من رحم المعاناة “وأنت تكتبني آخر الأسفار”/ بوسلهام عميمر
20 مايو 2022، 16:40 مساءً
من بين فرث ودم المعاناة (جائحة كوفيد 19)، كان هذا المنجز الشعري الباذخ للكاتبة كريمة نور عيساوي، “وأنت تكتبني آخر الأسفار” من ثمانين صفحة، بعد مجموعة من الدواوين الشعرية نذكر منها” صهيل من فلوات الأرواح”، و “بقايا امرأة”، و “خلف النافذة”، فضلا عما تكتبه من قصص وخواطر. إنها من القلائل ممن يستطيعون بين الفينة والأخرى التفلت من إسار التخصص الأكاديمي، باعتبار تخصصها في علم الأديان بحثا معمقا، وتدريسا جامعيا، وتأليفا متواصلا، ومحاضرة بمجموعة من الفضاءات الأكاديمية داخل الوطن وخارجه، علاوة على المقالات العلمية بعدة مجلات دولية.
الديوان شاهد على عصره: شاهد ليس باعتباره وثيقة تاريخية تؤرخ للجائحة، بالتعرض لما واكب ظهورها من اتهامات بين الدول حول مصدرها، أو حول طبيعتها الحيوانية أو الاصطناعية، أو توثيق ما نجم عن الحجر من عنف أسري وغيره. فالديوان الشعري يوثق لما أصبحت عليه النفوس في ظل الضغط النفسي واشتداد وطأته، بما أن الشعر في جزء كبير منه شعور ومشاعر و رؤى و هواجس. فقد تفننت الشاعرة في رصد ما اعتمل في أعماقها، إذ أصبح الجميع يتحسس رأسه، خوفا من الإصابة، خاصة والموت كان يحصد الملايين عبر العالم. الشاعرة بتمكنها من صرة قول الشعر، استطاعت أن تغوص بقلمها في ثنايا غرز النفوس، لتقف على ما يعتريها من آلام وأحزان وانكسارات، و تترجم حالها في صور بديعة. فتحدثت عن الفقد والحرمان والحجز وراء الجدران والصمت المريب. فهل هناك أكثر مما عبرت عنه في أحد عناوين قصائدها “لا الأرض أرضي ولا هواك يتنفسني” ص55. إنه قمة القنوط لما تضيق بالإنسان الأرض بما رحبت، فيصبح صدره حرجا كأنما يصعد في السماء. وهل هناك أكثر من أن يصبح الصمت الممتد سفينة ص64،
يزمجر وحده ..
أرقبه يبغش إلى كوته
لا طرق …ولا صخب.. هو الموت المحقق
حتى السماء فقدت ألوانها لا أبيض ولا أسود ولا رمادي، كما في قصيدتها هاته “صمتي
سفينتي”، وفي موضع لاحق في ص72 “قلم هارب” جعلت للصمت شخيرا، إذ أضحى
هو السائد والسيد:
لا شيء يقتل الوقت
أو يهدئ تباريح الشوق
غير ابتسامة مبللة وقت القيلولة
الظهيرة جمعت أفياءها في حقيبة جلدية
وتوسدت ما بقي من نصفي المنهك هنا.. و نافذتي
المشرعة هناك
تبحث عن ضجيج يراقصها وصخب يضاجع أفكارها، فلا تجده. لتصل إلى ذروة الضجر و
الكآبة، فتتساءل عن القيلولة في ص73
تلك القيلولة تشاكسني لا أدري هل تتقيلني…
أم أتقيلها؟
أتمدد في إغفاءة من دون أن أغفو..
إذ لا أحد يتمدد مثلي عميقا في هذا الخواء..
يتشظى لوحده دون عصفور يرقبه.. مثل مقيم في
تابوت..
دون غطاء.. أو حامل يحمله…معلق بأطراف السماء
تدلهم الخطوب أكثر فأكثر وتكتئب، ليبلغ اليأس قمته، فتتساءل في ص74
متى يتوقف هذا العدو الأزلي لنستريح؟
موقف يذكر بموقف المسلمين في إحدى الغزوات، لما ضاقت بهم السبل و أحاطت بهم الشدائد وزلزلوا حتى قالوا متى نصر الله؟ فما من مركب مركب إلا واعتمدته، لتنقل رسائلها بفنية عالية. فقد وظفت كل ذخيرتها المعرفية والجمالية، لتجعل ديوانها شاهد على عصره، يجعل القارئ المعاصر أو اللاحق في قلب ما عاشته النفوس من عذابات في ظلها. حتى إنها لشدة وطأة الألم تمنت في ص 35 من قصيدتها “لو كشفت لي الرؤيا” حتى لا تعيش من الأهوال ما يشيب لها الولدان.
