في التجربة وشفرات الكتابة النقدية قراءة في كتاب “تداخل الأجناس”/ عبد الحفيظ بن جلولي/ عبد الحفيظ بن جلولي
27 يونيو 2022، 18:23 مساءً
الكتابة النّقدية في الأخير هي مطاف التّجربة حين تبلغ القراءة مداها. أن نقرأ كتابا معناه نعتصر تجربة الكاتب في مسار نظام أفكاره، وهذا المستوى يمنحنا فيه الناقد الدكتور تحريشي محمد، مصاحبة حميمة لأفكاره في كتابه الصّادر حديثا والمعنون “تداخل الأجناس وتراسل الفنون في الرواية”.
يحيل العنوان إلى معنى نقدي يتأسّس عند مستوى الرّواية باعتبارها نص قابل لأن يحتوي ويمزج بين الأجناس الإبداعية، ولكن ضمن تبادل الخطابات الفنّية داخل محفل الرّواية.
منذ البداية يفاجئنا بـ “الفرش”، مصطلح تراثي، وهو يقوم في الكتاب مقام المقدّمة، وهو معنى يحيل بداية إلى البساط الذي يمكن أن تستوي فوقه الأشياء، فتحضير البساط معناه ترتيب الأرضية التي من خلالها يتم فهم قصد النّاقد. واستعمال المعنى يؤكد محاولات النّاقد في توظيف المصطلح التراثي ومفاهيميته الوظيفية ضمن سياقات النقد الحداثي.
يستأنس النّاقد بمقولة الصاحب بن عبّاد: “هذه بضاعتنا ردّت إلينا..”، ليستخلص ذلك التباعد بين المغرب والمشرق العربيين في الاطلاع على إبداعات كليهما، ويلوم الكتّاب والنقاد “في هذه البلدان في عدم تسويق المنتج الإبداعي لبلدانهم وعدم التعريف بالمبدعين لديهم”، وهنا تأتي مهمّة النقد في تحليل النص وتقديمه باعتباره منتجا عقليا يقدّم الذائقة في جغرافية ما، وبالتّالي، تصبح الإبداعية الأدبية والفكرية متداولة انطلاقا من وجوب انتشار المنتج الثّقافي في العالم.
الاقتراب من الناقد يمنح الكثير من المفاتيح الأوّلية التي تساهم في فك العديد من شفرات الكتابة والرّؤية عنده، وبهذا يمكن أن نقول أنّ الاقتراب من محمد تحريشي أتاح معرفة العديد من أدواته ومفاهيمه التي يباشر بها قراءة النصوص، وأيضا سلوكه التحليلي، فهو يستعمل المواجهة المباشرة مع النص، بعيدا عن ليّ عنقه (النص) ليقايس منهجا ما، فمحمد تحريشي يقرأ النص مفصولا عن الإضافات المقولية الخارجية، ليصل في النهاية إلى مقول النص الذي لم يبح به الكاتب، إذ “تقتضي مقاربة النصوص وجود جهاز مفاهيمي للقارئ أو المتلقي يعتمد على المرجعية المعرفية والخبرة والدربة ومدارسة النصوص” كما يؤكد في الكتاب.
يتعرّض محمد تحريشي لمفهوم الثقافة ومن ثمة للمثقف باعتباره “ممارسا للثقافة” و”منتجا للثقافة”، وفكرتي الممارسة والإنتاج للثقافة تعطي الانطباع بحركة المثقف داخل المجتمع ودوره في التنوير، ومن ذلك يتأسّس النص حسب هذه الرؤية كفعل للخلخلة وخضّ الراكد بغية تحقيق الرؤية وإسنادها بالتواجد على مسرح الواقع، ومن هنا كان البحث في النصوص عن كل ما له علاقة بما يحدث وما ينبغي أن يكون.
يتعالق تناوله لرواية “الغجر يحبّون أيضا” لواسيني لعرج مع واقع المدينة “وهران”، “هذه المدينة البهية بكل شيء جميل فيها، والمدينة الضحية التي مورست عليها كل المعاصي والآثام”، فالكتابة عند هذا المستوى تتأسّس كشفية انطلاقا من نص تتواطأ فيه جماليات معيّنة وأجناس متداخلة لتمنح الإحساس بالمكان انطلاقا من حدث روائي يوقظ هوية المدينة ويبعثها من سباتها، إذ يرى أنّ هذه الرّواية “اهتمّت بالتنوّع العرقي والإثني والثقافي، على أساس أنّه مكوّن مهم في بناء هذا الإنسان الجديد..”.
