موسكو.. كييف.. واشنطن.. وخرائط ماكيندر/ محمد جهاد إسماعيل
10 نوفمبر 2022، 16:38 مساءً
مضى أكثر من مئة عام على صياغة الجغرافي البريطاني سير هالفورد ماكيندر لنظرية قلب العالم (هارتلاند) ،ورغم هذا القِدم لا تزال النظرية تحتفظ بمكانة رفيعة في عالم الجيوبوليتيك. لقد ازداد في الآونة الأخيرة بريق الهارتلاند، وازداد اعتبارها كنظرية عصرية متجددة، والفضل في هذا كله يعود للحرب الروسية الأوكرانية.
يفترض ماكيندر في نظريته أن قلب العالم أو الهارتلاند هو اليابسة الممتدة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، أي النصف الغربي من روسيا والأجزاء الشرقية من شرق أوروبا. لم يختر ماكيندر هذه الرقعة من الأرض من فراغ، بل هو يراها أكثر أرجاء الأرض أهمية من الناحية الاستراتيجية، ويراها الأكثر تحصيناً على الإطلاق، لوقوعها في أعماق اليابسة القارية، وتمترسها خلف عدد من الموانع الطبيعية، كسلاسل الجبال، والأنهار، والبحار الداخلية، والصحاري الجليدية، والدائرة القطبية.
ثم يذهب ماكيندر في نظريته لما يلي: من يحكم شرق أوروبا يسيطر على الهارتلاند، ومن يحكم الهارتلاند يسيطر على جزيرة العالم (أوراسيا وأفريقيا)، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم.
بهذا المنطق يرى ماكيندر أن القوة المسيطرة فعلياً على العالم، هي تلك التي تسيطر على الهارتلاند. وما نشاهده الآن في الحرب الروسية الأوكرانية ما هو إلا تطبيق حي وعملي لنظرية ماكيندر، فطرفي النزاع هما في حقيقة الأمر يتنازعان على الهارتلاند، وليس على أي شيء آخر.
روسيا تعتبر الهارتلاند حق أصيل لها، فهي الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، ومعظم رقعة الهارتلاند كانت مشمولة في السابق ضمن أراضي الاتحاد السوفياتي. حتى بالنظر للخرائط الجغرافية الحديثة، نجد أن أجزاء كبيرة من الهارتلاند تقع ضمن اليابسة الروسية الحالية. وحتى الأجزاء التي تقع خارج روسيا أمرها يهم موسكو، فهي امتدادها الطبيعي وعمقها الحيوي.
واشنطن في المقابل ترى السيطرة على الهارتلاند غاية لا بد من تحقيقها، من أجل إتمام مشروعها الكولونيالي المتمثل في الاخضاع والهيمنة. فلأجل هذا الهدف أو هذه الغاية يعمل الناتو منذ عقود، وبشكل دؤوب، على التمدد شرقاً والزحف باتجاه الهارتلاند.
تقدم الناتو منذ زمن فوق رقعة الهارتلاند وأمسك بأجزاء استراتيجية منها. ليصبح نمط الصراع المستعر حول الهارتلاند ما بين (دفاع روسي) و(هجوم غربي). الناتو في حالة هجوم متواصل منذ ثلاثة عقود لأجل ابتلاع كامل الهارتلاند، والروس في حالة دفاع وتصدي للحفاظ على ما تبقى من الهارتلاند. هذه هي المعادلة التي تجري وفقها الحرب الروسية الأوكرانية الآن.
خاضت موسكو حملتها العسكرية في أوكرانيا كي تعرقل زحف الناتو وتمنعه من تطويق حدودها، ويبدو أنها مصممة هذه المرة على حماية أمنها ومناطق نفوذها، مهما كلفها ذلك من ثمن. فيما الغرب يزود كييف بمليارات الدولارات وملايين الأطنان من الأسلحة، ليس لزُرقة عينيها، ولكن لكسر روسيا واستنزاف جيشها.
ضمت موسكو مؤخراً بعض أقاليم شرق أوكرانيا وأممت بحر آزوف، في المقابل ستشهد خارطة الناتو تغيرات دراماتيكية قريبة مع انضمام بعض الدول الجديدة للحلف. يتصارع الطرفان صراع رهيب ومحموم على كسب الأرض والجغرافيا. وسيبقى هذا الصراع مشتعلاً – إلى ما بعد الحرب الحالية – طالما أن جوهره هو التزاحم على الهارتلاند.