تأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط (13-16 يوليو الجاري) في توقيت شديد الدقة، تتغير فيه خرائط الإقليم، وموازين القوى في المنطقة، بل وهيكل النظام العالمي الذي استمر منذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي وحتى يومنا هذا.
لهذا السبب، ولأسباب أخرى تتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية، نشر الرئيس، جو بايدن، مقالا في “واشنطن بوست” حمل عنوان “لماذا أذهب إلى المملكة العربية السعودية”.
قرأت المقال أكثر من مرة، وفي كل مرة كان ينتابني شعور بالغربة والانفصال عن الواقع، فما يتحدث عنه السيد بايدن لا علاقة له بالواقع من قريب أو بعيد، وما يشرحه من “إنجازات” إما مبالغ فيها أو خيالية بالكامل، وأنا أتفهم بالطبع أنه يعيد المقارنة مرة تلو أخرى بإدارة سلفه ترامب، فتلمح في معظم عبارات المقال “منذ 18 شهراً”، و” خلال إدارة سلفي”، وما قامت أو لم تقم به “الإدارة السابقة”، أتفهم أنه يوجه ذلك إلى الداخل، وليس إلى الخارج، بالنظر إلى الانتخابات النصفية التي ستحل في خريف هذا العام، ولا تبدو فرص الرئيس الحالي، في الظرف الراهن، جيدة بالمرة. إلا أن قدرا من الصدق والموضوعية كان من الممكن أن يكون مفيدا في ظل اللحظة الراهنة الدقيقة والصعبة، خاصة وأن العالم، ربما لا يسمح وقت وسن الرئيس الأمريكي أن يواكب ذلك، قد أصبح قرية صغيرة، وكل القادة العرب الذين يعتزم الرئيس مقابلتهم يعرفون الوضع أكثر مما يصفه هو بكلماته الوردية المنمقة.
بل إن الهدف الرئيسي، الذي حاول بايدن أن يدسه في عسل المقال الرصين، هو كما عبر عنه “مواجهة العدوان الروسي ووضع أنفسنا في أفضل وضع يمكننا فيه التغلب على الصين، والعمل من أجل استقرار أكبر في منطقة لاحقة من العالم”. ويستطرد بايدن في أن على الولايات المتحدة الأمريكية “العمل مباشرة مع البلدان التي يمكن أن تؤثر على تلك النتائج، والتي تعد المملكة العربية السعودية واحدة منها”. ولهذا السبب، وعندما يلتقي بايدن بالقادة السعوديين، يوم الجمعة المقبل، 15 يوليو، سيكون هدفه هو “تعزيز شراكة استراتيجية تمضي قدما، وتستند إلى المصالح والمسؤوليات المشتركة، مع التمسك في الوقت نفسه بالقيم الأمريكية الأساسية”.
وبدلاً من سياسة التهديد والوعيد، والعقوبات والحصار، واسم خاشقجي الذي لم يختف من العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، والتنابز مع ترامب، الذي كان يقاول السعوديين على “ثمن” رأسه، عاد بايدن هو الآخر ليقاول المنطقة بأسرها هذه المرة، وليس السعوديين وحدهم، لا على رأس خاشقجي، وإنما على كل القضايا دفعة واحدة، من أجل شيء واحد: “مواجهة العدوان الروسي، ووضع الولايات المتحدة في أفضل وضع يمكنها فيه التغلب على الصين”. وهنا برزت جميع القضايا في سلة واحدة: “برنامج إيران النووي ودعم الجماعات التي تعمل بالوكالة، والحرب الأهلية السورية، وأزمات الأمن الغذائي التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والجماعات الإرهابية التي لا تزال تعمل في عدد من البلدان، والجمود السياسي في العراق وليبيا، ولبنان ومعايير حقوق الإنسان التي لا تزال متأخرة في كثير من دول العالم”.
اليوم، يأتي السيد بايدن، ممثلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، رسول الديمقراطية والحرية على كوكب الأرض، وشرطي العالم، ليقترحوا علينا في الشرق الأوسط، حل هذه القضايا دفعة واحدة، وليحاول السيد بايدن (79 عاما)، أن “يوضح لقادة المنطقة مدى أهمية إحراز تقدم في هذه المجالات”.
بعد أن عاثت الولايات المتحدة الأمريكية فساداً في المنطقة لعقود طويلة، واستأجرت من استأجرت، ودفعت لمن دفعت، واستولت على ما استولت، تأتي اليوم لنا بالجزرة بدلا من العصا، وتقول لنا: فلتقفوا معنا لمواجهة روسيا، وسنحل مشكلاتكم.
إلا أن المشكلة ليست هنا في واقع الأمر، المشكلة الحقيقة هي في أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وبعد أن عجزت عن حل مشكلة أفغانستان، والعراق، وليبيا، وبعد أن خلقت، باستراتيجياتها الرديئة وضعا أمنيا خطيرا في أوروبا، على حافة حرب شاملة، لن تكون قادرة على حل أي مشكلات في الشرق الأوسط، لا بسبب عدم رغبتها، مع افتراض حسن النوايا، وإنما بسبب عدم قدرتها ببساطة.
