعهدة ثانية (البطة المقيدة) وفي مواجهة بدايات التطبيع، ولن أذكر بدور الصحافة الجزائرية الإيجابي بعد أحداث أكتوبر 1988، برغم أنني قلت وأقول إنها كانت أحداثا مفبركةً مشبوهة الأهداف، لا تختلف كثيرا عن حريق القاهرة في 1952 وتظاهرات شيلي في 1973.
وهنا نحس بالكثير من المبالغة، ولا أحب استعمال كلمة …”التطاول”، في قول مُعلقٍ بأن ( ..الصحفي هيكل كان رئيس التنظيم الطلائعي السري الداعم لحزب الإتحاد الاشتراكي لعبد الناصر الذي شجع بن بلة و بومدبن على “مصادرة” الإستقلال لصالح المعسكر السوفياتي.)…ولا أجد ضرورة في تسجيل استهجاني لهذا الحكم واضح الخلفيات.
حرية التعبير ليس معناها الكلام المرسل أو الأحكام المطلقة التي تبدو كتصفية حسابات معينة، لأن حرية التعبير يجب أن تكون كحرية التنفس، وليس إلقاءً لنفايات “هضمية” من نافذة سيارة مسرعة، وقاعدتها أن يُعطى لكل ذي حق حقه، تنويها أو تذكيرا بجهوده بجانب التنديد بأخطائه، وألا يمنع كرهنا للبعض من الاعتراف لهم بما حققوه، ولو كان ضئيلا، وبحيث لا تسوقنا المزايدات لإنكار جهود جبارة بذلها العشرات بل المئات إن لم أقل الآلاف من الإطارات الوطنية خلال أكثر من نصف قرن.
هنا يبدو تهافت الادعاء بأن النظام الجزائري …(.نظامٌ تمرّدَ عليه وعلى “أيامه” الشعب في ثورة عارمة لم يسبق أن استهدفت، بذات القوة والوعي، أيّ من نظم السلطة الحاكمة منذ الاستقلال؟ …..وخصوصا عندما يتم التركيز على تعبير…(السلطة الحاكمة منذ الاستقلال) … حيث يفهم القارئ أن المقصود هو إدانة النظام الوطني الجزائري من أوله لآخره، أي تجريم النظام الوطني الذي اعتمد الانتماء العربي الإسلامي، ووضع أسس الدولة “الاجتماعية ” التي نادى بها بيان أول نوفمبر، والتزم مع القضايا التحررية في العالم أجمع، وتألق إلى الدرجة التي جعلت مجموعة عدم الانحياز تكلفه بمخاطبة العالم أجمع من منصة الأمم المتحدة، حيث أعلن باسم مئات الملايين، رفض النظام العالمي الذي “وُضِع في غيبتنا”، ولا أتذكر أن بلدا آخر تحمّل شرف مثل هذه المهمة.
وعندما نُحِسّ، إن حقا أو تجاوزا، أن المقصود هو إدانة مرحلة الاستقلال بأكملها، لا نستبعد أن يأتي يومٌ قد يتباكى فيه البعض على أفول الفترة الاستعمارية، بما قد يوحي أن بعض أسلافه كانوا من عناصرها أو المستفيدين منها، وهنا ندرك اهتمام الفرنسيين بتكريم “الحرْكى” الذين كانوا ذراعا فتاكا للتسلط الاستعماري.
وقد يرى البعض أن من خلفيات تلك الإدانة افتعال شرعية ما لحركات تمرد كانت من تداعيات التعقيدات التي عرفتها أعظم الثورات الشعبية العربية في التاريخ المعاصر، وكان المؤسف أن التمرد تزامن مع الغزو الأجنبي الذي استهدف البلاد بعد أشهر قليلة من الاستقلال.
وهذا كله من أسباب تحفز الوطنيين لمواجهة تلك الادعاءات، وحرصهم على تنبيه الرفاق من انزلاق نقد بناءٍ إلى تشهير يسيء لهم قبل إساءته لبلادهم.
فمن غير المنطق ألا نرى فضيلة واحدة لنظام حكمٍ بنى دولة حرة أبية متطورة رائدة، برغم كل العثرات والأخطاء الناتجة أساسا عن قلة التجربة، وبرغم مؤامرات الأعداء التاريخيين ومناورات الذين حاولوا ركوب الحراك الوطني فلفظهم شعب يعرفهم جيدا، ويشير لهم اليوم بتعبير “السوسة المدسوسة”، ومن هؤلاء من لا يرى إلا الجزء الفارغ من الكوب شبه المليء، ولا يعترف بقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”.
لكن هذا في حدّ ذاته يُجسّد وعي الشعب الجزائري الذي لم تخدعه صيحات حقّ مزعومة يُراد بها باطل مؤكد، وهو ما يؤكده فشل البعض في استنساخ حراك 2019، بعد أن أدّى الحراك الأصيل مهمته في إسقاط مؤسسة حاكمة أساءت التصرف وخانت الأمانة.
والواقع أن شعبنا أدرك أن كثيرين ممن تناقضوا مع نظام الحكم الجزائري منذ استرجاع الاستقلال هم أسوا من القيادات المتتالية التي تحملت مسؤولية بناء الجزائر، والتي لم تدّعِ يوما أنها من جنس الملائكة، فقد اجتهدت وأصابت واجتهدت وأخطأت، وهذا هو السبب في أن جلّ الخصوم لم يتمكنوا من انتزاع شعبية سياسية مؤثرة، وظلوا غالبا أقلية منغلقة في “غيتو” فكري أو عقائدي أو جهوي، برغم أن من بينهم شخصيات مستنيرة حجبت صرخات الشارع المفتعلة عن بصيرتها الرؤية الصحيحة للأحداث، وبرغم أن من الذين بحت أصواتهم هتافا ضد النظام كانوا أكثر المستفيدين من مرحلة الاستقلال باستثمار شعار “التأييد الناقد” ( soutien critiqué .
