قيس سعيّد إذ يخسر الرهان على قاعدته الشعبية /عبدالوهاب بدرخان
في الداخل كما في الخارج، يتبادل الرئيس التونسي وأنصاره وخصومه وأنصارهم تأثيم بعضهم بعضاً في ما وصلت إليه البلاد من تراجع وضياع. يتحدث الخصوم عن إساءات الرئيس إلى الديموقراطية والدستور اللذين يعتبرون أنهما ثمرة “ثورة 2011” على استبداد النظام السابق. ويقول الرئيس إن الفوضى والفساد ومخاطر الحرب الأهلية حتّمت عليه أن يتّخذ إجراءاته الاستثنائية من إقالة الحكومة إلى تجميد البرلمان ثم حلّه، ومن إدارة الدولة بالمراسيم الرئاسية إلى نسف دستور 2014 والدعوة إلى انتخابات تشريعية للحصول على برلمان صُوَري بلا صلاحيات، ليكون على مثال حكومته التي لم يستطع إقناع أي شخصية مؤهلة بترؤسها بسبب غموض مراميه ولم يتمكّن من تشكيلها إلا بعد محاولات طويلة وبشقّ الأنفس. لكنها لم تُحدث فارقاً، سواء لأن قرارات الرئيس لم تسعفها، أم لأن الأزمة الاقتصادية والمالية أكبر منها.
عندما جلس قيس سعيّد أمام كاميرات التلفزيون ليعلن قراراته مساء الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 2021، كان محاطاً بالقيادات العسكرية والأمنية، وتلك كانت رسالته الأولى إلى الشعب: أي أنه ليس وحيداً ولا متفرّداً بل جاءت إجراءاته بعد استشارة مَن ظهروا معه وفتوى دستورية بلورها شخصياً بتحميل إحدى المواد أكثر مما تحتمل. كان واضحاً في تلك اللحظة أنه لم يبدأ طريقاً ليقطع نصفها بل ليمضي إلى النهاية، ففي ذلك اليوم بلغ غليان الشارع أقصى التوتّر والانقسام. الأكثر وضوحاً الآن أن ما بناه سعيّد لا تكفي ولاية واحدة لتأكيده وحصد نتائجه، بل إنه يمهّد لولاية ثانية تبقيه رئيساً حتى 2029، ما لم تتغيّر الظروف. صحيح أن قاعدته الشعبية أيّدت إجراءاته، غير أنها أضاعت البوصلة لاحقاً ولم تعد تعرف ما ينويه أو يعتزمه. وإذا كان دعم الأجهزة لم يخذله بعد فإن التوجّس الشعبي منها يتنامى، مع استعادتها بعضاً من ممارساتها أيام الراحل زين العابدين بن علي.
مع نسبة 8,8 في المئة للمشاركة في التصويت من 9,2 ملايين ناخب مسجّل ومؤهل، يصعب على الداخل كما الخارج قبول البرلمان الجديد على أنه ممثّل للشعب ومتمتّع بشرعيته، عدا أنه مكشوف قبل “انتخابه” بأنه بلا صلاحيات وبلا أي وظيفة في النظام الرئاسي الوليد من رحم دستور لم يستجب للاستفتاء عليه سوى 30 في المئة توزّعوا بين اللا والنعم، ولم يشارك في الاستشارة الإلكترونية التي سبقته سوى 5 في المئة.