وما عجزت عنه الولايات المتحدة الأمريكية خلال سبعين عاما، لن تتمكن من إنجازه خلال أشهر كما يقول المنطق، فما يحدثنا عنه السيد بايدن بشأن “المساعدة في إنهاء الحرب في غزة”، وهو يستخدم الحرف “في” وليس “على”، ويستخدم في وصف المواطنين الفلسطينيين المحاصرين في غزة لفظ “الإرهابيين”، ويتحدث عن طرفي نزاع، وكأنهما متساويين في الإمكانيات والأسلحة والمعدات، عن جيشين مثلاً، وكأنه لا يدرك أن غزة ترزح تحت حصار لا إنساني، من البر والبحر والجو، وكأنه لا يعرف السبب في اندلاع المواجهات، وكأنه لا يعرف ما قامت به آلة القمع الإسرائيلية، وأعداد الضحايا. يحدثنا السيد بايدن عن استعادة ما يقرب من 500 مليون دولار دعما للفلسطينيين، يقصد بذلك “رشوة” لقبولهم بما يعرض عليهم، مقابل 4 مليارات دولار لـ “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط” إسرائيل، ويقول إنها “أكبر حزمة لدعم إسرائيل في التاريخ”، ثم تعرض الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بعد ذلك “حكما ووسيطا نزيها”! يحدثنا السيد بايدن عن لقاء بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني، دون أن يحدثنا عن “نتائج” هذه الاجتماعات التي تدور منذ أوسلو 1993، أي أننا سنحتفل في العام المقبل بمرور ثلاثين عاما على اتفاقية أوسلو.. وأين نقف الآن؟
كذلك تطرق بايدن إلى ما أسماه “أجواء جديدة في المنطقة” بتعبير “صديقه” ملك الأردن، الملك عبد الله، مؤكدا على أنه سيكون أول رئيس يتحرك بالطائرة مباشرة من إسرائيل إلى جدة، كرمز لتلك “الأجواء الجديدة”، التي تبشر بتطبيع مجاني، تماما كذلك الذي كانت تبشر به صفقة القرن. بكلمات أخرى تصفية القضية الفلسطينية، مرة واحدة وللأبد. إلا أن ذلك يبتعد عن جوهر الزيارة التي تأتي، ولنكن صرحاء، بسبب ما يتردد في أروقة واشنطن، وما أصبح مسموعا في أرجاء الوطن العربي، من نأي بالنفس عن أتون صراع لا ناقة للمنطقة فيه ولا جمل، على حد تعبير الأمين العام للجامعة العربية، وهو محق. بل إن هناك تيار عقلاني يبحث عن مصالح المنطقة، ويحاول أن يعبر بها من عنق تلك الحرب التي يأتي فيها ذكر أوكرانيا لماماً، بينما في واقع الأمر هي كما وصفها الرئيس الأمريكي “مواجهة العدوان الروسي ووضع أنفسنا في أفضل وضع يمكننا فيه التغلب على الصين، والعمل من أجل استقرار أكبر في منطقة لاحقة من العالم”. لا مكان لأوكرانيا في هذه الجملة، وتلك هي الحقيقة الدامغة.
يرى ذلك التيار العقلاني أن مصلحة المنطقة في علاقات متوازنة، وفي عدم الانحياز، وفي الإبقاء على المشاريع والصفقات والتعاون مع جميع الأطراف، طالما كان ذلك في مصلحة شعوب المنطقة، فالدخول في تلك الحرب الاقتصادية الشاملة كطرف من الأطراف هو ببساطة استعداء للطرف الآخر، بما يمكن أن يتبع ذلك من عواقب وخيمة.
في نفس السياق، يقول بايدن في نهاية مقاله إنه “أول رئيس يزور الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر، دون أن تكون القوات الأمريكية تشارك في مهمة قتالية هناك”، إلا أنه نسي، ربما لدواعي السن عافاه الله وأطال في عمره، أن الشرق الأوسط يضم أحد أكبر القواعد الأمريكية في العالم وأكثرها تجهيزا، بينما تؤكد معلومات الاستطلاعات العسكرية المؤكدة في بدء استخدام هذه القواعد بشكل نشط في تعزيز الحرب في أوكرانيا ومناطق أخرى في أوروبا الشرقية، بل وتشارك هذه القواعد لوجستيا على شكل أوسع بكثير من إطار الشرق الأوسط، وهو ما يضع المنطقة في خطر حقيقي جراء برامج وخطط الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة روسيا والصين، ووجود هذه القواعد بالقرب من الحدود الجنوبية للأراضي الروسية، وهو ما يهدد الأمن القومي الروسي بشكل مباشر، ويدفع نحو تعريض الشرق الأوسط بأسره للمخاطر، حال احتدام التوتر بين القوى العظمى.
ختاماً، فإن ما يدفع نحوه “الكاوبوي” الأمريكي بعد اعترافه بالقدس والجولان هو تصفية القضية الفلسطينية بـ “أوسلو” جديدة، وتنازلات جديدة من جانب الفلسطينيين والفلسطينيين وحدهم.
إن الحل الوحيد، والذي يمكن أن يجعل لهذه الزيارة هدفا حقيقيا على الأرض، وهو ما يمكن أن يبدأ بالفعل “أجواءً جديدة” في المنطقة، هو أن يعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم الجمعة المقبل، من الرياض، عن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ويعلن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لندخل بعدها في تفاصيل جميع القضايا الأخرى، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، في ظل “أجواء جديدة” لتطبيع حقيقي بين إسرائيل والدول العربية.
ما دون ذلك هو فشل للزيارة التي تهدف فقط إلى تعزيز المصالح الأمريكية على حساب المصالح العربية، وتحديدا على حساب إنشاء تحالف عربي “ناتو عربي/ سمه ما شئت” ضد إيران، وعلى حساب تصفية القضية الفلسطينية، وعلى حساب العلاقات العربية الصينية والعربية الروسية التي تشهد انتعاشا في السنوات الأخيرة.