العنصرية البيضاء هي الأشدّ خطرًا على أميركا/ د. صبحي غندور
29 مايو 2022، 15:25 مساءً
ما حدث في مدينة بافلو بولاية نيويورك الأميركية من قتلٍ عشوائي إجرامي لمواطنين أبرياء من ذوي البشرة السوداء، ليس هو بالأمر العابر أو مجرّد جريمة اقترفها شاب أبيض يعاني من عقدٍ نفسية. فهذا النموذج من الإرهاب الدموي العنصري تكرّر في أميركا بمدن مختلفة خلال السنوات الماضية، وأصبح ظاهرةً عُنفية لما هو كامن في المجتمع الأميركي لقرونٍ طويلة من عنصرية بيضاء بغضاء لا تريد التكيّف مع حاضر المجتمع الأميركي القائم على التنوّع العرقي والديني والثقافي، والذي لم يعد مقبولًا فيه ما كان في تاريخ أميركا من مفاهيم وممارسات عنصرية.
فالولايات المتّحدة نشأت تاريخيًّا على أيدي أوروبيين بيض مارسوا العنف والقتل ضدّ أصحاب الأرض الشرعيين الذين اُصطلح على تسميتهم ب”الهنود الحمر”، ثمّ استحضر المهاجرون الأوروبيون أعدادًا كبيرة من الأفريقيين واستعبدوهم لقرونٍ طويلة بعد أن ثاروا على التاج البريطاني بقوّة السلاح ليقيموا دولتهم الخاصّة والتي تألّفت بدايةً من ثلاث عشرة ولاية، كانت هي أصلًا مستعمراتٍ بريطانية على الساحل الشرقي لأميركا.
وتأسّس أوّل مجتمع أميركي على ما يُعرف اختصارًا بأحرف: WASP والتي تعني “الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت”، وهم الذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الأفريقيين المستحضرين للقارّة الجديدة، إلى حين تحريرهم قانونيًا من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن في نهاية القرن التاسع عشر، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أميركا.
حتّى الدستور الأميركي العظيم الذي جرى إقراره في العام 1789، كان المعنيّون فعلًا بالحقوق الواردة فيه، هم الرجال البيض (دون النساء) والذين يملكون الأرض ويمارسون استعباد وتسخير الأفارقة المستوردين بالقوّة. وقد استمرّ التمييز الديني والعرقي في الولايات المتّحدة حتّى أواخر القرن العشرين، وشهدت طوائف مسيحية كاثوليكية إيرلندية ممارسات عنف وقتل ضدّ أتباعها من المهاجرين الجدد لأميركا إلى حين مطلع القرن الماضي، كما استمرّ التمييز العرقي ضدّ الأميركيين الأفارقة في مختلف مجالات الحياة والعمل حتّى حقبة الستّينات، حيث جرى إقرار قوانين تمنع حالات التمييز ضدّهم قانونيًّا لكن المرض العنصري هو في النفوس وليس في النصوص.
وقد فشل القس جيسي جاكسون في القرن الماضي بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا. وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية (1961-1963)، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية إلى حين انتخاب جوزيف بايدن في العام 2018!.
لذلك كان وصول باراك حسين أوباما، الأميركي الأفريقي، ابن المهاجر المسلم، للرئاسة الأميركية في العام 2008 وفي العام 2012، صدمة كبيرة لمن هم يمكن وصفهم بالأصوليين الأميركيين “الواسب”، الذين يريدون الحفاظ على هُويّة أميركا “الأوروبية البيضاء المسيحية”، والذين كانت ردود أفعالهم السلبية مساوية في قوّتها لفعل المعنى الإيجابي بانتخاب أوباما من قبل غالبية تشكّلت من مزيج ضمّ يساريين بيضًا معظهم من الشباب والمثقّفين والفنّانين، وأصوات معظم الأميركيين الأفارقة، وكتل شعبية ضخمة من المهاجرين الجدد من أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط. ولذلك أيضًا، كان فوز دونالد ترامب فيما بعد صدمة معاكسة للصدمة التي جرت حين فاز أوباما.
الظاهرة العنصرية في أميركا الآن هي متجدّدة ومتطوّرة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، فهي عنصرية شاملة حاليًّا للأقلّيات ذات الأصول الدينية الإسلامية واليهودية، وللأقلّيات المختلفة ثقافيًّا ولغويًّا كالقادمين من أميركا اللاتينية ومن شرق آسيا. “الأصوليون الأميركيون” يعلمون تمامًا ما جرى نشره في مطلع هذا القرن من إحصاءات ودراسات تؤشّر كلّها إلى تغيير ديمغرافي مهمّ يحدث في الولايات الأميركية، وينبئ بتحوّل العرق الأبيض إلى أقلّية في المجتمع الأميركي وإلى هيمنة واسعة لثقافات ولغات غير الأصول التي نشأت عليها أميركا.
وهذه العناصر مجتمعة: التغيير الديمغرافي والعنصرية العرقية المتجذّرة والهجرة لأميركا من أديان ومذاهب وثقافات مختلفة عن “الأصول الأميركية” كانت هي وراء فوز ترامب في العام 2016، وهي مستمرّةٌ الآن كقوّة دعمٍ له رغم كل ما عليه وحوله من قضايا قانونية، وهي العناصر التي فرضت نفسها على الحزب الجمهوري وعلى أعداد كبيرة من المستقلّين غير الحزبيين.
فالتطرّف هو الذي يسود الآن في المجتمع الأميركي ولن يتراجع في القريب العاجل، بل ربّما سيزداد قوّةً خلال الانتخابات القادمة في نوفمبر وبعدها، عِلمًا أنّ التطرّف يؤدّي أيضًا إلى استخدام العنف المسلّح، كالذي جرى من حوادث إرهابية محلّية في عدّة ولايات ضدّ أقلّيات دينية وعرقية وإثنية. فحقّ اقتناء السلاح في أميركا أمرٌ لا رجعة عنه، وقد ارتفعت نسبة شرائه في السنوات الماضية ممّا ينذر بممارساتٍ عُنفية أكثر في المرحلة القادمة.