ومن نفس المنطلق، من الظلم أن يُقال بأن ….( الشعب الجزائري حَكَم بالفشل على نظام الحزب الواحد الذي اسسته سنة 1962 جماعة “وجدة” المستاسدة بما توفر لها من الدعم المغربي طيلة اقامتها هناك ) … فالمغرب الشقيق لم يدعمْ جماعة أو عصابة بل ساند ثورة بكل عناصرها، وكان الشعب المغربي في قمة العطاء، ومن هنا كان اسم كل من الملك محمد الخامس والأمير عبد الكريم الخطابي الزعيمين الوحيدين الذين تحمل أسماءهما أهم شارعين في الجزائر.
وبرغم تحفظي على تعبير “جماعة وجدة” فلا بد من التذكير بأن القيادة العسكرية والقوات الاحتياطية كانت في الخطوط الخلفية التونسية وليس المغربية، وبغض النظر عن أن تعبير “جماعة وجدة” هو “اللازمة” التي يستعملها، بهدف قدحي، كارهو الرئيس هواري بو مدين والمتحاملون عليه.
وبالنسبة لمضمون التعليق نجد أن الشعب الجزائري نفسه هو الذي بارك اختيار الحزب الواحد في منتصف السبعينيات، بتضامنه الهائل مع الميثاق الوطني، الذي كان من مظاهره أن من وقفوا ضده بالبلاغ الرباعي المعروف كانوا قلة تحسب على أصابع اليد الواحدة، وكان خطؤهم الرئيسي هو أنهم استعملوا بلاغيات وطنية جسدوا بها مرارة التهميش الذي عانوا منه، عدلا أو ظلما وبمواقفهم المتناقضة مع المسيرة، وربطوا ذلك بتعاطف، بدا مشبوها في تلك المرحلة بالذات، مع “نظامٍ” عبّرت قيادته عن عدائها للجزائر، وهو ما ذكر بتزامن تمرد 1963 الجهوي في الجزائر مع الغزو الذي تعرضت له الحدود الغربية.
وللعلم، لم يتظاهر عشرة أفراد تضامنا مع الساخطين الأربعة، لأن الشعب في مجموعه يعرف مَنْ هوَ منْ.
في هذا الإطار، من الظلم أيضا، بل ومن سوء التقدير ولا أقول الغباء، أن نعتبر حراك الشعب الجزائري في 2019 موقفا ضد “نظام الاستقلال” برمته، حيث أن نظام الحزب الواحد كان قد انتهى مع نهاية الثمانينيات، وهذا الشعب نفسه هو الذي احتضن الرئيس بو تفليقة بكل حماس في 1999 ثم في 2004، ربما لأنه كان يرى فيه نفسا جديدا للنظام الذي أقامة الرئيس هواري بو مدين في الستينيات.
والغريب أن من ينددون بالنظام الجزائري في السنوات الستين بأكملها لا يتوقفون بكلمة تنديد واحدة أو بتجريم للعملية الانقلابية التي عاشتها الجزائر في بداية التسعينيات، وكانت نقطة انطلاق المأساة الدموية، التي كان بعض من ارتبطوا بها يرددون نفس التعبيرات المتناقضة مع نظام الحكم الوطني، بل ومنهم من ينادي بالاستقلال…أي والله…بالاستقلال.
ولقد قلت رأيي كتابيا في ممارسات السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بو تفليقة وأدنت وأدنت توجهه بإضافة عهدة ثالثة تطلبت تعديل الدستور في 2008، لكن من الجحود المُزري الذي لا يشرف المثقف الوطني أن ننسى أن من بعض منجزات عهدته الأولى تحقيق المصالحة الوطنية، رغم ما شابها من عيوب، وأهمها إنكار الدور النبيل للرئيس اليمين زروال واقتصارها على مرحلة محدودة من التاريخ الوطني، ومن “الألزهايمر” المصطنع أن نتجاهل أن الجزائر اليوم هي من البلدان القليلة التي استراحت من الديون الخارجية.
ومن الحماقة، في تصوري، أن تحجب شجرة الأخطاء، أيا كانت ضخامتها، الغابة الهائلة بكل أشجارها المثمرة وبفيئ ظلالها وطيب نسائمها، وأن يُكرر البعض نفس ما يردده الأعداء الذين تزعجهم المواقف الجزائرية، وخصوصا فيما يتعلق بحركات التحرر الوطني والمطالبة بنظام دولي جديد، لأن هناك فرقا بين الخصومة والعداء.
وليس سرا أن من أسباب غضبة الجماهير على بو تفليقة إحساسهم بأن حكمه تناقض، خصوصا في سنواته الأخيرة، مع أهم مقومات النظام الذي بُنيت الجزائر بفضل برامجه، وتناسي تحذير بو مدين من بروز رأسمالية متوحشة ستكون أسوأ من الكولون، وهو ما يهدم تماما الحكم المطلق الذي يتبناه البعض بإدانة كل ما عاشته الجزائر منذ 1962، ويُفسّر سبب حنين الكثيرين لمرحلة الستينيات والسبعينيات وربما بعض الثمانينيات.
وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، وهو ما يفسر قلق البعض وغضب البعض وتوتر البعض وعدوانية البعض.
وأعتذر إذا كنت لم أخصص الحديث عن الحرب في أوكرانيا فقد توقفت عن متابعة تطوراتها.
.