ومن شأن الرئيس سعيّد أن يسائل نفسه لماذا هذه النّسب الهزيلة، وأين اختفى المليونان وسبعمئة ألف صوت التي أوصلته إلى قصر قرطاج بنسبة قياسية (72 في المئة). والأهم: هل يمكنه أن يواصل خططه، وما الذي يستطيع تحقيقه مع برلمان كهذا؟
لم يعد الكلام عن تآكل شعبيته مجرد تقديرات متعجّلة من خصومه، بل رسالة قاسية أطلقتها مقاطعة صناديق الاقتراع. كان تحدّيه للأحزاب، والهزّة التي أحدثها لـ”حركة النهضة” تحديداً، موضع ترحيب واستحسان في كثير من الأوساط، فما حصل في 25.07.2021 كان بمثابة “ثورة” على تلك الحركة الإسلامية/ الإخوانية التي يحمّلها المجتمع التونسي المسؤولية الكبرى عن عدم استقرار الحكم طوال عقد كامل واستدراج النظام إلى الوقوع في يده، وعن تراجع الاقتصاد واندفاعه إلى مسار انهياري محتمل. لا بد أن الرئيس سعيّد راهن على هذه الانتخابات، الرابعة في تونس منذ 2011، ليثبت صواب العودة إلى النظام الرئاسي، لكن بالمواصفات التي صاغها شخصياً، مُعفياً الرئيس من أي ضوابط مؤسسية أو قانونية، وليثبت في المقابل خطأ اعتماد النظام البرلماني وفقاً لدستور 2014 المنبثق من “توافق الشيخين” (الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي) ومن حوار واكبته الأحزاب وقادته “الرباعية” المدنية (الاتحاد التونسي العام للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، رابطة حقوق الإنسان، ونقابة المحامين) التي اجترحت ما سُمّي “النموذج التونسي”، ولأنها جنّبت البلاد انقساماً خطيراً فقد كوفئت بجائزة نوبل للسلام. لكن رهان الرئيس نجح تقنياً وسقط شعبياً، أسقطته قاعدته الشعبية أولاً والأحزاب المقاطعة التي برهنت، أو تعتقد أنها برهنت، أن الجسم الناخب لا يزال يتأثر بتوجّهاتها، لكنها لمست أن التونسيين قاطعوا احتجاجاتها وتظاهراتها ضد الرئيس قبل أن يقاطعوا الاقتراع بنسبة 91,2 في المئة، وبذلك أظهر الشعب يأسه ونقمته على فشل السياسة والديموقراطية والأحزاب والحكومات والرؤساء، وبات همّه منصباً على لقمة عيشه ومستقبل أولاده.
كان الرئيس سعيّد قد قدّم إجراءاته الاستثنائية على أنها “إصلاحات” للوضع السياسي ولأخلاقيته، وإذا بالإصلاحات الملحّة المطلوبة تتعلّق بالوضع الاقتصادي والمالي، وفي هذا المجال لا يمكن اللعب في المنطقة الرمادية. بات معروفاً أن الحصول على قرض صندوق النقد الدولي (1,9 مليار دولار لمدة أربع سنوات) مرتبط بالإصلاحات. كان الصندوق قد برمج اجتماعاً لمجلس إدارته في 19 كانون الأول (ديسمبر) للتأكد من أن شروط القرض استوفيت، لكنه أرجأه إلى السنة المقبلة، طالباً “مزيداً من التزام الإصلاحات”، فحكومة نجلاء بودن لم تفرغ بعد من تجهيز موازنة 2023، أو الأرجح أنها أنجزتها لكن طُلب منها تأجيل إعلانها إلى ما بعد الانتخابات، إذ إن أرقامها تعكس مطالب الصندوق الدولي، بما فيها من إجراءات تقشّفية وزيادة ضرائب، ومن خفض لدعم للمواد الغذائية والطاقة، ومن “إصلاح الشركات العامة” وما يعنيه من استغناء عن أعداد كبيرة من الموظّفين. ولو كشفت الحكومة عن ميزانيتها لكانت قد منحت زخماً إضافياً لحملة الأحزاب والاتحاد العام الشغل ضد الانتخابات وضد الرئيس، لكنها مضطرّة لاستجابة شروط الصندوق ولا خيارات أخرى لديها، ولتمرير تلك الشروط كان لا بدّ من برلمان مدجّن.
أن يقرّر الاتحاد الأوروبي عدم إرسال بعثة لمراقبة الانتخابات التونسية، فهذا يعني أنه قدّر مسبقاً أنه ليس بصدد اقتراع ذي معنى. وأن تبدي الجهات المانحة قلقاً من توتّر العلاقة بين السلطة والهيئات السياسية والاجتماعية، فهذا يعني أن القسط الأول من القرض الدولي، الموعود لما بعد الانتخابات، قد يتأخّر أو يتعرقل. لكن الرسالة الأولى لمقاطعة الاقتراع تفيد بأن تونس مقبلة على انفجار اجتماعي، سواء نفّذت الحكومة شروط صندوق النقد الدولي أم لم تلبّها، فالأزمة الاقتصادية ستتفاقم، وفي أحوال كهذه تميل الجهات الدولية إلى تجنيب الدولة مخاطر الانهيار. أما في الداخل فكان ممكناً أن تكون دعوات الأحزاب أكثر صدقية (تنحّي قيس سعيّد وانتخابات رئاسية ومرحلة انتقالية جديدة) لو أن هذه الأحزاب برهنت أنها أجرت مراجعة لسلوكها السابق وما أدّى إليه من تعقيد لمختلف الأزمات في تونس.
المصدر صفحة الكاتب على الفيسبوك