لو كشفت لي الرؤيا
ما نحن عليه
لنمت عهودا وشهورا
أزاحم أهل الكهف
وكانت النافذة هي الملاذ:
حضور لافت لموضوعة النافذة في الديوان (حوالي 16 مرة)، ذكرت في سياقات مختلفة، فجعلت لها حضنا، بعدما جعلت لها خدا في ص 64، تقول: وأنا أنتظر شعاع الشمس يقرص خد نافذتي فكما تتبعنا في ظل الإغلاق الكلي والحجر، بقيت النوافذ الملاذ الوحيد للانفتاح على الفضاء
الخارجي، تقول ص7:
لنافذتنا المشرعة على الزمن تبدد مسافاتنا..
نكاية في الوقت الذي يفرقنا
تمحو ليل الوحدة من مآقينا
فلوحة الغلاف نفسها تعتبر النوافذ خيطها الناظم، و إن كانت بالحال التي وردت عليه، كأنها تعرضت لزلزال عنيف، مهترئة، بشبابيك عتيقة، مبعثرة الأشكال ومتفاوتة الأحجام، لا حياة فيها. فلم تعد أكثر من أطلال، بتصميمات تعود إلى الأزمنة الغابرة، زادتها قتامة ألوانها الداكنة. ألوان عبارة عن بقع صفراء، و إن كان الأصفر يرمي إلى الدفء، فقد يومئ أيضا إلى الإحباط والابتعاد، و حمرة قانية بما تفيده من أحزان وآلام، و زرقة غامقة ترمز إلى الاكتئاب، ليبقى الأسود طاغيا. فإن كان لدى بعض الأمم يرمز إلى القوة والحياة، فإنه يوحي لدى البعض إلى الحزن و الكآبة، والغياب و الظلمات و الخوف. و أكثر من ذلك.
زاد اللوحة قتامة، الديك في مركز اللوحة تقريبا. فحسب الإنجيل كان الديك هو من نبه بطرس لإنكار معرفته بالمسيح.
أما ولونه أسود فهو في الأحلام، حسب بعض مفسريها، إن رأته العزباء فهو يدل على أنها ستتزوج من رجل لا تحبه، عكس الأحمر والأبيض.
كل هذا في انسجام تام مع متن المنجز الشعري. فالنوافذ نفسها حسب الشاعرة نالت نصيبها من المعاناة. فلم تعد على ما هي عليه، وسيلة للتنعم بشروق شمس أو بغروبها. ففاقد الشيء لا يعطيه. إنها الخراب واليباب. وأكيد فمصمم اللوحة متح مما ورد في المتن الشعري، مما برعت الشاعرة في وصفه من آلام و أحزان بسبب الجائحة التي ضربت على حين غرة العالم في مقتل. فلم تعد العلاقات على حالها، ولم تعد الحدائق ملتقى للعشاق والحالمين، ولا الشواطئ ملاذا للفارين من قيظ الحر، ولا الشوارع فضاءات جميلة لتجزية بعض الأوقات. فقد أصبح الوجوم مخيما على الوجوه ليل نهار. فقد قلبت الجائحة سافل الأرض عاليها.
قالت الكاتبة في أحد حواراتها “وجدنا أنفسنا فجأة في سفينة واحدة، تلاطمها أمواج عاتية تثير في أنفسنا الرهبة والخوف من اللقاء و التجمع، فكان البعد أمنًا وحياة، وكان اللقاء موتًا محققًا” الكاتبة بحسها الشعري المرهف وخيالها المهفهف، فحتى النوافذ التي شكلت فسحة للمحتجزين، إذ عبرها كان يتم التواصل وتبادل التحايا، و عبرها يعبر كل واحد بما لديه من مواهب كالموسيقى وغيرها، كان لها رأي آخر، فنافذتها لم تسلم من الحزن والأسى.
أفردتها بقصيدة جميلة المبنى، على الرغم مما يعتري معناها من آلام جسام. في الصفحة 60 تقول في قصيدتها “نافذتي فسحتي” ص60، بعدما عرجت على حال “المرابطين على أعتاب
النوافذ المشرعة متكئين على عكاز الأمل”:
نافذتي لم تعد فسحتي
كانت نافذتي تتأنق كل صباح
تستحم.. تتبرج… تتعطر… ترخي
شراشفها تتراقص على نوتات النسيم
إلى أن تقول في ص 62 و قد أنسنتها، وجعلت لها أحاسيس ومشاعر تحزن وتقنط:
أراها اليوم واجمة ترتدي عباءة مزركشة بين اليأس
و القنوط…تراقب مرور الغيم يهوي بمحاذاة البحر..
