أنا وأحمد مطر؟؟/ المرتضى محمد أشفاق
في ثمانينيات القرن الماضي شاركنا في موسم ثقافي وطني، وفي التصفيات الأولى عرضنا- أعضاء اللجنة الثقافية- عملا شعريا على والي الولاية فيه كلمة جماهير، ولما أكملنا القراءة قال لي: هذا شعركم أم شعر أحمدو ولد عبد القادر…والحق أنه ظلم الشاعر الكبير في نسبة تلك الكلمات التافهة إليه، عذر الوالي بيِّن لكنه غير وجيه، فقد ظن أن كلمة جماهير حكر على الشاعر أحمدو ولد عبد القادر لورودها في قصيدته: في الجماهير تكمن المعجزات..في بداية الألفين قرأت في ندوة نصا بسيطا تحت عنوان:(سياستي ليس لها أب..)، ولما أكملته قال لي أحد الشعراء: عجيب ما أشبه هذا بشعر أحمد مطر، فارتبكت لأني لم أسمع قبل ذلك اليوم بأحمد مطر، فإن أنا أنكرت علمي به تكن ثغرة ثقافية لا تغتفر، أو عقدة من المحاكاة، فآويت إلى ركن من الصمت مكين…نص سياستي ليس لها أبولا أمولا لها نسبْنص قديم، ينتمي إلى شكل في الكتابة أحببته لبساطته وبعده عن التكلف والتعقيد، لا أجري فيه وراء الألفاظ المنتقاة قاموسيا كما يفعل أباطرة الشعر العظيم، ولا أتأنق فيه باللجوء إلى البيان والبديع وأساليب البلاغة المعروفة كما يفعل الماهرون في الصنعة الشعرية…رأيته أقرب إلى نفسي لعفويته، ولتناسبه مع حجمي المعرفي، وقامتي الشعرية…أركب له غالبا أحد البحور الأحادية التفعلة، وأختار أحيانا أوطأها، وآمنها ظهرا، وأبعدها من (التنكاس) ولا غرابة في ذلك فنحن شببنا على (لز) الحمير وترويضها.. كثر التعليق على بعض هذه النصوص بشبهها بنصوص أحمد مطر، والمعلقون حفظهم الله جميعا، لا شك أنهم يدفعون قامتي الأدبية إلى أعلى، ويهبونني مقاما لست له أهلا، وهو كرم وعطف مشكوران، الآن وقد بلغت من العمر عتيا أقول إني ما قرأت لأحمد مطرا أبدا…لكني مستعد لإقامة حد الغباء المعرفي عليّ..أعرف أن عزف الحروف داخل حركتها الإقاعية متشابه إذا اتحد البحر والقافية، فأنا ما قرأت أبياتا من نظم لامية الأفعال إلا جمح بي الإيقاع والرنين المجلجل إلى بسيطيات أبي تمام، وهي قمة في البديع وجمال الصنعة الشعرية، واللامية نظم وضع لحفظ القواعد، بعيد كل البعد من الغاية الجمالية والانتقائية اللفظية…أما الأشكال التي أكتب فهي لغرض التوجيه والنقد الاجتماعي، وهي نظير المقالة الاجتماعية، لكن بلغة أكثر كثافة وانسيابية وعفوية، بعيدة عن التشفير والغموض،وفيها آخذ نفسي بشيء من القسوة، والشدة في الالتزام بوحدة الروي، وتقارب فواصله، ظلت في أغلب الأوقات رحيما بالتفعلة فلم أشتت شملها بين السطور، انسجاما مع نزعة ماضوية لم أبرأ منها، لأنني أخشي أن أنسى أنني مقيد بنظام ما…لا أومن أن الشعر الحر تحرر من خصائص الشعر وشروطه الأساسية، الإيقاع والنغم، الوزن والقافية، وأعتبر أن الفتح الشعري الكبير كان في نظام السطر الشعري…
مرة كتبت في مقال عبارة (حجاب المعاصرة) فقال لي بعض الإخوة أنت متأثر بالمسعدي أو محمد مندور، مركزا على عبارة قصيرة وردت في سفر من الهذيان والاسترسال فقد صاحبه وقتا ما دهان الفراميل، لا يدرون أن العبارة من القاموس الصوفي القديم، وكانت تعني أن أهل(الشيخ الصوفي) هم أقل الناس استفادة منه لانشغالهم بجانبه المادي عن جانبه الروحي، فهو بشر يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويمشي في الأسواق.. فسموها: الملازمة حجاب، أو المساكنة حجاب…وليس الشاعر اليوم بنجوة من تهمة التأثر حد السرقة على نزار قباني إن هو ذكر كلمة (حبيبتي) في نصه، لشحن الذاكرة بشعر الرجل ولصوقه بأذهان العامة…جريمة أخرى أعترف بها، أني أميز بين درويش الشاعر ودرويش الثائر، لا يعجبني بعض ما يستحسنه الناس من شعر محمود درويش، وأراه أقرب إلى الخطبة الثورية، ولأني أومن بانفصال النص عن صاحبه، أحاول أن أنشغل بالكلمات عن المتكلم فأتحرر من سطوة التأثير بالعامل الخارج عن النص…وأعرض أحيانا عن مواصلة قراءة بعض قصائد نزار قباني حين أحس فيها انطفاء الوهج الشعري مع التزامها بقوانين الشعر العمودي…ثالثة الجرائم أني لم أنشأ في مضارب بني أسد أوتغلب ولم أبن قبابي في ديار عبس وذبيان، فلم أتعلم الشعر سليقة وطبعا، لأني أتكلم في بيتي لغة غير لغة امرئ القيس وعنترة، وكنت إذا حاولت صناعة بيت أحضر حقيبة التشريح من مقص وموسى ومنجرة، ومسامير، وآخذ بأصابع يد البيت اليمنى وأضغط عليها حتى تصيح آلمتني يا رجل، فأقول لا بد من التأكد من أن طول ظفر سبابتك اليسرى مساو لطول ظفر سبابتك اليمنى، وأحسب شعر العنفقة للتأكد من عدالة التوزيع في جانبي الشفة السفلى، ثم أنزل إلى محارتيْ ركبتيْ الصدر والعجز لأعرف دقة التشابه والتساوي بين شعاع دائرة يمناهما بيسراهما…لم أحفظ المعلقات، ولا ديوان ذي الرمة، ولا أبي تمام، ولا ابن الطلبه، فتختزن ذاكرتي قوالب جاهزة لطبخ الكلمات وإسالتها في نماذج تلك القوالب ليأخذ بعضها شكل: قفا نبك، وبعضها شكل: السيف أصدق أنباء من الكتب…فأدعي أني شاعر مطبوع أقول الشعر دون الحاجة إلى فحص وزنه…أعلم أن بعضنا يدعي ذلك…نعم يزعم بعضنا أنه يحلم بالشعر، ويسوم بيض الدجاج بالشعر، و(يهدرز) إذا أصابته الحمى بالشعر، ويهذي إذا طلعت له الحموضة بالشعر، ويعطس شعرا، وينكر دَيْنه شعرا، وإذا أدخل الطعام على الطعام و(رُبط رأس معدته)، عوت أمعاؤه شعرا، وإن قصد الطبيب قاء على بذلة الطبيب شعرا…نعم فينا من لباسه شعر، وسيارته شعر، ومسكنه شعر، وغذي بالشعر…أما أنا فمؤمن أن مدينة الشعر حصان من أكف الواهمين، وأن من حاول فك طلاسمها، من حاول شم مباخرها، من حاول لمس حواجبها أو حاول ذوق عناقيدها مطرود..مطرود..مطرود…