مع الرائد عبد السلام جلود في مذكراته/كتور محيي الدين عميمور
1 يونيو 2022، 16:42 مساءً
كنت توقفت لحظات عند سطور قرأتها في مذكرات الرائد عبد السلام جلود التي صدرت في بيروت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لكن مواصلة قراءتي للمذكرات جعلتني أدرك أنها تحتاج لأكثر من وقفة سريعة، وهكذا قررت أن أغوص في بحرها لاستخرج بعض ما رأيت أن أشرك القراء في التمتع به والاستفادة منه والتعليق عليه.
وجلود مناضل ليبي صعب المراس يتفجر بالمشاعر القومية، عرف دائما بصراحته وعناده، وكان من أبرز صانعي سبتمبر 1969، وأصبح رقم 2 في النظام الليبي الذي نتج عن إزاحة الملك إدريس السنوسي.
وإذا صدق ما سمعناه من روايات عن إسقاط طائرة وزير الخارجية محمد الصديق بن يحي ورفاقه في 3 مايو 1982، والذي كان يقوم بوساطة لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية، فإن من أسقطوا الطائرة كانوا يستهدفون في الواقع طائرة عبد السلام جلود التي كان من نفس الطراز (غرومان) وغادرت دمشق بفارق نحو نصف ساعة عن مغادرة طائرة الوزير الجزائري، والعلم عند الله وأولي العلم.
ونظرا لطبيعة العلاقات بين الجزائر وليبيا فقد كان لعبد السلام جلود وجود دائما في كل الاتصالات بين البلدين، وكلفت شخضيا أكثر من مرة باستقباله في “حاسي مسعود”، لكن علاقتي به لم تكن تخرج عن إطار العلاقات بين مسؤول سامٍ في قطر شقيق وإطار سامٍ في الرئاسة الجزائرية، ربما لأنه كان يرى نفسه أعلى مستوًى من التعامل مع غير القيادين الساميين، أمثال عبد العزيز بو تفليقة ومحمد الصالح يحياوي.
وربما كان هذا من أسباب الصدام معه في مناسبتين أذكرهما لأنهما يرسمان، ربما بشكل كاريكاتوري، ملامح شخصية المسؤول الليبي الكبير.
كان المرة الأولى خلال زيارة للوفد الليبي إلى الجنوب الجزائري، وكنت كالعادة قد وضعت عددا من الشعارات الوطنية حملتها لافتات رفعت في الشوارع التي يجتازها الموكب الرئاسي راجلا، وكان من بينها شعار يقول : وحدة المغرب العربي طريق للوحدة العربية، وهو تجسيد لما كنا ننادي به ملتزمين بمضمن بيان الثورة الجزائرية في أول نوفمبر 1954.
وكنت بجانب جلود فسمعته يعلق مستهجنا الشعار، وردد عليه بكل أدب بأن هذا من صميم أدبيات النضال الجزائري، لكنه رفض منطقي بخشونة لم أستسغها لكنني تحملتها احتراما لالتزامات الضيافة ولمستوى الضيف نفسه، وفهمت أن الثورة الليبية كانت تعيش شعارات مشرقية، وبعيد كل البعد عن مطامح المغرب العربي، بل كانت ترى أن فكرة وحدة المغرب العربي هي مثيل لفكرة “الهلال الخصيب”، أي أنها فكرة استعمارية.
ومن هنا كان أول ما كتبته في مطلع السبعينيات التعبير عن الأمل في أن تكون ليبيا جسرا بين المشرق العربي والمغرب العربي لا أن تكون محيطا أصفر يفصل بين جناحي الوطن العربي.
ثم حدث صدام آخر بيني وبين الرائد في منطقة تسمّى “المزرعة”، بجوار طرابلس، كانت من مواقع الخطوط الخلفية للمجاهدين خلال الثورة الجزائرية التي وقف معها الشعب الليبي بكل رجولة وكرم وبدون أي خلفيات، حتى في عهد الملك إدريس السنوسي، وظلت في الذاكرة الجزائرية أسماء الشيخ محمود صبح والأخوين المشيرقي وبشير المغيربي وعشرات آخرين.
كان عليّ في المزرعة أن أعد المادة الأولية لبيان مشترك عن لقاء الرئيس هواري بو مدين والعقيد معمر القذافي، ورحت أراجع النص مع عبد السلام جلود على بعد خطوات من عبد العزيز بو تفليقة، وزير الخارجية آنذاك.
ولم يستسغ جلود تعبيرا معينا في البيان وأراد تغييره بتعبير آخر فحاولت إقناعه بأن الصياغة الأولى هي التي تتلائم مع الهدف المطلوب من البيان، لكنه انفجر في وجهي قائلا: أتريد أن تعلمني اللغة العربية.
وأنقذ بو تفليقة الموقف حيث انضم إلينا، وكنا جلوسا على الأرض، وأخذ مني نص البيان، وبعد أن استمع لرأي جلود بدأ في إملاء النص الجديد على المسؤول الليبي، وأعترف أنني لم ألاحظ فرقا كبيرا في النص الذي كان بو تفليقة يمليه ويكتبه جلود بكل رصانة وتجاوب.
وكان ذلك هو فرق تعامل جلود مع المستويات المختلفة.