وأنا أتصبب عرقا من جلد الوحدة…
وتزيد لتتساءل عن نافذتها التي كانت سيدة النوافذ
” نافذتي سيدة النوافذ، تثير غيرة صويحباتها..
من بلمعان زجاجها الازوردي، يفتح شهية العصافير
من أحمر شفاهها، يرسم قوس قزح…فتكتظ بالفرح
ما بها نافذتي صامتة اليوم؟ ….
لعلها تحن لمشاغبة طفل يحذفها بقطعة طوب
ويجري
إلى أن تقول الشاعرة بمرارة وقد استكنهت دواخلها في 63:
لعلها اليوم غارقة في رعونة الوقت وملل اللحظة
تنتظر وميض الدجى يزدهر من جديد
………….
قد تكون نافذتي تعزف لحن الرحيل على قيثارتها
المتفردة
أو أنها تحتضر أمام مرايا باقي النوافذ الشاعرة ابنة ثقافتها الموسوعية:
فديوانها هذا بالضبط، يمكن أن يشكل محورا لدراسات معمقة لعلاقة ثقافة الكاتب وتخصصه، بما تجود به قريحته شعرا أو نثرا، دون التفريط قيد أنملة في ضوابط كل جنس أدبي على حدة. فالأساس في الشعر الصور الشعرية البليغة، والخيال المجنح رأس مال أي كاتب، واللغة الانزياحية البعيدة كل البعد عن التقريرية والمباشرة.
ذلك ما نلمسه بشكل بارز في منجز الشاعرة هذا، ابتداء من عتبة النص الرئيسية؛ العنوان، من خلال ما ورد فيه “الأسفار”. إنه يحيل مباشرة على التراث الديني القديم، قبل استحضار ما يمكن أن يرمز إليه فيما يتعلق بالكتب أو ما يتعلق بالسفر. فالفكر يذهب رأسا إلى ما يعرف من أسفار خاصة باستحضار تخصص الكاتبة في علم الأديان المقارن، كسفر الخروج وسفر المزامير و أسفار العهد الجديد وسفر الأمثال وغيرها، مما يجعل العنوان نفسه إشكاليا، ينفتح على أكثر من سؤال، حول طبيعة المخاطب، و هل هو من قبيل العتاب تكهنا بالمحذوف قبل الواو، الذي هو نفسه موضع تساؤل، إن كانت واو الحال الداخلة على الجملة الفعلية، أم الواو التي حسب ما قبلها، فما باله إذ هي ترفعه إلى أعلى عليين وهو لا يأبه لها. أم هل ما ورد في الصفحة 50 تتمة له، إذ تقول:
هكذا هي حروفك مشغولة
بغيري ما حضنتك من صور ..،
فهل هو الرفع منها والكسر منه؟ أم تقدير المحذوف هو ما نجده في الصفحة 31
فيما تبقى من الوقت تذكرني على حافة الحلم
اكتب اسمي على ذائقة المساء
وخضب شعري القمحي برضاب أقلامك
اكتبني كما تشاء
الديوان في سياقات مختلفة، حافل بالإحالات على ثقافتها الموسوعية في مجال تخصصها في علم الأديان المقارن. فلها مؤلفات معمقة فيه. ففي ص 40 ضمن قصيدة “نعم وأكثر”
نجدها في سياق حديثها عن المعاناة تقول:
من جدار الصمت المنسوج هناك يحد من
صوتي لا زلت على العهد القديم ولا زلت أنت تقيم الإشارة واضحة إلى العهد القديم الذي يشير إلى الجزء الأكبر من الكتاب المقدس الذي يحتوي على جميع كتب اليهود (الكتب الخمسة) ويعرف بالتناخ. في الصفحة الموالية نجد قرع الأجراس، وفي ص 30 ضمن قصيدتها “لم يعد هناك متسع من الوقت” نجد الإحالة على الإنجيل والتعاليم و عمود الصلب والعشاء الأخير، فهو طبقا للعهد الجديد هو عشاء عيد الفصح اليهودي التقليدي، وهو آخر ما احتفل به يسوع مع حوارييه، قبل أن يتم اعتقاله و محاكمته وصلبه، تقول:
عن العشاء الأخير.. في حفلة الوداع
هو بكاؤك المنغرس في فيئي
لا يدبر إقباله..
