هم أهل الفصاحة/ المرتضى محمد أشفاق
هم أهل الفصاحة، والبلاغة، والعقل الراجح، والطباع الهادئة…جل كلامهم حكم، وأمثال..اتخذهم أهل هذه الديار حجة، وتعاطوا مع ما تحمله عباراتهم المختصرة من بلاغة، وطرافة، وروعة استنتاج..فكلما أراد الناس هنا تقوية رأي، أو توضيح فكرة، أو استملاح قولة أو موقف، أو مهارة في حسن تخلص، قالوا لم نر في مثل هذا أبلغ، ولا أنفع، ولا أفحم مما قال: أولاد ديمان، أو إداب لحسن، أو أولاد دمان…ثم يروي الرواة جملة قد تكون مثلا، أو استنتاجا في صيغة مختصرة جدا، قمة في البلاغة، والاكتناز، تختزل سفرا من الكلام…لكن الرواة، والمتحدثين يبالغون أحيانا في النسبة، فلا يجدون عبارة تجمع إلى الطرافة والبلاغة، جودة السبك، وحسن الاستدلال إلا نسبوها إما إلى أولاد دمان، وإما إلى أولاد ديمان، وإما إلى إداب لحسن…ويحضرني هنا (كاف) الكور ولد أداع الذي رد به على السيد الدده محمد الأمين السالك عندما سمعه ينسب (كافا) له للشيخ ولد مكي:اعطَيْت اغنايَ دون لَفْتَللشيخ، أشلُ بيهماهُو فاصل فيه وِنْتَماهو لك تعطيهْ.وقد يظلمونهم فينسبون إليهم ركيك العبارة، وساقط المضمون، ويحرفون بعض كلامهم عن مواضعه..وقد تضعف الراواية فينسب كلام أولئك إلى هؤلاء…أما من خبر لغة القوم، وطباعهم فلا(يتغابى ما لهم مع ما ليس لهم)،فللقوم قاموسهم التعبيري الخاص، ومفرداتهم البلاغية، وميسم أسلوبي لا يعدوهم إلى غيرهم..وبه تعرف صحة نسب المنسوب إليهم..ورغم ما صرنا إليه اليوم من التداخل، والتثاقف، والاستظلال بسقف مدرسة واحدة، وإلغاء الحدود، والعيش المشترك في المدينة، والحي، فإن ذلك التمايز في اللغة، والأسلوب، والطباع ما زال قائما…روى لنا صديق مرة حكاية، ختمها بما يشبه القول المأثور، بعبارة مقبولة الصنعة، حسنة المحتوى، وليجيزه، نسبه إلى إداب لحسن، فقال بعض الحضور، ما أبلغ هذا، وما أقربه، وردد بعضهم جملة صاحبنا في انبهار…فبادر صاحبنا قائلا: (ذاك المثل آن هو لي كايلو ظرك، ما أنزل الله به من سلطان)، فرد عليه أسرع القوم إلى الانبهار بما قال: (ظاهره اعليه يوضعك، ذمالو ركيك، ولاه كيف اكلام الناس لتنفع)…مثل هذا يقع في النسبة إلى بعض العلماء، وتقويلهم ما لم يقولوا، ففي باب الطرافة، وحضور البديهة، نسمع حكايات، ومواقف للشيخين، حمدن ولد التاه حفظه الله، ومحمد سالم ولد عدود رحمه الله، فكلما وقفنا على حكاية أدبية جميلة، أو رد فقهي، أو علمي سريع وطريف، شردنا مباشرة إلى أحد الشيخين، وألصقناه به، فنعطيه ما ليس له، وقد ننسب مقالة، أو موقف أحدهما إلى الآخر…هو شرود العادة، والإلحاق بالتعود…بعض العلماء يتحرى الطرافة، ويستدعيها، نظرا لجفاف بعض النصوص، وحاجة الطلبة إلى الترفيه العابر، يأخذون منه جرعة تطريب لمواصلة الدروس، من ذلك استطراد المرابط محمد سالم ولد عدود أمام طلبته، أن إنجليزية تُدرس في مصر تستثقل نطق حرف العين، وتقول للطلبة عينكم هذه تقتلني، فيجيبها أحمد أمين وهو مفكر إسلامي كبير قائلا: ونحن كذلك، (أي نحن كذلك تقتلنا عينك)، ويواصل الدرس دون أن ينتبه البعض إلى أن الشيخ استظرف غزل أحمد أمين، بل قد يشرد البعض إلى موسوعته، فجر الإسلام، وضحى الإسلام…إلخ هذا ينسحب إلى قراءتنا للنصوص، وآرائنا النقدية، فنحن لا نقرأ المكتوب، إنما نقرأ الكاتب، ولا نحكم على النص، وإنما نحكم على صاحب النص…