قراءة في كتاب “رحلة مع الحياة”/ محمد السالك ولد ابراهيم
انهيت للتو قراءة مذكرات الوالد الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه أطال الله بقاءه.. وهي فعلا -كما عنونها هو نفسه- “رحلة مع الحياة”.. بكل أبعادها وزواياها ومنعرجاتها المختلفة.. سطر فيها هذا الطود الشامخ الذي يمثل بالنسبة لي نموذجا مشرقا ومشرفا للمثقف الشنقيطي الناجح الذي استطاع بكل عصامية أن يحقق المثافقة العضوية بين الأصالة والمعاصرة والإنفتاح على العالم وعلى الثقافة العالمية..
وأن يقدم لنا وللعالم أكثر من 30 مؤلفا في علوم القرآن وعلوم الحديث والسيرة النبوية والفكر الإسلامي، والفقه وأصوله، إلى جانب اللغة والشعر بالعربية والحسانية والفرنسية.. قرأت مذكرات إنسان جاد ، موضوعي وصارم في تقييمه لنفسه وللآخرين لكنه أريحي وطريف.. وهي صفات حميدة أكتشفها في الأستاذ الدكتور محمد المختار منذ عدة سنوات خلال سفر مشترك، عندما أخبرني -بعد أن عرف بأني دبلوماسي – بقصة طريفة حول تصنيف طريف للجاليات الموريتانية في الخليج العربي، وقد حدثه عنه أحد سفرائنا في إحدى دول المنطقة.. ويبدو أن سعادة السفير المعني “ما فيه لعظام” حيث حدث العلامة الدكتور قائلا له “بأن جاليتنا في تلك البلاد تنقسم إلى ثلاثة أقسام أهمها فائدة وأكرمها بالنسبة للضيوف والزوار هم رعاة الإبل وسائسو الأنعام الذين يجدهم بسهولة كل زائر فيعتنون به ويحسنون ضيافته.. وبعد تلك الفئة من الجالية تأتي فئة أفراد الشرطة والطلاب في المنزلة الثانية من الأهمية والفائدة بالنسبة للضيوف والزوار.. أما الفئة الأخيرة -كما ذكر السفير للعلامة محمد المختار فهي “نحن معشر الدبلوماسيين.. حيث يصعب على الضيوف والزوار الوصول إلينا ولا يكاد يكون لنا نفع حتى لمن نجح في ملاقاتنا نظرا لأسباب عديدة يقصر المقام عن سردها…” بعدها ضحك الأستاذ الدكتور وسألني مداعبا: “هل مازال هذا التصنيف ساري المفعول؟” .. فضحكت وأجبته بأنه حسب ما فهمت من صديق لي كان مؤخرا سفيرا في ذلك البلد ، ربما يكون الدبلوماسيون قد فقدوا مزيدا من النقاط وتأخروا أكثر على سلم الدرجات.. فضحكنا معا..أعجبني كثيرا في مذكرات العلامة الدكتور محمد المختار ولد أباه تواضعه الجم وأصالته المتجذرة.. خاصة عندما يتحدث في هذا المقطع عن ذكرياته الحميمة مع جمله “الأسمر” والذي لم ينسه إياه “أداريف” الإبل الذي اشتراه بعد أن باع جمله الأول، ولا سيارة 403 الجديدة من المصنع التي اشترى في الرباط، ولا حتى الطائرة الصغيرة الي اقتناها من داكار لتسهيل تنقله بين العاصمة والحواضر القرببة منها مثل النباغية والتاكلالت..
الوالد الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه هو حقا شخصية وطنية فذة لا تتكرر .. إنه الرجل العصامي الذي أصبح أستاذ الأجيال، حيث جمع بين التبحر في اللغتين العربية والفرنسية إلى جانب حفظ القرآن وترجمة معانيه الى الفرنسية وكذا العلوم الشرعية، وإتقان قرض الشعر الفصيح ولغن والشعر بالفرنسية.. كل هذا إلى جانب قيادة الطائرات وتسيير المنظمات الدولية والإقليمية والدبلوماسية.. كان -أطال الله عمره- معلما ومربيا وأستاذا وعالما ومدبرا للمؤسسات.. نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن عليه بدوام الصحة والعافية.. وأن يبقيه ذخرا لهذه البلاد وثقافتها وقيمها وإشعاعها الحضاري والروحي .. إنه سميع مجيب..