في حضرتي
فالكاتبة في أكثر من موضع من ديوانها، لم تجد أبلغ من استلهام المصطلحات الدينية من الكتب السماوية، لوصف حال الأنفس مع الوباء في طل الحجر والحجز من أحزان وآلام
وأشجان في الزوايا المظلمة وأركان البيوت الكئيبة. في ص 30 نجد:
في الطواحين تعصر الماء خمرا ..مثلج الصدر
في إنجيلك المفقود …تتمدد التعاليم تبحث عن عمود صلبي
وقبل هذا في ص 28:
في هيكلك المقدس لا يحسن تعبده … سواي الديوان حافل بمثل هذه الإشارات، حتى إنها خصصت عناوين تحيل على موسوعيتها في المجال، فنجد مثلا قصيدة بعنوان”لو كشفت لي الرؤيا” (قصة يوسف عليه السلام)، “التكوثر” (سورة الكوثر)، “التعميد” (ص21)، الطقس الذي يشبه ما لدينا في تراثنا الإسلامي من اغتسال قبل النطق بالشهادة، بالنسبة للنصرانية اغتسال المعمد بالماء للدخول إلى الحياة المسيحية والاعتقاد بموت المسيح والتطهر من الخطيئة الأولى خطيئة آدم وحواء ليدخل كإنسان جديد. صورة بديعة تصف فيها ما تثقل به كاهلها من خيبات وخذلان وآهات أمشي على ظلي أحمل نفسي المتهالكة..
………………………
نتعمد من كل صدق كتبنا في صحائف الأولين
…………………………………..
التعميد تطهير للغشاوة المتراصة في القلب
لدموعك تغسلك من عيني في المدى
تنزلك من هودج الأمنيات
زخم كبير يمتح من الكتب السماوية. في ص 76
هي نار مقدسة تشتعل أمام الأصنام ..لا تلسع إلا
سواي
في إشارة إلى النار التي يتحدث عنها المسيحيون الارثدكس، على أنها معجزة تحدث كل
عام في كنيسة القيامة، يوم سبت النور أو السبت المقدس وهو اليوم الذي يسبق عيد الفصح.
ضمن قصيدة “ثورة الوجد” ص 75
في هذه الظهيرة المتصدعة
تتهادى الكلمات..
تنزل على أوجاعي كالسم
إلى أن يصل السياق إلى قولها:
أيعقل أن تعتقل الكلمات في سجن البعد..؟
فالتركيز على هذا المتح لم يكن اعتباطا، إنه يتساوق وما يطبع حال الأنبياء مع أقوامهم من معاناة وانكسارات و خيبات آمالهم، وما تطفح به الكتب من آلام وأسقام. إنه اعتماد واع يعبر عن حال الحزن المخيمة على الديوان باعتباره ثمرة طبيعية من شجرة المعاناة.
فالقصائد كلها ممهورة بتواريخ بين شهري يونيو و يوليوز 2020 المرتبط بذروة اشتداد الوباء و وطأته. ف”أي نص لا يكتب من فراغ، ولا من الصفر، بل لكل نص سوابق ينطلق منها ويتشكل عليها” كما ذكرت الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا في سياق حديثها عن مصطلح التناص.
خاتمة: فديوان “وأنت تكتبني آخر الأسفار”، لا يمكن إلا إدراجه ضمن المدرسة الرمزية من بابها الواسع. إن الكاتبة تمتح من عوالم مختلفة للتعبير عن أفكارها. ففضلا عن التراث الديني مجال تخصصها، نجدها توظف هيلين أجمل نساء الأرض في التراث الإغريقي القديم وهوميروس و الأوديسا و جلجامش، والأعشاب كسيقان الخيزران وشجر البلوط وصمغ الصنوبر، وراقصة الفلامنكو لمحاكم التفتيش، وقدم إفرست ونهر الغانج، وغير هذا كثير من مختلف الثقافات والمجالات. وإن كان يبقى السؤال، ما إن كانت الرمزية بالنسبة للكاتبة اختيارا ضدا على المدرسة الواقعية و الانطباعية، أم هي الموانع لا تزال بالمرصاد للأقلام النسائية، ما ظهر منها و ما بطن، تحول دون إعرابها عن مكنوناتها دون الحاجة إلى ترميز؟
ويبقى هذا الديوان، لثرائه بانفتاحه على كل الثقافات العالمية وغناه الجمالي الفريد، يحتاج لأكثر من قراءة من زوايا نظر متعددة.