وأعود لمذكرات المسؤول الليبي التي أنصح كل عروبي بقراءتها جيدا، لأنها ثروة معلوماتية تاريخية، وبغض النظر عن أن أي مذكرات تحمل حجما من الذاتية، يزيد أو ينقص حسب شخصية الكاتب، إلا أن جلود كان يتحدث بما يراه حقا وصدقا ولا يجامل في سرد الوقائع التي يتعرض لها في المذكرات، التي اقترب حجمها من 500 صفحة من القطع الكبير.
وبرغم موقفه المتنافر مع موقف العقيد القذافي فإنه كان يستعمل، عند ذكر اسمه، لقب الأخ.
ومن هنا رأيت أن أستعرض جوانب من المذكرات، وهي أقرب للذكريات، بنفس الأسلوب الذي استعرضت به كتاب بطرس غالي، أي انتزاع فقرات أنقلها حرفيا بما لا يتناقض مع سياقها وبالإشارة لرقم الصفحات، وبنفس كلمات المسؤول الليبي، الذي دخل اسمه التاريخ العربي ولم يخرج منه بفضل المذكرات.
فبعد توقف عند جوانب من طفولته يقول جلود:
كانت فترة الخمسينات والستينات فترة صعود المد القومي وظهور الفكر الثوري الاجتماعي، وكان لثورة 23 يوليو إشعاعها وتأثيرها الهائل (..) وكذلك ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي ومقاومة جبال الأوراس البطولية (ص24).
ثم ينتقل جلود إلى الحديث عن المراحل التي سبقت سبتمبر 1969 فيتناول مرحلة الدراسة الثانوية ويقول:
كان الأخ معمر يأتي لزيارتنا في طرابلس كل خميس، وكنا نقضي عطلة الأسبوع معا، (..) وفي أحد أيام الجمعة وبينا كنا نتناول طعام الغداء ارتفع أذان العصر، فتوقف معمر عن الطعام قائلا: “أريد أن أصلي”،فغضب أخي عمر وقال له “هذا ليس إسلاما، في إمكانك أن تصلي العصر إلى ما قبل المغرب، يا معمر، أنت تدعي أنك ملاك ولكن أنا خائف أن طلع لنا يوما شيطانا (ص34)
ويواصل جلود ذكرياته مستعرضا تكوين تنظيم حركة الوحدويين الأحرار قائلا إن توجههم في البداية كان نحو الجامعات المدنية، أي أن تكون الحركة مدنية، لكن “الأخ معمر” اقترح أن يتوجه أعضاء الحركة إلى الكلية العسكرية، ويقول أنه عارض هذا التوجه بإصرار وعناد شديدين (..) لكنه استسلم في النهاية لرأي الأغلبية وأصبح من طلبة الكلية العسكرية، وحمل رتبة نائب عريف، مسؤولا عن مجموعتين، كانتا مختلفتين في الطباع والاهتمامات (ص35)
كانت لوائح الكلية، كما يروي جلود، تمنع على الطلبة اقتناء مذياع، وكان هو و”الأخ معمر” لا يستطيعون العيش بدون مذياع، فقد كان لديهم مذياع يستمعون به إلى خطب جمال عبد الناصر ونداءات أحمد سعيد وبرامج جلال معوض، بينما كانت المجموعة المخالفة تملك جهاز راديو يذيع موسيقى غربية صاخبة، احتج عليها “الأخ “معمر، وقال لي “يجب مصادرة مذياعهم”، فرفضت، لا نستطيع إلا أن نطبق القانون على الجميع ونمنع استعمال المذياع للمجموعتين.
لكن “الأخ” معمر ذهب شاكيا إلى رئيس الخفر قائلا له إن “نائب العريف عبد السلام لا يسيطر على الطلبة”.
وبسبب هذه الشكوى التي تقدم بها “الأخ” معمر ضدي تلقيت عقوبة بحرماني من مغادرة الكلية طوال أربعة أسابيع متتالية وفقدت ترتيبي المتميز فأصبحت في المرتبة الثامنة (40)
ثم يأخذ جلود في استعراض مرحلة الإعداد لتفجير “الثورة”، ويقول:
قال لنا الأخ المغيربي والأخ مصطفى بن عامر إن “الرئيس جمال عبد الناصر طلب عدم القيام بأي تحرك لأنه (أي الرئيس المصري) في مواجهة اليهود، فهم أمامه والأمريكيون من خلفه، ولذا لا يريد أي استفزاز للأمريكيين”، ولكننا لم نقتنع بهذه الرواية (47)
ويواصل جلود قائلا:
في ليلة الثورة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قار يونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمر “تخاذل” في هذه اللحظة وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر (..) وفيما بعد وفي معرض تبرير هذا “التخاذل” (والأقواس في النص الأصلي للمذكرات) قال “أنا قائد الأوركسترا، وهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة وبعد ذلك تنتهي مهمتي” (ص56).
وبعد ذلك علمنا أن الأخ معمر ظل في غرفته ولم يتوجه إلى دار الإذاعة من أجل إذاعة البيان الأول، لأنه كان يريد التأكد من أن الثورة انتصرت وسيطرت سيطرة تامة (ص 60، ولست أدري لماذا تذكرت موقف أنور السادات وحكاية مشاجرة السينيما ليلة 23 يوليو 1952 وتأخره عن الإذاعة “الأولى” لبيان الثورة)