العلاقة بين المكان والإنسان، أو بالأحرى بعث الإنسان عن طريق ما يبوح به المكان من عناصر التأثير في فعالية الإنسان، ومنه يتخذ هذا الأخير انبثاقات المكان كمكوّنات جذرية يوظّفها باعتبارها الطاقة التي تجسّر العلاقة بينه وبين المستقبل.
أمّا قراءته لرواية “كولونيل الزبربر” للسايح لحبيب، فيكشف زاوية معالجة الرّواية لموضوعة الثورة، إذ إنّها “تحاول أن تتخلّص من التأثير العاطفي لتكتب من واقع التّجربة ودرجة الوعي، وهي قد تضع مسافة بينها وبين الوقائع والأحداث..”، ومن هذا الجانب نستطيع أن نستبين رؤية الناقد للرّواية باعتبارها نقدية لمرحلة مهمّة في تاريخ الجزائر، إذ “العاطفية” تنمحي لصالح “العقلانية” التي تزن القضايا وفق ما يتأسّس في العقل موضوعيا، لكن يشير بعد ذلك إلى تفصيلة مهمة وهي المسافة الزّمنية بين وقوع الحدث وتكريسه أدبيا، وهو ما اصطلح عليه نقديا في مرحلة من مراحل الجزائر بالأدب الاستعجالي، أي ذاك العمل الأدبي الذي كتب إبّان الحدث أو موازيا له، أو بعيده بقليل، وهو ما لا يمنح – حسب بعض الرأي – الفرصة للأديب كي يرى الحدث مفصولا عن ذاتيةٍ تكون حاضرة وبقوّة أثناء وقوع الحدث. لكن هناك من يرى أنّ الكتابة تحمل فورة العاطفة وقوّة الحدث حينما تكون قريبة زمنيا من الواقائع في مساراتها المجتمعية. ينتهي في قراءته لهذه الرّواية بأنّ “التّاريخ سيكتب يوما لينصف كل واحد بما قدم ومنح أو أخذ أو نهب، ولم يحفظ الأمانة ولا أوصلها إلى أصحابها”.
فالتاريخ حاضر بقوّة في رواية “كولونيل الزبربر”، وفكرة الناقد حول الرّواية تبيّن أنّ التّاريخ أصبح رهينة أشكال بشرية تعتاش على الماضي وتتكسّب من الاتجار في أحداثه، ومن هذه الزّاوية يُكتب التّاريخ وتُفسّر أحداثه وفق أهواء من يحاولون أو يتأسّسون منتفعين في مسار حركة الوطن وثورته ضد ظلم المستعمر.
أمّا قراءته لرواية “لا موسيقى في الأحمدي” لمنى الشمري، وانطلاقا من العنوان، فهو يعتبر أنه “لا ينفي الموسيقى بل يؤكدها بأداة النفي”، وفعلا، يتساءل القارئ النّبيه عن إمكانية وجود الموسيقى في الأحمدي، لكن ما ترومه قراءة الناقد هو التأصيل للتداخل الإجناسي في الرّواية، فالموسيقى تعبير عن تواجد موضوعي داخل سردية الحكي، والموسيقى مكوّن تشعره الذات باعتبارات النّغم، وهو بهذا الشكل مصاحب للمعنى في الجملة والمقطع السرديين.
ينتهي محمد تحريشي في قراءته لـــ “لا موسيقى في الأحمدي” إلى إنّ الرواية تبحث دوما “عن التّناغم وسط التنافر وعن الانسجام داخل اللانتظام وتقوم الموسيقى فيما تقوم عليه، على تناغم الأصوات المتعدّدة والمتباينة”، وبالتالي، فالسّرد يبحث عن موسيقاه التي تحقّق تواجد ذلك الرّنين الحدثي في واقع الحياة، تقريبا بين الواقع والمتخيّل عبر وسيط الفن، فالجملة السردية تُقرأ وفق هذه الموسيقى المتخيّلة المصاحبة للنص في تلقيه العميق في المستويات النّفسية للقارئ.
تتحقّق رؤية الناقد تحريشي محمد باعتباره ممارسا واقعيا للنص، أي إنّ مدخله للنص هو النص ذاته، فيقرأه مؤانسة ومصاحبة ومدارسة، ومن ثمة يحفر في أنساقه الدالة على شيء ما يصل هذا النص بالواقع، ولهذا أثبت تلك الخصيصة في “تداخل الأجناس وتراسل الفنون في الرواية”، باعتبار هذه العناصر دائمة الحضور في وعيه انطلاقا من ممارسة نقدية تحتفي بالواقع في مضمرات النص، وبوجود الذات القارئة في تصوّرات الحدث وفي تجلياته السردية.